أجرت تركيا الانتخابات الرئاسية والبرلمانية متزامنة في 14 مايو/أيار 2023، في ثاني جولة انتخابية منذ انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي. وبالرغم من التكهنات المتتالية طوال السنوات الثلاث الماضية بذهاب البلاد إلى انتخابات مبكرة، فقد جرت الانتخابات في موعدها، بعد 5 سنوات كاملة على الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة في 2018. وكانت هذه بالتأكيد أكثر الجولات الانتخابية ترقبا منذ عقود طويلة، ليس فقط لمستوى الاستقطاب الذي سبقها في الرأي العام التركي، ولكن أيضا لدلالاتها السياسية الداخلية والخارجية، خاصة إن كان الشعب التركي سيقرر المضي في الطريق الذي شقّه حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان منذ عقدين، أو سيختار الانعطاف عن هذا الطريق وإعطاء الطبقة الحاكمة القديمة فرصة أخرى للعودة إلى الحكم.
سبقت يوم الاقتراع حملة انتخابية قصيرة نسبيّا، نظرا لانشغال البلاد بالتعامل مع عواقب زلزال فبراير/شباط الماضي 2023، الذي أصاب منطقة واسعة وملايين من سكان الجنوب التركي. ولكن، ما إن انطلقت الحملة الانتخابية حتى شهدت الساحة السياسية التركية تبادلا حادّا وغير مسبوق للاتهامات بين مرشحي الرئاسة والكتل الحزبية المتنافسة. كما أطلق المتنافسون وعودا سخية لكافة الكتل الاجتماعية، ووعودا أخرى بتطبيق سياسات واتخاذ إجراءات لم تتسم دائما بالواقعية والقابلية للتنفيذ.
ربما لم تجذب انتخابات تركية اهتماما إقليميّا ودوليّا كما فعلت هذه الانتخابات. قادة الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية جميعا تقريبا دعوا الشعب التركي إلى دعم الرئيس أردوغان، وكذلك فعلت شخصيات عامة في الجوار العربي، لكن عددا بارزا من بين أهم وسائل الإعلام الغربية المطبوعة، سواء في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، اتخذت موقفا مناهضا لأردوغان، وشجعت على هزيمته أو أعربت عن أملها في ذلك. خلال الأيام القليلة السابقة على يوم الاقتراع، بدا كأن هذه الانتخابات لم تعد شأنا تركيّا فحسب، بل شأنا يتصل بمستقبل المحيط المشرقي برمته، كما دول البلقان والقوقاز.
اصطفافات المتنافسين
خاض الانتخابات الرئاسية 4 مرشحين: الأول: كان الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يقود حزب العدالة والتنمية والبلاد، رئيسا للحكومة ومن ثم رئيسا للجمهورية، منذ عام 2003. الثاني: كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، وزعيم المعارضة منذ أكثر من عقد. الثالث: محرم إنجه، القيادي السابق في حزب الشعب الجمهوري ومرشحه لرئاسة الجمهورية في 2018، وقد خاض الانتخابات هذه المرة مرشحا عن حزب البلد الذي أسسه بعد انشقاقه عن حزب الشعب قبل سنوات قليلة. والرابع: سنان أوغان، مرشح تحالف أحزاب قومية راديكالية صغيرة، باسم تحالف الأجداد.
أطلقت مواقع المعارضة الإعلامية حملة هائلة ضد “محرم إنجه” منذ أن أعلن ترشحه للانتخابات، للاعتقاد بأن أصواته ستأتي من أصوات حزبَي المعارضة الرئيسيين، الحزب الجمهوري والحزب الجيد. وقبل أيام قليلة من يوم الانتخابات، ظهرت على مواقع الاتصال الاجتماعي المقربة من المعارضة صور ذات طبيعة جنسية، تجمع محرم إنجه بفتاة غير معروفة، وكان واضحا أن محاولة أخيرة بدأت لتحطيم سمعة الرجل وإجباره على الانسحاب من المنافسة. وعلى الرغم من أن معظم مَن اطّلع على الصور توصل إلى أنها صور مزيفة، وأن النائب العام فتح قضية لملاحقة من أطلقوا الصور وتداولوها، فإن إنجه، الذي بدا مثقلا بعبء المواجهة، أعلن بالفعل انسحابه قبل أيام فقط من يوم الاقتراع. جاء انسحاب إنجه متأخرا، ولم يكن ممكنا إلغاء اسمه من على ورقة التصويت، ولكن الانتخابات الرئاسية أصبحت فعليّا سباقا بين ثلاثة مرشحين وليس أربعة.
