مسلسل جاء ليرصد تغيرات القيم المجتمعية التي أهدرها الناس من خلال تطبيق “تيك توك”، ومزامنة الأحداث مع واقع مرير نعيشه في عالم افتراضي يأخذ أكثر مما يعطي. ولأن معظم المراهقين والشباب يفضلون المواد الترفيهية على الجادة؛ وقعوا بسهولة في فخ الهيافة، والمجهول الافتراضي.
مسلسل “أعلى نسبة مشاهدة” يجسّد الدور الحقيقي للدراما المصرية؛ فالقوى الناعمة هي قوى مؤثرة حقًّا في النسيج المجتمعي.
أظهر المسلسل في مشهد “محاكمة شيماء” الرسالة الموجهة إلى جموع الشعب المصري، ودق ناقوس الخطر؛ ففي ذلك المشهد جاء الأب ليؤكد في كلمته أمام القاضي أن الحروب أصبحت إلكترونية، ولم تعد حروبًا تقليدية، وأنها باتت تستهدف شبابنا.
المسلسل لامس قلوب أناس كثيرين؛ لأنه يشبههم في العيشة، والمعاناة، ولبسهم البسيط، ومصطلحاتهم البسيطة الشعبية، وكان المسلسل تجسيدًا حيًّا للمجتمع المصري؛ فمعظم المسلسلات تأتينا بقصور، وفلل، وسيارات فارهة! نعم، هذه طبقة موجودة، ولكنها ليست كل المجتمع، ولا تمثل النسيج المجتمعي الحقيقي لمصر؛ فمعظم الشعب من الطبقات المتوسطة أو الشعبية؛ لذلك فإن “أعلى نسبة مشاهدة” هو صرخة خرجت من بيوت كثيرة، بيوت بهرها المكسب السريع والسهل المغموس بالشهرة، بيوت يقطنها أناسٌ مهمّشون، أصبحوا فجأة في بؤرة الاهتمام، ومحط أنظار القريب والبعيد، لم يتنبؤوا بواقعهم المستقبلي المرير، ولم يأخذوا حذرهم من تكنولوجيا الاتصال الرقمية التي اقتحمت بيوتهم، وغرف نومهم، ومطابخهم، واخترقت أدق تفاصيلهم، ولم تنتبه الدولة ولم تعزز دور التوعية، ولم تفرض المساءلة والرقابة على الأجيال الجديدة، التي أصبحت فريسة لكل من هبّ ودبّ، وكذلك لم تمارس الأسرة دورها الرقابي في هذا الشأن؛ فهناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأب والأم، والكل مذنب.
فكرة المسلسل والإخراج لياسمين أحمد كامل، التي أوجه إليها تحية واجبة على “الرتم” السريع، وعلى اختيار أماكن التصوير، وعلى مشهد النهاية الذي جاء على نحوٍ متفائل، وبه أمل، وفكرة أشعة الشمس التي كانت تتخلل أصابع شيماء أعطت نهاية مفتوحة، ولكنها نهاية كلها أمل في الغد، وأن الشمس ستشرق لا محالة. وبالرغم من صغر سن المخرجة، فإنها نافست العمالقة في موسم شرس دراميًّا، وتميزت، ورسمت للعمل مكانة متميزة على مائدة الدراما الدسمة هذا العام.
أما الحبكة الدرامية فكانت لسمر طاهر التي وضعت بصمتها المتميزة على تلك الحبكة، وكتبت وعبّرت دون أن تفقد خيوطًا أساسية للحبكة الدرامية، فكتابتها جاءت لتطور أفكار الدراما، فقد كتبت لنا ما أفرزته تكنولوجيا الاتصال من مداخل فكرية مرعبة مرتبطة بالبيت المصري لتدق ناقوس الخطر، ولا أعرف من أين اكتسبت كل تلك المهارة في الكتابة، فالتفاصيل واقعية جدًّا، وتمثل الواقع وتطابقه!
