بين اللّيل والنّهار خيط رفيع، يفصل بين الظّلام والنّور، بين الرّؤية والعمى، بين الحقيقة والغموض؛ فالنّور هو الطّريق إلى اليقين، الى الحق، إلى الصّواب، من يتلمّسه يصل من خلاله إلى المعرفة التي ما بعدها معرفة. ولكن مهلًا. هل للنّور هذا التّأثير في المطلق؟ بالطّبع لا، فالنّور الخالص يعمي الأبصار، يؤذي العيون، وقد يحيد بنا عن جادة الصّواب. تملّكني هذا الهاجس وأنا أقرأ رواية مريم هرموش الجديدة:”خلف الحجب”، فأيّة حجب تريدني مريم أن أخترقها؟ وإلى أين تنوي حملي؟ وما الذي يعطيني الأمان إن أنا توغّلت معها في عالمها الذي دعتني إليه وهي ترسل لي نسخة عن روايتها بقولها: إنّه جنون مريم؟ ترى هل ستسحبني معها إلى مالانهاية؟ مهلًا .. من قال إنّ في الحياة نهايات؟ أليست تلك هي فلسفتي التي اقتنعت بها منذ سنوات؟ ألم أصل في قرارة نفسي إلى الاعتراف بأنّه ليس هناك نهايات في الحياة وأنّ كلّ نهاية هي بداية لعالم آخر؟ نهاية اللّيل: نهار، نهاية الحلم: يقظة، نهاية الحياة: موت .. بل حياة أخرى .. ونهاية الجنون: منتهى العقل .كلّ ما نعيشه هو عود على بدء. و هاهي رواية مريم تأتي لتجرّني إلى عالم يسعى أهله إلى الخلود المطلق، لا لشيء، فقط لأنّهم ما أدركوا هذه الصّلة الوثيقة بين البدايات والنّهايات او بمعنى أدقّ .. اللّانهايات.
انجرفت في عالم مريم الميمون، فوجدت ما يشبه عالمي(على غرابته)؛ المكان الذي اختارته ؛المدينة التي لا تنام، والتي تشعر وأنت تدخلها كأنّك توقّع عقد انتماء الى عائلة واحدة، تمامًا كمصر، البلد الذي يسكنني منذ الطّفولة والذي كانت زيارتي له حلمًا يستحق أن يُعاش ألف مرة. هذه الحقيقة وعيتها منذ زمن وعشقت أم الدّنيا وأنا بكامل وعيي فكانت لي وطنًا وحضنًا. تمامًا مثلما هي بالنّسبة لمريم التي اختارت ما يشبه مصر ليكون بيئة حاضنة لروايتها، وعن وعي منها (لأني أدرك أن الأدب عند مريم ليس وليد اللاوعي).
ولجت هذا العالم وأنا أتعجّب من حصولي على شيء يشبهني فانسقت إليه بكامل إرادتي وأنا اقرأ السّطور وما بينها فأراني أمام أسلوب سهل ممتنع يشبه مريم من الدّاخل. ومريم لمن لا يعرفها شخصيّة سهلة ممتنعة يشعر معها كلّ إنسان أنّه يقف أمام سيّدة مقرّبة من روحه، عارفة بكل ما يعتريه، مدركة لأفكاره، لكنّها في الوقت نفسه، عصيّة على من يريد اقتحام مملكتها، متمكّنة من الحدود التي قرّرت رسمها.
وعلى الرّغم من العالم المبتكر الذي أرادته مريم إلا أنّني وجدت نفسي أمام ما يشبهني، وأكاد أجزم أنّ كلّ قارئ يسعى إلى سبر أغوار سطورها لا بدّ من أن يصرخ مع المَشاهد:”هنا، وجدت بعضًا مني”، فالرّاوي يسير في طريق محفوف بالأشواك، تشبه الدّروب التي سار عليها كلّ واحد منّا في رحلة حياته، وهو يبحث عن فتاته التي أحبها فغادرته واختفت. كم أراها تشبه ذواتنا التي غادرتنا في لحظات مفصليّة فزحفنا بحثًا عنها؛ منّا مَن وجدها ومنّا من أضاع عمره بدون أن يتوصّل إلى العثور عليها.
ومع كلّ لحظة قرأت فيها الرّواية وجدت أنّ هناك ما يربط بين السّطور وبين حياة من يقرأها، فها هي مريم تأخذ من العَبرة عِبرة تريدها أن تكون درسًا يدفعنا لجلاء الغشاوة عن أنظارنا علّنا نبصر ما خفي بعين البصيرة لا بعين البصر، لأنّ للبصر ما يعميه. أما البصيرة فلا تحجبها الحجب.
