ما حكم هجر المصر على الأذى والضرر في ليلة النصف من شعبان؟ سؤال أجابته دار الإفتاء المصرية من خلال موقعها الرسمي، حيث تبدأ ليلة النصف من شعبان مع غروب شمس السبت المقبل، وتنتهي بفجر الأحد، وهي ليلة من ليالي رفع الأعمال فهل يجوز هجر المصر على الأذى والضرر في ليلة النصف من شعبان؟
هجر المصر على الأذى والضرر في ليلة النصف من شعبان
قالت دار الإفتاء في بيان حكم هجر المسلم لأخيه حال الخصام فوق ثلاثة أيام، إنه لَمَّا كان الإنسان مجبولًا على الغضب والرضى، ومعرَّضًا لسوء الخلق من نفسه ومن غيره له، مما قد يؤدي إلى الخلاف والمشاحنة، والهجران والتخاصم بين الناس بعضهم البعض؛ راعت الشريعة هذا الأمر، واعتنت به، ورخَّصت للإنسان الذي يصل إلى هذه الحالة من الخصام أو الهجر ألَّا يتعدى ذلك أيامًا ثلاثة حتى يزول هذا العارض الذي طرأ عليه من الغضب أو الخلاف الذي تسبب في الشحناء والقطيعة بينه وبين غيره من الناس، وحتى لا يقع كلٌّ منهما في الإثم والمشقة إلى أن تهدأ النفوس من غضبها وتعود إلى فطرتها وصفائها.
وتابعت: من ثَمَّ فإنْ طرأ عارضٌ على المسلم بخلافٍ أو مشاحنةٍ وتخاصمٍ بينه وبين غيره فالأصل ألَّا يزيد ذلك على هذه الأيام الثلاثة؛ حتى لا يَدخُلَا في الحرمة، ويصيبهما الإثم ما داما مشتركين في الخصام والقطيعة، ولم يبادر أحدهما بالصلح، وإزالة هذا العارض؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» أخرجه الشيخان.
قال الإمام ابن عبد البر في “التمهيد” (6/ 127، ط. أوقاف المغرب): [وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث] اهـ.
هجر المصر على الأذى والضرر في ليلة النصف من شعبان
وأوضحت: إن استمرَّ المتخاصمان في القطيعة والمشاحنة فوق الثلاثة إلى أن أقبلت عليهما ليلة النصف من شعبان؛ عُوقِبَا بعدم المغفرة، وحُرِمَا خير هذه الليلة المباركة العظيمة، وما يتنزل فيها من الرحمات والبركات والنفحات، وإجابة الدعوات، والفضل العظيم، والثواب الجزيل، والمغفرة العامة، ما داما متخاصمَين متشاحِنَين؛ فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِكُلِّ نَفْسٍ، إِلَّا مُشْرِكٍ بِاللهِ وَمُشَاحِنٍ» أخرجة الأئمة: الدارمي في “الرد على الجهمية” واللفظ له، والبزار -وحسنه- والمروزي في “مسنديهما”، وابن خزيمة في “التوحيد”، والدارقطني في “النزول”، ووثَّق رجالَه الحافظُ الهيثمي في “مجمع الزوائد”.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَطَّلِعُ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» أخرجه الأئمة: ابن أبي عاصم في “السنة”، وابن حبان في “الصحيح”، والطبراني في المعجمين “الكبير” و”الأوسط” واللفظ له، والبيهقي في “شعب الإيمان”. والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفاضة في كتب السنة المشرفة.
وهذه الأحاديث وغيرها ليست على إطلاقها؛ فليس كلُّ هجر أو مقاطعة بين اثنين يكون مشاحنةً تُخْرِج صاحبها من الرحمة والغفران في ليلة النصف من شهر شعبان المبارك؛ لأن الهجر المنهي عنه هو ما كان بسببِ أمرٍ دنيويٍّ بغيرِ عذرٍ شرعيٍّ، ومن ثَمَّ فلا يَحْرُم تجنُّب بعض الناس إن كان الهجرُ لعذرٍ شرعيٍّ معتبر، مِن غير عداوةٍ أو شحناء مِن جانب الهاجر؛ كأن يخاف الهَاجر حصول الأذى أو وقوع الضرر عليه من خصيمه؛ لسوء خلقه أو إلحاق الأذى به لفظًا أو فعلًا، أو لفسقه ومجاهرته بما يغضب الله سبحانه وتعالى من المعاصي ونحوها ولا يقدر الهاجر على نصحه أو منع أذاه ودفع ضرره، أو يخشى على نفسه إن وصله أو خالطه المضرة في دينه أو دنياه، أو يترتب على مخالطته زيادة العداوة والبغضاء بينهما؛ فحينئذ تكون عدم المخالطة خيرًا من المخالطة التي يترتب عليها مضرة أو أذى.
وهذا ما نص عليه جماهير أهل العلم وشراح الحديث.
