هل الزواج للإنجاب دون علاقة زوجية حرام أم حلال؟، لعله سؤال الذين يرغبون بطفل فيما لدى زوجاتهم موانع طبية تمنعهن من الإنجاب أو حتى لظروف مرضية يتعذر معها ممارسة العلاقة الزوجية، فيلجأون إلى وسائل أخرى للإنجاب مثل الحقن المجهري والذي يتم في المعمل ولا يستلزم ممارسة العلاقة الزوجية وبعد الإنجاب يتم الطلاق، وهو ما يطرح السؤال عن هل الزواج للإنجاب دون علاقة زوجية حرام أم حلال؟، حيث إن الزواج ميثاق غليظ لا ينبغي الاستهانة به بأي صورة من الصور.
هل الزواج للإنجاب دون علاقة زوجية
قالت دار الإفتاء المصرية ، إن الزواج إذا توافرت فيه أركان الزواج الصحيح وشروطه، وانتفت عنه موانعه؛ فهو زواجٌ صحيحٌ شرعًا.
وقد ورد نص السؤال كالتالي : أنا امرأة تجاوزتُ الأربعين من عمري، وكنت قد مررتُ بتجربة زواج سابقة ولم يتيسَّر لي أمر الإنجاب، وذلك لوجود مشكلة صحية تتعلق بأني لا أُطيق العلاقة الزوجية؛ حيث عانيتُ في بداية حياتي الزوجية من وجود بكتريا حادَّة تمنع من الاتصال الجنسي، وحينما ذهبنا إلى الأطباء أخبروني بوجود فيروس يسمى “فيروس الهربس البسيط”، وأن العَدوَى به تستمر مدى الحياة، وعادة ما تكثر عند حصول العلاقة.
وتابعت: وكنت أُعالَج أنا وزوجي في وقت واحد، واستمررنا على ذلك 3 سنوات، وإن تحسن الوضع قليلًا سرعان ما يرجع مرة أُخرى، فلم يتحمل طليقي الأمر، واتفقنا على الانفصال، وأنا الآن تعرفت على رجلٍ ذي خلق، واتفقنا على الزواج على أن لا يحدث بيننا معاشرة، ولكن نجري عملية الحقن المجهري بقصد الإنجاب الذي حرمتُ منه طول العمر، وهو قد رضي بذلك، إلَّا أنه أخبرني بيني وبينه بأنه بعدما يتم الإنجاب سوف ننفصل، وتراضينا على ذلك وتزوجنا. فما حكم هذا الزواج شرعًا؟ وهل يدخل ضمن تأقيت النكاح المنهيِّ عنه؟) .
وأوضحت ” الإفتاء” في إجابتها عن سؤال: (هل الزواج للإنجاب دون علاقة زوجية حرام أم حلال؟، وما حكم الزواج بقصد الإنجاب في المختبر من دون جماع والطلاق بعده؟)، أن هذا الزواج قد توافرت فيه أركان الزواج الصحيح وشروطه، وانتفت عنه موانعه؛ ومن ثمَّ فهو زواجٌ صحيحٌ شرعًا.
وأضافت أنه لا يضر في صحته ما اتفقتما عليه شفويًّا من الانفصال بعد حدوث الحمل، ولا ما تنازلتما عنه من حقِّكما في المعاشرة الجنسية بينكما، ما دام أنَّ هذا الاتفاق ناشئٌ عن إرادة سليمةٍ وأهلية صحيحة، ولم يُنصَّ عليه في العقد صراحة، وليس من قبيل نكاح المتعة المنهي عنه.
وأشارت إلى أنه لا يخفى أنَّ ما قمتِ به من صبركِ على هذا المرض هو من الأفعال الحسنة التي يُثيبُكِ الله عليها عظيم الأجر وجزيل الثواب إن شاء الله تعالى، مع ضرورة التنبيه في هذا الشأن وفي مثل هذا النوع من الزواج، على أن الأفضل فيه عدم الاتفاق مُسبَقًا على الطلاق؛ مراعاة لمقصود الزواج من جهة، وكفالة لحق الطفل -المراد إنجابه- في أن ينشأ بين أبوين مستقرةٍ حياتُهما من جهة أخرى، ورجاءً في حصول الشفاء من هذه الأمراض من جهة ثالثة؛ خاصة مع التقدم الطبي الحديث.
