ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول “نرجو منكم بيان فضل العلم؟ وهل العلوم التي يحث الشرع على تحصيلها هي العلوم الدينية أو أنها تشمل العلوم الدنيوية النافعة أيضًا؟
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، إن الإسلام قد حثَّ على طلب العلم ورغَّب فيه؛ فقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
قال الإمام الرازي في “مفاتيح الغيب” (29/ 494، ط. دار إحياء التراث العربي): [ثم في المراد من هذه الرفعة قولان:.. والثاني: وهو القول المشهور: المراد منه الرفعة في درجات الثواب، ومراتب الرضوان] اهـ.
وذكرت دار الإفتاء، أنه لم يطلب الله عزَّ وجلَّ من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم طلب المزيد من شيءٍ إلا من العلم؛ فقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].
قال الإمام الرازي في “مفاتيح الغيب” (2/ 407): [فيه أدلُّ دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إيَّاه؛ حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصَّة دون غيره] اهـ.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» أخرجه الإمام الترمذي في “جامعه”.
قال الإمام المناوي في “التيسير بشرح الجامع الصغير” (2/ 170، ط. مكتبة الإمام الشافعي): [أي: نسبة شرف العالم إلى شرف العابد كنسبة شرف الرسول إلى أدنى شرف الصحابة] اهـ.
تجدر الإشارة إلى أنَّ الفضل الوارد في طلب العلم لا يقتصر على العلوم الدينية، بل يشمل العلوم الكونية وغيرها أيضًا، فعندما وصف الله تعالى في كتابه العلماء بأنهم هُم أهل خشيته مِن خَلْقِه جاء ذلك في سياق الكلام على دورة الحياة في الطبيعة، وتنوع ألوان الثمار (علم النبات)، واختلاف أشكال الجبال (علم الجيولوجيا)، ومظاهر اختلاف الكائنات الحية (التنوع البيولوجي)، وكلها من العلوم الدنيوية؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 27-28].
العلم هو السبيل الصحيح لرقي الأمم وتقدمها، ودراسة العلوم الدنيوية لا تنافي دراسة العلوم الشرعية، بل يكمل كلٌّ منهما الآخرَ ولا استغناء للمسلم عن أحدهما، وهذا واضحٌ في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث كان يقول: «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» أخرجه الإمام مسلم.
قال الإمام الغزالي في “إحياء علوم الدين” (1/ 16، ط. دار المعرفة): [اعلم أنَّ الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى: شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استُفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه؛ مثل: الحساب، ولا التجربة؛ مثل: الطب، ولا السماع؛ مثل: اللغة، فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود: ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا؛ كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة؛ أما فرض الكفاية: فهو علمٌ لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا؛ كالطب؛ إذ هو ضروريٌّ في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب؛ فإنه ضروريٌّ في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خَلَا البلدُ عمَّن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد، وإذا قام بها واحدٌ كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا: إنَّ الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات؛ كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة؛ فإنه لو خَلَا البلدُ من الحَجَّام تَسَارَعَ الهلاكُ إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك] اهـ. وقوله: “حَرِجَ أهل البلد” يعني: دخل عليهم الحرج والمشقة.
وقال الإمام العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام” (1/ 6، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [فإن الطب كالشرع؛ وُضِعَ لِجَلْبِ مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن دَرْؤُهُ من ذلك، ولِجَلْبِ ما أمكن جَلْبُهُ من ذلك، فإن تعذَّر دَرْءُ الجميع أو جَلْبُ الجميع؛ فإن تساوت الرُّتَبُ تُخُيِّر، وإن تفاوتت استُعمل الترجيحُ عند عِرفانه، والتوقفُ عند الجهل به، والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب؛ فإن كل واحدٍ منهما موضوعٌ لِجَلْبِ مصالح العباد ودرء مفاسدهم] اهـ.