قال الملَّا علي القاري الحنفي في “مرقاة المفاتيح” (8/ 759، ط. دار الفكر): [الهجرة المحرمة إنما تكون مع العداوة والشحناء، كما يدل عليه الحديث الذي يليه، فغيرها إما مباح أو خلاف الأولى] اهـ.
وقال العلامة نور الدين السندي الحنفي في “حاشيته على سنن ابن ماجه” (1/ 23، ط. دار الجيل): [وإذا خاف من مكالمة أحدٍ ومواصلته ما يفسد عليه دينه، أو يدخل عليه مضرة في دنياه، يجوز له مجانبته والحذر منه، فرب هجرٍ جميلٍ خير من مخالطةٍ مؤذيةٍ] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في “التمهيد” (6/ 127): [أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده، ورُب صَرْمٍ جميل خير من مخالطة مؤذية] اهـ.
وقال في “الاستذكار” (8/ 290، ط. دار الكتب العلمية): [الذي عندي: أن مَن خشي من مجالسته ومكالمته الضرر في الدين أو في الدنيا والزيادة في العداوة والبغضاء: فهجرانه والبعد عنه خير من قربه؛ لأنه يحفظ عليك زلاتك، ويماريك في صوابك، ولا تسلم من سوء عاقبة خلطته، ورب صَرْمٍ جميلٍ خيرٌ من مخالطة مؤذية] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في “روضة الطالبين” (7/ 367، ط. المكتب الإسلامي): [قال أصحابنا وغيرهم: هذا في الهجران لغير عذر شرعي، فإن كان عذر، بأن كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما، أو كان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور: فلا تحريم] اهـ.
وقال الإمام تقي الدين الحصني الشافعي في “كفاية الأخيار” (ص: 382، ط. دار الخير) ناقلًا عن الإمام النووي معنى الهجر خوفًا على الدين: [وقال في “كتاب الإيمان”: وهجران المسلم حرامٌ فوق ثلاثة أيام، وهذا إذا كان الهجر لحظوظ النفس وتعقبات أهل الدنيا، فأما إذا كان المهجور مبتدعًا، أو متجاهرًا بالظلم أو الفسق: فلا تحرم مهاجرته أبدًا، وكذا إذا كان في المهاجرة مصلحة دينية] اهـ.
وهو ما يتوافق مع ما تقرر من القواعد الشرعية من أنَّ “الضرر يزال”؛ كما في “الأشباه والنظائر” لتاج الدين السبكي (1/ 41، ط. دار الكتب العلمية)، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» أخرجه الأئمة: أحمد في “المسند”، وابن ماجه في “السنن”، والحاكم في “المستدرك” وغيرهم.
بالإضافة إلى أن الشريعة الإسلامية راعت “تَحْقِيقَ الْمَصَالِحِ وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ”؛ كما في “الموافقات” للإمام الشاطبي (6/ 446، ط. دار ابن عفان)، فدرأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا تعارضت المفسدة مع المصلحة قُدِّمَ دَرْأُ المفسدةِ غالبًا؛ لأنَّ اعتناءَ الشرع بالمنهيات أشدُّ مِن اعتنائه بالمأْمورات، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن هذا المنطلق جاءت “الموازنة بين المصالح والمفاسد”؛ كما في “قواعد الأحكام” لعز الدين ابن عبد السلام (1/ 60، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
الواجب على المسلم تجاه أخيه الذي تجنبه لضرر وقد زال هذا الضرر
إن كان وصل إنسان أو مخالطته تؤدي إلى إلحاق الأذى أو الإضرار بالواصل؛ كان الأَوْلى تجنبه لحين زوال هذا الضرر ورفعه ودفعه، فإن زال وجب عليه وصله ومخالطته، ولو بإلقاء السلام ورده، ليخرج من القطيعة والهجر المحرم شرعًا؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَحِلُّ الْهِجْرَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنِ الْتَقَيَا فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ السَّلَامَ؛ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ أَبَى الْآخَرُ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ؛ بَرِئَ هَذَا مِنَ الْإِثْمِ، وَبَاءَ بِهِ الْآخَرُ» أخرجه الإمامان: الطبراني في “المعجم الأوسط”، والحاكم في “المستدرك” وصححه.
وشددت بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا حرج على الشخص المذكور في تجنب صاحبه وهجره ما دام يلحقه من وصله الأذى والضرر، ولا يدخل هذا الهجر في المشاحنة المنهي عنها شرعًا، والتي يُحْرَمُ صاحبها المغفرة في ليلة النصف من شعبان المباركة، ومن ثَمَّ فيكون هذا الهجر مشروطًا بترتُّب الأذى وحصول الضرر بسببه، فإن زال وجب عليه شرعًا قطعُ هذا الهجر ولو بإلقاءِ السلام عليه أو وَصْلِهِ بوسائل التواصل المتاحة؛ ليخرج من الهجر والشحناء، وتعود الحالة الطبيعية التي تشتمل على معاني الود والتواصل فيما بينهما، وبالتالي يكون محلًّا لنوال المغفرة والرحمة والفضل العظيم في هذه الليلة المباركة؛ ليلة النصف من شعبان.