المفاجأة الثانية في ساحة الانتخابات الرئاسية جاءت من لقاء مفاجئ عقده كمال كليجدار أوغلو مع قادة حزب الشعوب الديمقراطي، القومي الكردي، انتهى بقرار حزب الشعوب عدم التقدم بمرشح في الانتخابات الرئاسية، والإعلان عن دعم كليجدار أوغلو. وكان مرشح حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات 2018 الرئاسية حصل على 8.5% من الأصوات، وهي نسبة ملموسة ومرجِّحة. وليس ثمة شك أن مثل هذه الكتلة من الأصوات كانت هي ما دفع كليجدار أوغلو إلى المغامرة بالظهور بمظهر المتحالف مع حزب كردي قومي انشقاقي.
كان أردوغان وكليجدار أوغلو طرفي الصراع الانتخابي الرئاسي الرئيسيين نظرا لحجم الحشد الحزبي الكبير خلف كل منهما، ولكن هذا لا يعني أن سنان أوغان كان بلا تأثير، فمن البداية أصبح واضحا أن حجم الأصوات التي سيحصل عليها أوغان سيحدد ما إن كان من الممكن حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، أو أن الحسم سيتأخر إلى جولة ثانية في 28 مايو/أيار، نظرا لأن القانون الانتخابي التركي يشترط للمرشح الفائز الحصول على ما يزيد عن 50% من الأصوات.
أما الانتخابات البرلمانية فكانت أكثر تعقيدا، وإن كانت لا تتطلب سوى جولة واحدة من الاقتراع، مهما كانت طبيعة خارطة الفائزين. اجتمعت الأحزاب التركية المتنافسة في الانتخابات البرلمانية في تحالفين رئيسيين، وتحالفين آخرين أقل أهمية ووزنا.
التحالف الأول هو تحالف الجمهور، وضم حزب العدالة والتنمية، الذي يحكم البلاد منذ 2002، وحزب الحركة القومية، قومي التوجه، وحزب الرفاه الجديد، إسلامي التوجه، وحزب هدى بار، الكردي الإسلامي، وحزب الوحدة الكبرى، القومي المحافظ، وحزب اليسار الديمقراطي، الذي يُحسب على يسار الوسط. بخلاف العدالة والتنمية والحركة القومية، تعتبر أحزاب تحالف الجمهور الأخرى أحزابا صغيرة، ولم يُتوقع لأي منها الحصول على نسبة ملموسة من الأصوات، ولكن وجودها منح التحالف صورة الإطار السياسي المنوعاتي الجامع، وعزز فرص مرشحيه في مناطق محددة تمتع فيها واحد من هذه الأحزاب بنفوذ مميز.
التحالف الثاني هو تحالف الأمة، الذي ضم الكتلة المعارضة الأكبر، بما في ذلك حزب الشعب الجمهوري، الكمالي العلماني الذي قاد الجمهورية منفردا طوال ربع قرن، والحزب الجيد، قومي التوجه المنشق عن الحركة القومية، وكلاهما من الأحزاب ذات الثقل، إضافة إلى أحزاب السعادة، والمستقبل، والديمقراطية والتقدم، والحزب الديمقراطي، وتُحسب جميعا على الجناح المحافظ أو الإسلامي للسياسة التركية، لكن هذه الأحزاب الأربعة تعتبر أحزابا صغيرة، إلى حدِّ أنه لم يُتوقع لأي منها الحصول على 1% من الأصوات. والمؤكد أن الدافع إلى تشكيل تحالف الأمة لم يكن بالضرورة الانتخابات البرلمانية، نظرا لأن حزبي الشعب والجيد، اللذين يشكِّلان مركز ثقل التحالف، لم يكونا بحاجة ماسَّة إلى دعم من قوى أخرى. الدافع خلف هذا التحالف كان الانتخابات الرئاسية، نظرا لأن أحزاب المعارضة كانت تدرك أن مرشحا عن أي من أحزاب المعارضة لم يكن بإمكانه إيقاع الهزيمة بأردوغان، وأن الفوز في الانتخابات الرئاسية يتطلب حشدا واسع النطاق، ومن أطياف سياسية متعددة، خلف المرشح المعارض.
