أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تحليلاً جديداً سلط خلاله الضوء على كيفية صعود القارة السمراء كقوة عالمية لسلاسل الإمداد في العالم، مشيراً إلى تعرض سلاسل الإمداد العالمية لضغوط هائلة خلال السنوات الأخيرة نتيجة للتقلبات والحروب التجارية، وعدم اليقين الاقتصادي، والأحداث الجيوسياسية، والكوارث الطبيعية، وعلى الرغم من الآثار السلبية الّتي خلفتها تلك الاضطرابات، إلا أنها أتاحت فرصًا للقارة الإفريقية للصعود كقوة عالمية لسلاسل الإمداد في العالم.
وأوضح تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” في أغسطس 2023 إلى أن التقلبات الأخيرة الّتي حدثت في العالم جعلت أفريقيا في مقدمة القارات المؤهلة لأن تصبح مشاركًا رئيسًا في سلاسل الإمداد العالمية من خلال تسخير مواردها الهائلة من المواد التي تحتاج إليها قطاعات التكنولوجيا المتقدمة وأسواقها الاستهلاكية، ويأتي ذلك نتيجة لأن الشركات المصنعة سوف تتجه نحو تنويع مواقع إنتاجها لتجنب آثار الاضطرابات الّتي تحدث في التجارة العالمية وتؤثر بشكلٍ كبير في سلاسل الإمداد، وبالتالي، فإن الوقت الحالي هو فرصة كبيرة للقارة لتعزيز صناعاتها الناشئة وتعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل للملايين من سكانها.
وأشار مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار إلى امتلاك القارة عددًا من المقومات تجعل لها ميزة نسبية فيما يتعلق بالاندماج في سلاسل الإمداد العالمية؛ ومن ذلك امتلاكها مخزونًا كبيرًا من المعادن المهمة اللازمة للصناعات كثيفة التكنولوجيا والتحول منخفض الكربون، إلى جانب اشتراكها في اتفاقيات تجارية مختلفة، بالإضافة إلى توفيرها فرصًا لجعل سلاسل الإمداد خضراء وأكثر استدامة، ومن أبرز هذه المقومات:
– امتلاك القارة للعديد من المعادن والمكونات الحيوية المهمة: إذ أن وفرة المعادن المهمة بما في ذلك الألومنيوم والكوبالت والنحاس والليثيوم والمنجنيز، ومعادن أخرى، تصنع فرصًا للقارة في أن تعيد وضع نفسها كمورد للمواد الخام لسلاسل الإمداد العالمية؛ فحوالي 48.1% من احتياطات الكوبالت العالمية و47.6% من احتياطات المنجنيز العالمية، و21.6% من احتياطات الجرافيت العالمية (طبيعي) و5.9% من احتياطات النحاس العالمية تقع في قارة أفريقيا. ذلك بالإضافة إلى امتلاك القارة للمعادن الأخرى المهمة للتحول منخفض الكربون مثل الكروم والليثيوم والنيكل والنيوبيوم والمعادن الأرضية النادرة والفضة والتيتانيوم، وكل ذلك من شأنه أن يضع القارة السمراء كواجهة جذابة للتصنيع.
– انخراط البلدان الإفريقية في اتفاقيات تجارية مختلفة: حيث تشترك دول القارة في العديد من الاتفاقيات المختلفة الّتي تهدف إلى تعزيز التجارة والإنتاجية، ومن ذلك اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية والتي تم بموجبها إنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AFCFTA)، وهي منطقة تجارة حرة تضم معظم دول أفريقيا ودخلت حيز التنفيذ في مايو 2019، حيث تتمتع تلك المنطقة بالقدرة على تحقيق الأهداف المتعلقة بتحسين سلاسل الإمداد وتعزيز التكامل القاري والإقليمي وتحفيز التجارة بين البلدان الإفريقية ومواءمة عدم تجانس قواعد التجارة عبر المجموعات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية الإقليمية.
وفضلًا عن ذلك؛ فقد انضمت البلدان الإفريقية إلى اتفاقيات تجارية تفضيلية مع مناطق وبلدان أخرى، مثل قانون النمو والفرص في أفريقيا (AGOA)، الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية والذي يوفر لبلدان القارة المؤهلة والواقعة جنوب الصحراء الكبرى إمكانية الوصول إلى السوق الأمريكية بدون رسوم جمركية لأكثر من 1800 منتج، وهو من شأنه أن يولد مكاسب ديناميكية متعددة من خلال تسهيل الفرص لعوامل الإنتاج الجديدة ولا سيما رأس المال، وأيضًا تعد المبادرة المعروفة باسم الحزام والطريق، -وهي إحدى المبادرات الّتي تسهل الوصول إلى التمويل لمشروعات تطوير البنية التحتية في أفريقيا وتساهم في تحسين المهارات والابتكار والتكنولوجيا من خلال برامج التدريب وبرامج نقل التكنولوجيا-، واحدة من ضمن المخططات التفضيلية وشراكات التعاون الاقتصادي التي تساهم في نمو الصناعة المحلية وتحسين التجارة البينية الإفريقية وتعزيز سلاسل الإمداد العالمية.