تميز المسلسل بتسكين كل فنان في دوره، فكان الاختيار موفقًا، وجاء أداء الفنانين ليرسم حقيقة المعاناة النفسية والمجتمعية التي عانتها كل أسرة تعرضت لهذه المحنة، وكيف كان المجتمع الافتراضي والمجتمع الذي يحيط بهم في منتهى القسوة! فانتقال النميمة، وجلد الآخرين ليس بالأمر الهيّن؛ ففيه تُهدَم بيوت، وتُشرَّد أسر، وتُقتَل أنفس.
قام بدور الأب الفنان القدير “محمد محمود”، الذي أجاد دور الأب البسيط، الذي وقعت ابنته فريسة للحشود الافتراضية والشهرة في وسائل الإعلام الجديد، وبؤرة اللاوعي، والبحث عن “لقمة العيش”. محمد محمود بأدائه الرائع جعل الجماهير تتعاطف مع قصة ابنته شيماء، التي هي قصة واقعية.
ومن الأدوار التي تميزت في هذا العمل، الدوران اللذان جسّدتهما النجمتان الشابتان “سلمى أبو ضيف”، و”ليلى أحمد زاهر”؛
فقد حظي دور سلمى بإعجاب الجماهير، فكانت شيماء تخطفنا بعيونها الطيبة، وأبكتنا وأضحكتنا بسذاجتها، فهي فتاة بسيطة، لا تحمل ضغينة لأي أحد، ومهمشة من الجميع، حتى من أمها التي لا تراها تجيد أي شيء. حلم شيماء كان أن تراقب الشاب الذي تحبه من بعيد، وبين عشية وضحاها أصبحت محط اهتمام من الجميع، فهي صاحبة أعلى “تريند “، وأعتقد أن سلمى ستكون ممثلة مميزة بين أبناء جيلها.
أما “ليلى أحمد زاهر” التي أبهرتنا بكم الشر الممزوج بملامحها الجميلة، فلم أرَ “ليلى” طوال المسلسل؛ بل كنت أرى “نسمة” الحاقدة على نجاح أختها، وقد تفوقت ليلى على نفسها في هذا الدور، واجتهدت وقطفت ثمار اجتهادها. استخدمت لغة الجسد- على نحوٍ مميز- في صوتها، وحركات أنفها وشفتيها، وهذا ساعدها على إتقان الدور، ولم أرَ مبالغة في الدور كما قيل على وسائل التواصل الاجتماعي.
الفنانة “انتصار” جاءت بمفاجأة في هذا العمل، فهي “حمدية”، الزوجة التي تعمل من البيت لتساند زوجها وتعينه على المعيشة، والأم الجاهلة بوسائل التواصل الاجتماعي، وهي بهذا الدور دخلت في منطقة جديدة، وأثبتت أنها ليست ممثلة كوميدية فقط؛ بل إنها تستطيع أن “تُشخّص”- بجدارة- أي دور، وتركت بصمة عند الجماهير، ويجب على المخرجين أن يستغلوها في منطقة التراجيديا فيما بعد.
القديرة “إنعام سالوسة” وجودها ما زال يضيف بهجة إلى أي عمل، ممثلة متمكنة من منطقتها، وتجيد التأقلم مع أي جيل، لها أسلوب متميز في “رمي الإفيه”، فلها جملة شهيرة “اقطعوا النت العيال بتضيع”، جملة عميقة ومؤثرة، وعلقت بذهن الجمهور.
“إسلام إبراهيم” فنان متقمص لأي دور، يلبس الشخصية، ويجيد اللزمات، وعنده قبول، وموهوب ومختلف ومتنوع، جعلنا نكره هذا الزوج المتحرش بأخوات زوجته، وعديم الشرف، مع توابله الخاصة بالكوميديا التي تخفف ثقل الشخصية، فكان مميزًا.
“فرح يوسف” التي أدّت دور آمال، تراجيدية من العيار الثقيل، وبدون أي ماكياج، وملابسها بسيطة، وحوارها مع زوجها تميز بالبراعة، وهي تشبه كثيرات من هذه الطبقة المكافحة، وقد تألقت في أدائها.
