كان تصريح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قبل أيام حول وعود الأميركيين والأوروبيين لطهران بالعمل على وقف إطلاق النار في غزة، شرط عدم الرد على اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) إسماعيل هنية، تفسيرا للصمت الإيراني المثير للجدل حول عدم ردها لأكثر من شهرين على الحادثة رغم تعهد طهران بأن يكون الرد “قاسيا”.
ويبدو أن واشنطن استطاعت احتواء الغضب الإيراني بالحديث عن صفقة لوقف الحرب على غزة، وهو ما دفع حكومة بزشكيان لاتباع أسلوب مختلف عما تركه سلفه الراحل إبراهيم رئيسي، الذي أظهر حزمًا في الرد على الهجوم الإسرائيلي على سفارة بلاده في دمشق قبل نحو 5 أشهر.
ورغم أن الرئيس الأميركي جو بايدن قال له (don’t) “أي لا تهاجموا تل أبيب” فإنه نفذ وعده بعد أقل من يوم واحد وقصف إسرائيل بـ300 صاروخ وطائرة مسيّرة في أبريل/نيسان الماضي.
وبدت إيران في زمن إبراهيم رئيسي المحافظ -الذي توفي بعد شهر من قصف تل أبيب برفقة وزير الخارجية أمير عبد اللهيان، إثر تحطم الطائرة التي كانت تقلهم في محافظة أذربيجان الشرقية- أكثر استعدادا لاستخدام القوة العسكرية المباشرة في مواجهة أي اعتداء عليها، وكان هجوم أبريل سابقة في حرب الظل الطويلة بين الطرفين، وشكل تحولا إستراتيجيا في قواعد الاشتباك مع تل أبيب.
الحرب الشاملة
لأكثر من شهرين، كان السؤال الأكثر تداولا في المنطقة هو: أين الرد الإيراني؟
إلى أن انطلقت الصواريخ فجأة نحو تل أبيب مساء أمس الثلاثاء، في رد وصفه بزشكيان بـ”الحاسم”، وقبل ذلك دار جدل واسع حول مدى التزام إيران بوعودها بالثأر لاغتيال قيادات “محور المقاومة” وعلى رأسهم إسماعيل هنية والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
لم تقل إيران إنها تخلت عن الرد، لكن تصريحات سابقة لرئيسها، فتحت الباب أمام تحليلات وتأويلات كثيرة عندما أوصل رسالة أن بلاده “لا تريد أن تكون سببًا في خلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة”.
وقرأ مراقبون أن هذه الرسائل تعكس رغبة لدى إيران في التعامل بحذر أكبر مع التوترات الإقليمية، وإعادة تقييم إستراتيجيتها بين الردع والاحتواء.
واستبعدت صحف أميركية بينها نيويورك تايمز أن تقوم إيران بأي رد على إسرائيل، موضحة أن بزشكيان يخشى من أن تنجر طهران إلى حرب أوسع نطاقا وأن تركيز الرئيس في المرحلة الحالية يكمن في كسر العزلة الاقتصادية، وإعادة إحياء الاتفاق النووي المجمد منذ أن انسحبت منه واشنطن في عام 2018، وأعادت فرض العقوبات على بلاده.
لقد كانت كلفة عدم الرد على اغتيال هنية في طهران أعلى بكثير من الرد ذاته كما يرى محللون، حيث ظهرت إيران أكثر تحفظًا في مواجهة التصعيد الإسرائيلي، سواء ضدها أو ضد حلفائها في “المحور”، ما أغرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتوسيع اغتيالاته لتطال قلب إيران، وامتدت لتشمل حزب الله، بدءًا من تصفية قياداته وتفجير أجهزة اتصاله المحمولة من نوع “بيجر”، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، والتهديد بغزو بري لأراضيه.
مفاجأة لنتنياهو
وبعد سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية، يبدو أن إيران في زمن بزشكيان أرادت أن تفاجئ نتنياهو بضربة وصفتها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بأنها كانت ضعف هجوم أبريل/نيسان الماضي، بل أكبر هجوم تتعرض له إسرائيل في تاريخها، ما تسبب في إصابات بشرية وأضرار مادية وإغلاق المجال الجوي، فيما هرع ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ بينما صفارات الإنذار تدوي بكامل إسرائيل.