أما التحالف الثالث فيدعى الجهد والحرية، ويقوده حزب الشعوب الديمقراطي الكردي القومي، المتهم بكونه الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيّا لدى الدولة التركية. لكن، لأن الشعوب الديمقراطي يواجه قضية لحله في المحكمة الدستورية العليا لم تُحسم بعد، قرر -تحوطا- خوض الانتخابات في هذا التحالف باسم حزب اليسار الأخضر، إلى جانب عدد من أحزاب اليسار غير ذات الوزن.
التحالف الرابع هو تحالف الأجداد، ويضم عدة أحزاب قومية راديكالية صغيرة، بما في ذلك حزب النصر، عنصري التوجه، وهو التحالف الذي يقف خلف المرشح الرئاسي، سنان أوغان. وأخيرا يأتي التحالف الخامس، وهو اتحاد القوى الاشتراكية، الذي يضم حزب الحركة الشيوعية ومنظمات ماركسية هامشية أخرى.
لم تخض الكيانات الانتخابية الائتلافية الانتخابات دائما ضمن قوائم واحدة، ففي حالة تحالف الجمهور، قرر حزب الحركة القومية خوض الانتخابات بصورة منفردة، وكذلك كان خيار الحزب الجيد في حالة تحالف الأمة.
نتائج انتخابية مفاجئة
فاجأت النتائج كافة الأطراف المهتمة بالانتخابات، سواء تركيّا أو إقليميّا أو دوليّا. خلال الأسابيع القليلة السابقة من يوم الانتخابات، وُلِد إجماع في الأوساط السياسية التركية، حتى في دوائر العدالة والتنمية، أن تحالف الجمهور، الذي يقوده العدالة والتنمية، سيخسر أغلبيته في البرلمان لصالح تحالف الأمة المعارض وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي معا، ولكن ما أسفرت عنه الانتخابات كان عودة تحالف الجمهور إلى البرلمان متمتعا بأغلبية مريحة، بحوالي 322 مقعدا من مقاعد البرلمان الـ600. صحيح أن نصيب العدالة والتنمية من الأصوات تراجع قليلا عن نصيبه في 2018، ولكن حزب الحركة القومية لم يرفع حصته من الأصوات والمقاعد وحسب، ولكنه تفوق أيضا على الحزب الجيد، المنشق عنه، والذي كان يسعى إلى أن يصبح الحزب القومي الرئيسي في البلاد، وأن تصبح زعيمته، ميرال أكشنار، رئيسة الحكومة المقبلة إن فازت المعارضة في الانتخابات واستطاعت العودة بالبلاد إلى النظام البرلماني.
ولأن النظام الانتخابي التركي يشترط حصول أي حزب يخوض الانتخابات باسمه، أو أي تحالف انتخابي، على 7% من الأصوات ليُسمح له بدخول البرلمان، فإن أصوات الأحزاب والائتلافات الصغيرة التي فشلت في تجاوز الحافة الانتخابية يجري توزيعها في كل دائرة انتخابية على الأحزاب والائتلافات التي نجحت في تجاوز الحافة الانتخابية بنسب تتفق وما حققته من أصوات الناخبين. هذا النظام هو ما وفر لتحالف الجمهور فرصة العودة إلى البرلمان بأغلبية مريحة.
إضافة إلى ذلك، نجح حزبان صغيران متحالفان مع العدالة والتنمية في تحالف الجمهور في دخول البرلمان للمرة الأول، إذ حصل حزب الرفاه الجديد، إسلامي التوجه، على 5 مقاعد، كما حصل حزب هدى بار الكردي الإسلامي على 3 مقاعد على الأقل. وليس ثمة شك في أن دخول هدى بار البرلمان يحمل معه دلالة رمزية بارزة، نظرا إلى أنه سيرفع راية الأكراد الإسلاميين، ويكشف عن التنوع البالغ في الصوت الكردي، وأنه ليس كافة الأكراد الأتراك هم من دعاة الانشقاق والمناهضين للدولة التركية. أما حزب الرفاه الجديد، فإن فوزه المستحق يرشحه لوراثة حزب السعادة الإسلامي بالكامل، بعد أن اختار الأخير الانخراط في تحالف الأمة ودخول البرلمان، ليس بأصواته، بل بأصوات حزب الشعب الجمهوري.