وأفادت بأنه قد دَرجت الأُسر المصرية على التكافل والتكامل والتراحم بين الأزواج، وتحمُّلِ بعضهما الآخر في مثل هذه الحالات المرضية، وصار ذلك مكونًا أصيلًا من مُكَوِّناتِ ومَكنوناتِ العلاقات الأسَريَّة بين الزوجين.
أساس الحياة الزوجية
واستطردت : حينما أمرَ الشرعُ الشريفُ بالزواج ورغَّبَ فيه: قصدَ به الاستخلاف والإعمار، وأرادَ له الديمومة والاستمرار؛ ولذلك أقامَ الشرعُ الشريف أساس هذه العلاقةِ على المودة والرحمة وحُسْن العِشْرة.
واستشهدت بما قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187]، وقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
نبهت إلى أنه أباحَ استمتاع كلٍّ من الزوجين بالآخر بما يضمن لهما العفاف والكفاف، وجعل حقَّ المرأة في ذلك كحقِّ الرجل؛ لأن ما يحتاجهُ الرجلُ من المرأةِ من علاقته بها، هو عينُ ما تحتاجه المرأةُ من الرجل؛ قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228].
واستندت لما قال الإمام أبو جعفر الطَّبَرِي في “جامع البيان” (3/ 489-492، ط. مؤسسة الرسالة) -في تفسير قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾-: [فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا، ونحن لهن لباسًا، و”اللباس” إنما هو ما لُبِسَ؟، وقيل: لذلك وجهان من المعاني: أحدهما: أن يكون كلُّ واحدٍ منهما جُعل لصاحبه لباسًا، لتجرُّدهما عند النوم، واجتماعهما في ثوبٍ واحدٍ، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه، بمنزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما: هو “لباسٌ” لصاحبه..
وأردفت : الوجه الآخر: أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه “لباسًا”؛ لأنه سَكنٌ له، كما قال جلَّ ثناؤه: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ [الفرقان: 47]، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه، وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذِكْرِه: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189]، فيكون كل واحد منهما “لباسًا” لصاحبه، بمعنى سكونه إليه] اهـ.
حكم الزواج للإنجاب دون علاقة زوجية
وقالت عن حكم الزواج بقصد الإنجاب في المختبر بدون جماع والطلاق بعده ، إن الفقهاء حينما نظروا إلى عقود الزواج، تعاملوا معها تعاملًا مقاصديًّا، أدركوا فيه تشوُّف الشرع الشريف إلى تصحيح أفعال المكلَّفين وعقودهم مهما أمكن ذلك، والتي منها عقد النكاح؛ بل هو أولى هذه العقود وأقواها وأرقاها؛ إذ به تُصانُ الأعراض وتُحفظ الأنساب من الاختلاط، حتى ألَّف العلماء الرسائل في ذلك؛ كما فعل العلامة جمال الدين القاسمي في “الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس”.
ونوهت بأنه قد بنى الفقهاءُ هذا التعامل على مبدأين؛ مبدأ الصحة، ومبدأ الرضـا، فأما الصحة فقد نظر الفقهاء فيه إلى ذاتية العقد ومبناه؛ فنصوا على أنَّ العقد متى توفرت شروطه وأركانه وانتفت عنه موانعه؛ فإنه يُحكم بصحته، ويصير كلٌّ مِن الرجل والمرأة حِلًّا لبعضهما بموجب هذا العقد، شأنه في ذلك شأن سائر العقود.
وبينت أن هذا الحكم إنَّما استُفيدَ من عمل الشرعِ؛ وذلك بناءً على توافر أركان العقد وشروطه أو عدم توافرها، فلا يكون هناك مجال للعاقدَين أو غيرهما لإسباغ وصف الصحة أو البطلان أو الفساد على عقد الزواج، وعلى ذلك الوصف الشرعي تنبني الحقوق والواجبات، وتترتَّب الأحكام والآثار والتَّبِعات.