وقال بزشكيان عقب الهجوم الصاروخي “هذا جزء من قدراتنا. لا تدخلوا في مواجهة مع ايران”، فعادت المخاوف الإسرائيلية مجددا، من اندلاع حرب شاملة، ما دفع أسرة تحرير هآرتس لافتتاح صحيفتهم اليوم الأربعاء بعنوان: إسرائيل في حرب إقليمية.
“معركة بيروت ستنتهي في طهران”
وقبل أيام من هجوم إيران الصاروخي، أطل نتنياهو على العالم من الأمم المتحدة، حاملًا خريطة واضحة، وكأنه يضع خطة معركته الجديدة ضد ما يسميها “دول اللعنة على إسرائيل”. وتظهر في الخريطة طهران وبغداد ودمشق وبيروت، وصولًا إلى صنعاء في جنوب الجزيرة العربية.
ولاحقا، وجّه نتنياهو كلمة تحريضية للشعب الإيراني قائلا: لا يوجد مكان في الشرق الأوسط لا تستطيع إسرائيل الوصول إليه، وقال “لا بد أن تعلموا أن إسرائيل تقف إلى جانبكم”، ولفت إلى أن “السلام بين إيران وإسرائيل” سيتحقق عندما تصبح طهران “حرة في النهاية”، مشيرا إلى أن ذلك “سيحدث في وقت أقرب بكثير مما يعتقده الناس”.
هناك فرصة لا يجب تفويتها
لإعادة تشكيل الشرق الأوسط
يرى الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) تامير باردو أن الضربات التي وجهتها إسرائيل لحزب الله خلال الأسبوعين الماضيين، هي “فرصة لا يجب تفويتها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط”.
ويقول باردو في مقالة بصحيفة هآرتس إن موقف إسرائيل تجاه لبنان يجب أن يتغير الآن، وأنه ينبغي عليها أن تعتبره دولة ذات سيادة وأن تحمله مسؤولية ما يحدث على أراضيه، فحزب الله، الذي نال دعماً إيرانياً هائلاً، استطاع بفضل الجنرال قاسم سليماني، الذي اغتالته واشنطن عام 2020، أن يبني قوة عسكرية ضخمة بحسب تامير.
وأوضح أن طهران تمكنت من تشكيل طوق نار يحيط بإسرائيل، بل وأصبحت لها حدود عبر حلفائها، في حين تبقى تل أبيب بعيدة عن طهران بأكثر من 1600 كيلومتر، ما يخلق وضعا إستراتيجيا خطيرا على وجود إسرائيل التي تعتبر إيران ألد أعدائها.
وتهدف المطالبة الإسرائيلية بتحميل دولة لبنان كامل المسؤولية عما يجري على أراضيه إلى ما يلي:
- توريط الحكومة بدلا من التعامل مع حزب الله بشكل منفصل.
- استخدام الأمر ذريعة لتوسيع نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية في عمق لبنان، بل وإعادة احتلاله إذا لزم الأمر.
- التأثير في المواقف الدولية التي تعارض الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية.
“تفكيك الأذرع”
وباغتيال نصر الله تكون طهران خسرت أهم رجل في محور “يحوط إسرائيل بالنيران”، وبغزوها البري للبنان، فإن إسرائيل لا تخفي خططها بالعمل على تفكيك ما تسميهم “بأذرع طهران”، قبل الوصول إليها، وهذا ما أشار إليه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأن تل أبيب تحارب أخطبوطا رأسه في طهران “وتحاول أذرعه ضربنا”.
يقول عاموس هارئيل المحلل العسكري بصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إن ما يمكن فهمه الآن أن نتنياهو في طريقه نحو التصعيد على جميع الجبهات، ولا يوجد وقف إطلاق النار على أولوياته.