من جهة أخرى، زادت أصوات حزب الشعب الجمهوري قليلا عن حصته في 2018، ولكنها لم تتجاوز نسبة الـ25% من الأصوات، إلا بصورة طفيفة. ولكن الأسوأ أن مقاعد حزب الشعب البرلمانية تراجعت عن 163 التي حققها في انتخابات 2018 نظرا إلى أن الصفقة التي وقَّعها كليجدار أوغلو مع أحزاب تحالف الأمة الصغيرة المحافظة منحت هذه الأحزاب ما مجموعه 34 مقعدا في البرلمان. بمعنى أن هذه الأحزاب حصلت على هذه المقاعد البرلمانية بعد أن ترشحت على قوائم حزب الشعب، مقابل دعم كليجدار أوغلو وتوفير غطاء إسلامي ومحافظ له في الانتخابات الرئاسية.
بالمثل، تراجعت حصة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي خاض الانتخابات باسم اليسار الأخضر، عن حصته من الأصوات في انتخابات 2018، محققا أقل من 10% من الأصوات. كما تراجعت حصة الحزب الجيد إلى حوالي 9% من الأصوات، أي أقل بثلاث أو أربع نقاط بالمئة عما كانت تتوقع استطلاعات الرأي قبل أزمة خلاف تحالف الستة على المرشح الرئاسي.
في غضون ذلك، فشلت كافة التحالفات والأحزاب القومية الراديكالية واليسارية الماركسية الأخرى كلية في دخول البرلمان، سوى تلك التي ترشحت ضمن التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، أو على قوائمه. كما فشل حزب البلد كذلك في تجاوز الحافة الانتخابية.
أما في الانتخابات الرئاسية فقد جاءت النتائج هي الأخرى لتكشف عجز استطلاعات الرأي من مختلف الاتجاهات عن توقع ما ستنتهي إليه المواجهة بين المرشحين الثلاثة. حقق سنان أوغان، القومي-العنصري، 5% من الأصوات، ليس لأن ثمة توجها قوميّا عنصريّا لدى كافة هؤلاء الذين صوَّتوا له، ولكن لأن هناك قلقا متصورا لدى قطاع من المواطنين الأتراك من العبء الذي يمثله عدد اللاجئين المتزايد في البلاد. ولكن هذه الـ5% التي حققها سنان أوغان كانت كافية على أي حال لمنع حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى.
مفاجأة الرئاسيات الثانية جاءت في الفارق الكبير بين ما حققه المرشحان الرئيسيان: رجب طيب أردوغان وكمال كليجدار أوغلو. صحيح أن أردوغان لم يستطع حسم الانتخابات من الجولة الأولى، ولكنه حقق ما لا يقل عن تسعة وأربعين ونصف النقطة بالمئة من الأصوات، مقابل ما يقل قليلا عن 45% من الأصوات لكليجدار أوغلو. بمعنى أن النتائج أظهرت أن حصتَي المرشحين الرئيسيين من الأصوات لم تكن متقاربة كما توقعت معظم استطلاعات الرأي والمراقبين داخل البلاد وخارجها قبل عقد الانتخابات، وأن فوز كليجدار أوغلو لم يكن صعبا وحسب، بل يكاد يكون مستحيلا.
ديناميات الانتخابات
يصعب فهم القوى التي دفعت نحو تبلور هذه النتائج وتفاعلاتها بدون العودة إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، وذلك لأن نظام الحكم الرئاسي في تركيا هو نظام جديد، وأن الانتخابات الرئاسية-البرلمانية الوحيدة التي جرت من قبل في ظل هذا النظام كانت انتخابات 2018.
ما شهدته انتخابات 2018 كان منافسة رئاسية محتدمة بين أربعة مرشحين رئيسيين، ينتمي كل منهم إلى كتلة تعتبر جزءا من التيار السياسي العام: رجب طيب أردوغان، مرشح العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية؛ محرم إنجه، مرشح حزب الشعب الجمهوري؛ صلاح الدين دميرطاش، مرشح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي؛ وميرال أكشنار، مرشحة الحزب الجيد، القومي التوجه. فاز أردوغان في تلك الانتخابات من الجولة الأولى، متجاوزا نسبة الـ50% بما يزيد عن نقطتين، أما منافسوه الثلاثة فقد حصلوا معا على ما فاق 45% من الأصوات بقليل. الحقيقة أن مجموع أصوات منافسي أردوغان في انتخابات 2018 يتطابق تماما مع ما حصل عليه كمال كليجدار أوغلو في هذه الانتخابات، والسبب خلف ذلك واضح، وهو أن القوى الحزبية كافة التي وقفت خلف مرشحي المعارضة الثلاثة في 2018 قد اصطفت معا خلف مرشح حزب الشعب.