واتوقف عند وصف مريم لحالة روحيّة تحدث خارج المكان والزّمان، تجمع بين الرّاوي و”معمّر”، فتذكّرني بحالات عشتها ألف مرّة مع “معمّر..ي” (ولكلٍّ منّا معمّره الذي لا يعرفه أحد ) معمر .. أو ما عمّرته الحياة في دواخلنا من أفكار، معتقدات، ذكريات، ومن منّا لم يكن له مواجهة كتلك ؟ فأهتف :”لله درّك يا مريم! كم نجد ذواتنا عبر صفحاتك!”
ثمّ تعتريني الدّهشة وأنا اتتبّع وصف الرّوائيّة المختلفة للرّاوي وهو يقطع الطّرقات الوعرة التي يخشى معها الهلاك إن هو أغمض عينيه. فأراني أتصوّر طريق الحياة الذي يسير عليه كلّ فرد منّا منذ الولادة ؟ اليس هو ؟ بلى، وألف بلى. إنّه هو بعينه.واللّحظة الحاسمة، لحظة اللّقاء، أليست هي نفسها تلك الوقفة التي نقفها أمام مرايا نفوسنا مستفسرين عن حقائقنا حين تسمح لنا شجاعتنا بذلك فنعرف شيئًا وتغيب عنا أشياء؟
أؤكّد أنّي عشت تلك اللّحظة من قبل، وكان المفتاح الذي ذكرته مريم في روايتها بالنّسبة لي هو:”حروفي” التي امتطيتها لأحلّق في سماء الحقيقة المجرّدة. أما “شمس” فلم يكن لها في حياتي مثيل سوى نور اليقين الذي أعاد إلى عمري الضيّاء عندما أظلمت الأيّام .
وقد وصلت جدليّة التّشابه بيني وبين الرّاوي إلى ذروتها لحظة اكتشفت أنّه يعيش ألف حياة في واحدة فاختلطت عليه العوالم وفقد الحدود بين الواقع والخيال، تمامًا كما أشعر أحيانًا. وكان لهذا التّشابه دوره في جذبي إلى السّطور وما خلفها، وكلّما غصت أكثر شعرت بأنّي ألملم شيئًا من قطع روحي المتناثرة التي أستطيع أن أؤكّد أنّي جمعتها لحظة أنهيت القراءة. فمريم زرعت قبسًا من روحها في كلّ صفحة، ليتلمّسها القارئ مسترشدًا ويصل في نهاية الرّواية إلى طريق تفتح له ألف باب لمواجهة ذاته وإصلاح ما أفسده الزّمن.
عوالم الخطوط
وقد استعانت مريم بالفنان المميز أ.أحمد الجنايني الذي يجاريها إحساسًا وارتقاء ليقدم أفكارها بما يناسبها من اللّوحات المناسبة التي تخطفك إلى عالم الخطوط والأشكال ثم تعيدك إلى عالم الحروف والسّطور في تآلف بديع، وكأنّها قصدت من خلال ذلك أن تسهّل الدّرب أمام قارئها المتآلف مع عالم الرّسم ليصل إلى ما يخفى عليه بأسهل الطّرق فنجحت أيّما نجاح لأنّ ما قام به الفنّان يعيدني إلى جدليّة البدايات والنّهايات لأؤكّد أنّ نهاية الكلمة صورة كما أنّ بدايتها صورة ولأتيقّن أكثر فأكثر أنّني أمام بداية جديدة لعالم من الرّوايات سيولد من ثنايا ” خلف الحجب” ويصرخ :” من هذه السّطور كانت انطلاقتي” ، فهذه الرّواية بحقٍّ مختلفة عن كلّ ما قرأته في سنواتي الأخيرة؛ رواية تحتاج إلى بصيرة تفكّك رموزها، إحساس يسبر غورها، وتأمّل قادر على جعلها منصّة للانظلاق نحو عوالم متجدّدة. وقد استطاعت مريم هرموش من خلالها ادخالنا إلى عالمها السّاحر وفرشت لنا الورود لنبدأ طريق الألف ميل من خلال خطوتنا الأولى على درب روايتها للوصول إلى ذواتنا. ولا أغالي إن قلت إنّ من يحسن قراءتها سيجد لقدمه خطوة ثابتة على درب الحياة سواء أكان قارئًا أم كاتبًا، وستكون له خطوة مختلفة تبدأ من “خلف الحجب”