– فرص تخضير سلاسل الإمداد: إذ توفر القارة السمراء العديد من الفرص لتخضير سلاسل الإمداد وتقليص البصمة الكربونية للشركات، حيث تفتح إمكانات الهيدروجين الأخضر في أفريقيا فرصًا لإزالة انبعاثات الكربون من سلاسل الإمداد، فاختيار الشركات لموردي المواد المنخفضة الكربون أو نقل صناعاتها كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل صناعات الصلب والكيماويات، إلى بلدان توفر طاقة الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة بتكلفة منخفضة؛ هو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى تقليل الانبعاثات الّتي تطلقها، وهو ما أصبح متطلبًا للشركات للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة. وتشمل المزايا الأخرى لتوسيع سلسلة الإمداد في أفريقيا فرص الاستفادة من إمكانات الطاقة المتجددة، والتي يمكن أن تخفض تكاليف الإنتاج وتقلل الاعتماد على الطاقة المعتمدة على الوقود. وباعتبار أفريقيا واحدة من أكبر مصادر الطاقة الشمسية غير المستغلة في العالم، فإنها يمكنها تقديم مزايا في سلسلة إمداد الطاقة الشمسية، والّتي من شأنها أن تعزز تطوير تكنولوجيات الطاقة المتجددة في القارة وتسهل عملية دمج الاقتصادات الإفريقية في سلاسل الإمداد العالمية.
وعلاوة على ذلك، فإن ما تتمتع به أفريقيا من السكان الأصغر سنًا والأسرع نموًّا في الزيادة السكانية في العالم، يمنحها ميزة نسبية عندما يتعلق الأمر بالتحول إلى كونها لاعبًا رائدًا في سلسلة الإمداد العالمية؛ حيث أن حوالي 60٪ من سكان القارة الإفريقية تحت سن 25 عامًا. وفي هذا الصدد، فإن هذا العدد الكبير من الشباب في القارة – والذي من المتوقع أن يتزايد ليصل إلى 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050 بما يمثل ربع سكان العالم– من شأنه أن يجعل أفريقيا داعمة لسلاسل الإمداد من خلال جذب الشركات التي تسعى إلى توسيع علاقاتها مع الموردين والمستهلكين في القارة.
وقد عرض التحليل عدداً التوصيات لجعل القارة الإفريقية رائدة في سلاسل الإمداد العالمية، حيث أشار إلى أن البلدان الإفريقية تقدم العديد من المزايا التي يمكن أن تساهم أو تدفع عجلة تنويع سلاسل الإمداد العالمية للصناعات التكنولوجية عالية التقنية إلا أنها ستحتاج إلى اعتماد المزيد من السياسات الّتي تعزز وتضمن بيئة جذابة للشركات للانتقال إليها، وفيما يلي عدد من الآليات الّتي يمكن تطبيقها في هذا الشأن:
– تحسين البنية التحتية: حيث تفتقر القارة الإفريقية لبنية تحتية قوية مثل الموانئ والطرق والسكك الحديدة الّتي تعمل بكفاءة، ولذلك فمن المستحسن أن تشجع البلدان الإفريقية الاستثمارات في البنية التحتية، مع العمل على إشراك القطاع الخاص في تلك المهمة من أجل تحسين الكفاءة والقدرات التي من شأنها أن تضمن اكتساب المزيد من القيمة من خلال التجارة والمشاركة في سلاسل الإمداد في أفريقيا.
– تنفيذ سياسات تضمن زيادة المهارات والقدرة على الابتكار واستخدام التكنولوجيا في عملية الإنتاج وكذلك في نظام سلسلة الإمداد ككل، بالإضافة إلى تعزيز السياسات التي تشجع على التخصيص الفعال لمدخلات عوامل الإنتاج، الأمر الذي يمكن أن يكون له أيضًا تأثير إيجابي على الأجور.