“إلهام صفي الدين” من يعرفها ويتابع صفحتها على الإنستجرام لا يصدق أنها “هبة تاتو”، لم أعرفها؛ فالمكياج، والباروكة، وطريقة الكلام جعلت منها “كاركتر” لا يشبه واقعها أبدًا، وقد بهرني أداؤها، خاصةً أن هناك من يشبهها على “تيك توك”، وقد أجادت تجسيد هذه الفئة الخاوية من الثقافة، والمريضة بالشهرة.
“أمجد الحجار” أجاد دوره، فهذا الدور لا يشبه أدواره السابقة، لم أنتبه لأدائه من قبل لأنها كانت تقليدية، أما دور “فوكس” فله تفاصيل وعدة عناصر تستطيع قراءتها بسهولة من ملابسه، وإكسسواراته، وصوته، فهو يشبه “نخّاسي التيك توك”، إذا جاز التعبير.
“أحمد الرافعي” مقنع مع الإصرار والترصد، فهو لا يمثل؛ بل إنه يتشبع بالدور إلى درجة مرعبة، فلم أره “أحمد” قط؛ فجميع مشاهده هو “ياسر” زوج شيماء، بنعومة صوته، وحبه لها، وفجأة “يصفعها” ليتحول، فهو السهل الممتنع في الأداء الدرامي.
أما “أحمد فهيم” فتميز في دور “بندق”، وهو دور تركيبته غريبة؛ ففي كثير من الأحيان تكون علاقة الخال بابنة أخته علاقة عميقة، ومن هنا قيل “الخال والد”، فجاءت علاقة بندق ببنت أخته شيماء قريبة جدًّا، ومن المفارقة أنه كان سببًا فيما حدث لها ،أدائه مميز .
“نجلاء يونس”، “أم أحمد”، الجارة، من شدة تقمصها للدور توقعت أنهم وجدوها في هذه الحارة ولقّنوها الدور وقالت الكلام؛ فهي طبيعية على نحو غير معقول.
وسأختم الشخصيات بضيف الشرف القدير “أحمد بدير”، فلقد أضفى على المحاكمة قدرًا من الهيبة، فكان القاضي المرتبط بقسمه وعدله، الذي لا يتأثر ببراءة المتهمة وصغر سنها، وكان أيضًا الأب الرحيم الذي يراعي ظروفها المحيطة، فكان القاضي والجلاد الرحيم في آن واحد ، فحكم بضمير القاضي وقلب الأب الذي يحزم ليربي .
أغنية المسلسل كانت بصوت “بوسي”، التي جاء صوتها وأنينها في الأغنية معبرًا؛ لأنه صوت شعبي يشبه المسلسل، وجمال صوتها ودفئه، مع الألحان المميزة، والكلمات التي تعبر عن القصة الدرامية، جعلها تتميز وتتلون بلون البيوت البسيطة التي ستدخلها خلال الشهر الكريم.
رسالة المسلسل رسالة سامية وهادفة، والجميل في هذا المسلسل أنه لم يخدش الحياء، ويمكن للأسرة أن تراه دون حرج، فهو عمل أعاد إلى الدراما قيمتها وهدفها الأساسي؛ وهو التوعية والارتقاء بالمجتمع، وتسليط الضوء على السلبيات من أجل الانتباه لها، ومواجهتها، فشكرًا للشركة المنتجة، ولكل القائمين على العمل الذي سيبقى في ذاكرة الوعي الدرامي، وشكرًا على عودة الدراما إلى رسالتها الأساسية، ونتمنى أن تكون هناك دراما تنتهج هذا النهج، وترسل رسائل موجهة لزيادة الوعي المجتمعي.
وأخيرا سأختم مقالي بتحذير: “وسائل التواصل الاجتماعي تتعلق وترتبط بعلم الاجتماع أكثر من تعلقها وارتباطها بالتقنية والتكنولوجيا؛ فاحذروها، واستوعبوا الرسالة”.