ولفتت إلى أنه بالنسبة للرضا فلأنَّ العقودَ إنما تثبت على رضا المتعاقدين، فإذا تشارطَ المتعاقدان على شيء ثم تعاقدَا عليه: دلَّ ذلك على رضاهما، فوجب أن يكون العقد ما رضيا به؛ لما تقرر من أن مِلاكَ العقودِ هو الرضا، وهو ركنٌ أساسي في إنشاء عقد الزواج وتَرَتُّبِ آثاره عليه؛ قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 232]، فكانَ عقد النكاح هو أولى العقود بالرضا؛ لأنه “مبنيٌّ على المكارمة”؛ كما قال الطاهر ابن عاشور في “مقاصد الشريعة” (3/ 429، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر).
وأوضحت أنه لذلك نصَّ جماهير الفقهاء -بناءً على هذين المبدأين- على أن الزوجين إن اشترطَا أو أحدهما طلاقًا أو عدمَ جماعٍ أو غيرهما من الشروط قبل عقد النكاح، ولم ينصَّا على ذلك في العقد صراحةً، فإن العقد صحيح، ولا يلتفت لما تمَّ اشتراطه أو الاتفاق عليه قبل العقد؛ لأن فساد العقد إنَّما يحصل إذا وقع الشرط في صُلْبِهِ.
وواصلت : قال العلامة مُنْلا خِسْرو الحنفي في “درر الحكام” (2/ 201، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(وما لا يبطل به) أي: بالشرط الفاسد ستة وعشرون؛ (القرض، والهبة، والصدقة، والنكاح.. إلا إذا كان الفاسد في صُلْب العقد)] اهـ. وقال العلامة ابن نُجَيْم الحنفي في “البحر الرائق” (8/ 52، ط. دار الكتاب الإسلامي): [لا يفسد العقد بالشروط إذ لم يكن في صُلْب العقد] اهـ. وقال العلامة الصاوي المالكي في “حاشيته على الشرح الصغير” (2/ 385-386، ط. دار المعارف) في شروط القسمة بين الأزواج: [لا يفسد العقدُ إلا بالاشتراط لهذه الأشياء في صلب العقد، وأما إن حصل منها شيء بعد العقد وهي في العصمة: فلا ضرر في ذلك، فلها أن تُسقط حقَّها في القسمة، ولها أن تنفق عليه، وله أن ينفق على أولادها من غيره وأبيها، ومكارم الأخلاق لا تضر] اهـ.
واستشهدت بما قال الإمام شمس الدين الرملي الشافعي في “نهاية المحتاج” (6/ 214، ط. دار الفكر، ومعه “حاشية الشَّبْرامَلِّسي”): [(ولا) (توقيته) بمدة معلومة أو مجهولة، فيفسد لصحة النهي عن نكاح المتعة] اهـ. وقال العلامة عليٌّ الشَّبْرامَلِّسي مُحشِّيًا عليه: [(قوله: ولا توقيته) أي: حيث وقع ذلك في صُلْب العقد، أما لو توافقا عليه قبل، ولم يتعرضا له في العقد: لم يضر] اهـ. وقال العلامة المرداوي الحنبلي في “الإنصاف” (8/ 154، ط. دار إحياء التراث العربي): [الشروط المعتبرة في النكاح في هذا الباب محل ذكرها: صلب العقد. قاله في “المحرر”، وغيره. وجزم به في “الرعايتين”، و”الحاوي الصغير”، و”تذكرة ابن عبدوس”، و”النظم”. وقاله القاضي في موضع من كلامه. وقال الشيخ تقي الدِّين رحمه الله: كذا لو اتفقَا عليه قبل العقد، في ظاهر المذهب. وقال: على هذا جواب الإمام أحمد رحمه الله في “مسائل الحيل”؛ لأن الأمر بالوفاء بالشروط والعقود والعهود يتناول ذلك تناولًا واحدًا. قال الزَّرْكَشي: وهذا ظاهر إطلاق الخِرَقي وأبي الخطاب وأبي محمد، وغيرهم قال: وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله في “فتاويه”: إنه ظاهر المذهب. ومنصوص الإمام أحمد رحمه الله، وقول قدماء أصحابه، ومحققي المتأخرين. قلت: وهو الصواب الذي لا شك فيه] اهـ.