بشيء من التفصيل، يمكن القول إن كليجدار أوغلو حصل على معظم أصوات مصوتي حزب الشعب الجمهوري التقليديين، وجزء ملموس من الصوت القومي، وعلى ما يزيد أو يقل، بهذا القدر أو ذاك، عن المعدل التقليدي للصوت الكردي القومي.
أما إخفاق كليجدار أوغلو في الفوز في الجولة الأولى أو حتى في التفوق على أردوغان فيعود بالتأكيد إلى أن قطاعا ملموسا من الصوت الكردي، لا سيما الصوت الكردي المحافظ، رفض التصويت له. كما امتنعت عن التصويت لكليجدار أوغلو نسبة صغيرة من أصوات حزب الشعب الجمهوري، أو ما أُطلق عليهم وصف “الكماليين السنَّة”، ونسبة ملموسة من أصوات الحزب الجيد، الذين عارضوا تحالف كليجدار أوغلو مع الأكراد القوميين. ويبدو أن الأحزاب الإسلامية والمحافظة الصغيرة الأربعة، التي اصطفت خلف كليجدار أوغلو، فشلت في إقناع ما يكفي من الصوت المحافظ لترجيح حظوظ مرشح المعارضة العلماني العلوي الذي يحمل على كتفيه ميراث حزب الشعب الجمهوري ثقيل الوطأة.
كان بإمكان أردوغان بالطبع حسم الانتخابات من الجولة الأولى، ولكن عجزه عن تحقيق ما يقارب نسبة الأصوات التي حققها في 2018 يعود إلى ما نجح سنان أوغان في تحقيقه من الصوت القومي، وإلى مشكلة أردوغان مع الصوت الكردي، وانفضاض جزء من الصوت الكردي المحافظ عنه، الصوت الذي اعتاد التصويت للعدالة والتنمية حتى توقف مسار السلام الكردي في 2016. والأرجح أن جزءا يصعب تقديره من الصوت الشاب، لا سيما المصوتين للمرة الأولى، حتى بعض أولئك المنتمين لأسر محافظة، لم يحسم أمره بالتصويت للرئيس، لهذا السبب أو ذاك. وليس ثمة شك أن أزمة البلاد الاقتصادية، ومعدلات التضخم التي لم تزل عالية، كان لها بعض الأثر على إحجام مصوتين تقليديين لأردوغان والعدالة والتنمية عن التصويت لهما هذه المرة.
أما نتائج الانتخابات البرلمانية المفاجئة فلا بد أن تُقرأ في ضوء صلابة القاعدة الأساسية لحزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية. والواضح أن نسبة معتبرة من مصوِّتي حزب السعادة انحازت إلى حزب الرفاه الجديد. كما نجح حزب هدى بار في حشد عدد ملموس من أنصاره من الأكراد الإسلاميين في ديار بكر ومناطق الأغلبية الكردية في الجنوب الشرقي، وفي التصويت له بالرغم من مناخ الخوف والتهديد الذي صنعه الناشطون الأكراد القوميون في المنطقة.
من جهة أخرى، فإن معدلات التصويت للعدالة والتنمية تشهد تراجعا حثيثا في انتخابات 2018 عن انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ثم في هذه الانتخابات عن انتخابات 2018، وأن الحزب لم يعد قادرا على كسب أغلبية برلمانية بمفرده كما كان عليه الحال في الفترة من 2002 إلى 2015. مثل هذا التراجع لا بد أن يدفع قيادة الحزب إلى مراجعة أكثر جدية وشمولا على مستوى البنية التنظيمية والقيادات في كافة المراتب، كما على مستوى السياسات وكيفية إدارة الحكم، إن كان لم يزل لدى الحزب حافز الاستمرار في قيادة الدولة التركية خلال السنوات المقبلة.
في العموم، ليس من الصحيح أن الانتخابات أظهرت ميلا متزايدا للناخبين الأتراك نحو المعسكر القومي. تتمثل الكتلة القومية التقليدية بحزبي الحركة القومية والحزب الجيد، وما حدث في هذه الانتخابات أن قطاعا من مؤيدي الحزب الجيد عاد وأعطى صوته للحزب الأم، حزب الحركة القومية، وهذا هو السبب في الانخفاض في حصة الجيد من الأصوات والزيادة الملموسة في حصة حزب الحركة القومية.