– اعتماد أدوات الرقمنة لتعزيز سلسلة إمداد أقصر وأكثر ذكاءً والاستثمار في الموارد البشرية التقنية المناسبة لتحقيق تحول ناجح وفعال: حيث يرتبط تعزيز وتنويع سلاسل الإمداد وجعلها أكثر مرونة بالتحول الرقمي واعتماد التقنيات الرقمية في المنتجات المعقدة ذات القيمة العالية مثل الأجهزة الطبية والمعدات الكهربائية، كما أن استخدام التقنيات الرقمية، والتعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي وتقنيات “البلوك تشين”، ضرورة لزيادة كفاءة الإنتاج وتحسين خدمات التوزيع والخدمات اللوجستية، فعلى سبيل المثال، تسمح المنصات الرقمية والخدمات التي تدعم التكنولوجيا بتكامل أفضل وتنسيق سلس بين مختلف القطاعات والعمليات وعبر الأسواق البعيدة، مما يسهل تنويع سلسلة الإمداد.
– فيما يتعلق بجعل بيئة العمل في صناعة السيارات جاذبة للاستثمارات بشكل أكبر: يمكن أن يكون ذلك من خلال توفير التمويل للسيارات بأسعار فائدة منخفضة للاستفادة من الطلب المتزايد في أفريقيا على السيارات وتنسيق الاستراتيجيات الإقليمية للسيارات وخطط التنمية لتجنب ازدواجية الجهود وتحسين إدماج البلدان المنخفضة الدخل وإنشاء مصانع ضخمة متعددة العلامات التجارية في البلدان التي بها مصانع تجميع صغيرة مثل غانا وكينيا ونيجيريا لجذب إنتاج الأجزاء والمكونات، بالإضافة إلى تمويل المعاهد الفنية وتكييف المناهج الدراسية لتعكس التطورات الصناعية الجديدة.
– على مستوى الصناعات الدوائية: تشجيع التعاون بين الشركات، مثل عقد الشراكات والمشروعات المشتركة لتسهيل الوصول إلى المعرفة وتسهيل نقل التكنولوجيا وتبادل الملكية الفكرية، بالإضافة إلى تعزيز الجهود ودعم تشكيل التجمعات، مثل مدينة الطب في مصر، لضمان الوصول إلى البنية التحتية الأساسية للعمليات الدوائية وجذب الاستثمار.
وعلى المستوى المصري، ذكر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار أن الدولة المصرية تحظى بمكانة مهمة كواحدة من الدول الرائدة في أفريقيا، فوفقاً لبيانات البنك الدولي، تمتلك مصر ثاني أكبر اقتصاد على مستوى القارة من حيث الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لبيانات عام 2022، وقد بلغ عدد سكانها في عام 2023 حوالي 105 ملايين نسمة طبقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتتميز مصر بموقع جغرافي فريد؛ يقع في وسط العالم تقريباً، وتلعب دورًا حيويًّا في حركة التجارة العالمية. وفي هذا الصدد، برزت أهمية الدولة المصرية كداعم لسلاسل الإمداد في العالم نظرًا لموقعها الجغرافي بالإضافة إلى امتلاكها عددًا من الموانئ التجارية المهمة واحتلالها مكانة تنافسية في مجال الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، حيث تسعي مصر إلى ما يلي:
– تطوير وتحديث منظومة النقل واللوجستيات من وسائل وشبكات بما يشمل الطرق والكباري والسكك الحديدية والموانئ البحرية والبرية والجافة والمراكز اللوجستية، إلى جانب تحسين منظومة النقل النهري، وذلك في إطار ترسيخ مكانة مصر في قطاعي التجارة واللوجستيات الدوليين وتحولها إلى مركز عالمي للتجارة واللوجستيات.
– تحفيز بيئة الاستثمار، وهو الأمر الذي تمت ترجمته في تنفيذ عدد من المشروعات المهمة والعملاقة، حيث وضعت مصر العديد من الخطط والبرامج قصيرة ومتوسطة المدى في إطار الإمكانات المتاحة والميزات النسبية للموانئ المصرية على البحرين المتوسط والأحمر لإعادة هيكلتها وتطويرها وتحويلها من مجرد منافذ بحرية إلى مركز عالمي للتجارة واللوجستيات.
– تعمل الحكومة المصرية على تحسين الاتصالات بين المدن الصناعية الرئيسة وشبكات النقل المرتبطة بها، وذلك لتسهيل حركة العمالة والمواد الخام والمنتجات. وتشمل جهود التحسين تطوير شبكات السكك الحديدية والطرق الرئيسة، وتعزيز الممرات الملاحية النهرية.
– وفيما يتعلق بتنمية الاقتصاد الأخضر وتعزيز مصادر الطاقة المتجددة، فقد أولت الدولة المصرية اهتمامًا كبيرًا لمشروعات توليد الطاقة المتجددة، مثل طاقتي الرياح والشمس، وذلك بعدة مشروعات في منطقة خليج السويس، وأسوان، كما وقعت مصر عددًا من الاتفاقيات مع كبرى الشركات العاملة في مجال إنتاج وتطوير الهيدروجين الأخضر، وهو ما يعزز من تطوير تكنولوجيات الطاقة المتجددة في الدولة المصرية.