وأشارت إلى أنه مما يُستأنسُ لذلك: أنَّ بعض فقهاء الشافعية صحَّحَ نكاح مَن اشترطا أو أحدهما في العقد عدم المعاشرة الجنسية لمنع الضرر؛ بأن كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو لا تتحمل الجماع، ورضي الزوج بذلك لأنه حقُّه، فقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في “مغني المحتاج” (4/ 377، ط. دار الكتب العلمية): [ويستثنى من البطلان بترك الوطء: المأيوس من احتمالها الجماع.. وكذا لو لم تحتمله في الحال فشرط أن لا يطأها إلى الاحتمال، قاله البغوي في “فتاويه”. والظاهر كما قاله الأذرعي: أنه لو علم أنها رتقاء أو قرناء وشرطت عليه ذلك أنه لا يضر قطعًا، قال الأذرعي: “ولينظر فيما إذا كانت متحيرة، وحرمنا وطأها، وشرطت تركه، فيحتمل أن يقال بفساد النكاح؛ لأن الشفاء متوقع، ويحتمل خلافه؛ لأن الظاهر أن العلة المزمنة إذا طالت دامت” اهـ، وهذا أظهر] اهـ.
ونبهت إلى أنه إذا صحَّ نكاح مَن اشترطا أو أحدهما ذلك في العقد: فلَأن يصح الزواج مع الشروط التي تمَّ الاتفاق عليها قبل العقد من باب أولى. فلم تمنع العلة المزمنة والمرض الذي لا يُرجى برؤهُ صحة الزواج، بالرغم من أنها اشترطت عليه عدم معاشرتها حال مرضها، والصورة المسؤول عنها داخلة في هذا المعنى؛ بل هي أمعنُ في الصحة منه؛ لتلاقيها مع ترخُّص تصحيح نكاحها من جهة، ولكونِ الشرطِ فيها وقع قبل العقد لا في صلبه من جهة أُخرى.
وأكدت أنه لا تدخل هذه الصورة من الزواج ضمن تأقيت النكاح المنهيِّ عنه شرعًا والموصوف بـ”نكاح المتعة”؛ لأنَّ الفُرقة في النكاح المؤقت (المتعة) “تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق”؛ كما قال الإمام ابن عبد البر في “الاستذكار” (5/ 506، ط. دار الكتب العلمية)؛ بمعنى أن النكاح ينتهي فيه بمجرد حلول الأجل المسمَّى من تلقاء نفسه دون حاجةٍ إلى طلاق، بخلاف الزواج الذي تم الاتفاق الرضائي فيه بين الزوجين على الطلاق أو وقع الاشتراط فيه قبل العقد كما بيَّنا، فالشأن فيه أنه زواج صحيح، وأنَّ الفُرقة فيه إنَّما تكون من طلاقٍ.
وذكرت ما قال العلامة سراج الدين ابن نُجَيْم الحنفي في “النهر الفائق” (2/ 201، ط. دار الكتب العلمية) عن الطلاق المشروع: [لا يتحقق إلا في نكاحٍ صحيحٍ] اهـ، وقال الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في “المنتقى” (3/ 280، ط. مطبعة السعادة): [والطلاقُ المباحُ، لا يكونُ إلا في نكاحٍ صحيحٍ] اهـ، فإذا طَلَّق الرجلُ امرأتَه “قصدَ أمرًا جائزًا؛ بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة؛ تنقضي فيه بانقضاء المدة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا فملكه ثابت مطلق”؛ كما قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في “مجموع الفتاوى” (32/ 147، ط. الملك فهد).