كما نصح الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات بالجيش الإسرائيلي عاموس يادلين تل أبيب باتخاذ قرار حاسم بعد الضربات التي تعرض لها حزب الله، متسائلا: هل يجب علينا الالتزام بهدف إعادة سكان الشمال بأمان؟ أم المضي قدمًا نحو هدف أكثر طموحا يتمثل في إسقاط حزب الله؟
وأشار يادلين في مقالة عبر موقع القناة الـ12 الإسرائيلية إلى ضرورة الاستمرار في مواجهة “حزام النار” والعمل ضد الخلايا المسؤولة عن إدارة بعض العمليات في دمشق.
المواجهة المقبلة؟
ولمواجهة “طوق النار” الذي تدعمه إيران حول إسرائيل، ينصح عاموس يادلين بضرب دمشق قائلا إنها كانت “الممر الرئيسي لإمداد حزب الله بالأسلحة وتعزيز قدراته”، كذلك يجب فتح الحساب كاملا مع الحوثيين في اليمن والمليشيات في العراق، بحسب وصفه.
يوضح يادلين أنه بعد تصفية زعيم حزب الله في لبنان، وإضعاف حركة حماس في غزة. كذلك الضربات المتواصلة على دمشق، واستهداف ميناء الحديدة في باليمن، عادت إسرائيل مجددا لتظهر كقوة إقليمية كبرى، وأنها اليد العليا في المنطقة.
كذلك يرى المحلل نداف إيال في يديعوت أحرونوت أن الضربات التي تلقاها حزب الله، تعتبر مدخلا لتغيير وجه المنطقة، لذلك يجب الذهاب أبعد من ذلك، في ضرب حلفاء إيران، لتخرج إسرائيل من حربها بنصر إستراتيجي، حسب قوله.
القرار في يد خامنئي
وفي قراءته للمشهد، اعتبر رئيس تحرير صحيفة هآرتس، ألوف بن، أن سلسلة الهجمات الإسرائيلية المتصاعدة في المنطقة والتهديدات الموجهة من إسرائيل إلى إيران نفسها، تتبع منطقا إستراتيجيا واضحا؛ هو تحطيم “وحدة الساحات” التي فرضتها طهران وحلفاؤها الإقليميون على تل أبيب منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأضاف ألوف بن أنه إذا أصرّ المرشد الإيراني علي خامنئي على مواصلة القتال عبر حلفائه، فإن إسرائيل ستوجه ضربة مباشرة إلى إيران، مشيرا إلى أن القرار الآن في يد خامنئي.
لكن عاموس يادلين يرى أيضا أن دخول إيران المعركة أمر قائم وحقيقي، وربما “يكون ردهم قفزة نحو القنبلة النووية”.
وعلى عكس الجولات السابقة من القتال، التي تُرك فيها الفلسطينيون لمواجهة إسرائيل بمفردهم، يقول ألوف بن إن حماس تحظى هذه المرة بدعم فعلي من “محور المقاومة” بقيادة إيران.
فقد أجبرت المواجهة متعددة الساحات إسرائيل على تقسيم الجيش بين الجنوب والشمال، وإخلاء سكان الجليل الأعلى وفرض حصار بحري على إيلات، إلى جانب استمرار الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة من بيروت وصنعاء وبغداد.
كان واضحا أن نتنياهو قد اطمأن إلى انتخاب رئيس إصلاحي في طهران، حيث رأى في اهتمامه المتزايد بتحسين الأوضاع الداخلية وإنعاش الاقتصاد الإيراني فرصة لتجنب التصعيد أو تأجيل الردود العسكرية، فجاء الرد الإيراني بمئات الصواريخ، لاستعادة الردع.
ورمت طهران الكرة مجددا في ملعب نتنياهو، الذي كان منتشيا حتى أمس بالاغتيالات الأخيرة على كل الجبهات، واعدا بالانتصار على “محور المقاومة” وسحقه في غزة وبيروت ودمشق وصنعاء وبغداد، من أجل رسم خارطة شرق أوسط جديد لـ50 عاما مقبلة، حسب قوله.