دلالات الجولة الأولى وآفاق الثانية
تشير نتائج هذه الانتخابات بوضوح إلى أن أغلبية الشعب التركي لم تزل ترغب في الاستمرار في نهج العقدين الماضيين من حكم العدالة والتنمية، وفي استقرار الدولة التركية، بالرغم من الصعوبات الاقتصادية التي أخذت تركيا في مواجهتها في العامين الأخيرين. لم يستطع تحالف المعارضة الضخم وغير المسبوق إقناع الناخب التركي بأنه يمثل بديلا جادّا، بديلا يمكن الثقة فيه لقيادة البلاد في خضم أزمة اقتصادية واضطرابات إقليمية وتحولات في المشهد الدولي.
ثمة مؤشرات على أن أغلبية الناخبين الأتراك لم يزالوا مقتنعين بأن العدالة والتنمية، بسجل إنجازاته الكبير في العقدين الماضيين، يمكنه إخراج تركيا من الأزمة الاقتصادية، وأن سياسة أردوغان الاستقلالية في السياسة الخارجية هي الأفضل لتركيا ودورها في الإقليم والعالم. ويبدو أن تحالف الستة، بالتباينات الأيديولوجية الواسعة في صفوفه، لم ينجح في إقناع أغلبية الناخبين بأنه سيستطيع تشكيل حكومة مستقرة ومتماسكة، وأنه لن يعود بالبلاد إلى حقبة الحكومات الائتلافية القلقة، التي تسببت في التدهور الاقتصادي-الاجتماعي خلال سنوات التسعينيات، وجعلت تركيا رهينة للإرادات الدولية ومنظمات الإقراض المالي.
ذلك كله لا يعني أن انتصار أردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بات مضمونا، أو أن ما يقوله كمال كليجدار أوغلو من أن توجهات التغيير التي أظهرتها الجولة الأولى ستجعل انتصاره في الثانية ممكن التحقق. يتعلق تحدي الجولة الثانية الأول للطرفين المتنافسين بقدرتهما على تحفيز من شاركوا في انتخابات الجولة الأولى على العودة للإدلاء بأصواتهم من جديد في الإعادة. ثمة خطر يكمن في شعور عدد من أنصار أردوغان بأن الانتصار بات مؤمَّنا وأن ليس من الضروي الذهاب للتصويت، وخطر مقابل يهدد فرص كليجدار أوغلو بانتشار الشعور باليأس والقنوط لدى قطاع من مصوِّتيه، وفقدان الأمل في الانتصار، وأن أصواتهم لن تصنع فرقا على أي حال. أما التحدي الثاني فيتلخص في كتلة الـ5% من الناخبين الذين أعطوا أصواتهم لسنان أوغان، وما إن كانوا سيمتنعون عن التصويت في الجولة الثانية، أو أنهم سينقسمون بين تأييد أردوغان وكليجدار أوغلو، بنسب متفاوتة.
كانت أغلب التوقعات تقول بأن نسبة المصوتين في الجولة الأولى ستتجاوز 89% ممن يحق لهم التصويت، ولكن الأرجح أن هذه النسبة كانت بالفعل أقل من ذلك بنقطتين، وأن معظم من أحجموا عن التصويت قرروا الامتناع عن الإدلاء بأصواتهم لأردوغان، على وجه الخصوص، لأسباب اقتصادية، لا سيما من الناخبين في إسطنبول، المدينة الأكبر والأكثر تأثرا بالأزمة الاقتصادية. سيحتاج أردوغان إلى إيجاد طريقة ما لإقناع هؤلاء بأنه سيُولي اهتماما خاصّا للوضعين، الاقتصادي والمالي، وأن عليهم وضع ثقتهم فيه وليس في مرشح المعارضة، وأن مشاركتهم في الجولة الثانية تتعلق بمستقبل البلاد ككل وليس مستقبله السياسي وحسب. في النهاية، ثمة من يقول: إن الرئيس أردوغان بإمكانه حسم الجولة الثانية بدون جهد كبير إن بادر بالإعلان عن أسماء حفنة صغيرة من طاقمه الحكومي المقبل، على أن يكون هؤلاء من الشخصيات ثقيلة الوزن، القادرة على كسب ثقة قطاعات واسعة من الشعب.
_____________________________________
هذا التقرير منقول عن مركز الجزيرة للدراسات. للاطلاع على الأصل اضغط هنا.