ضمن العروض الخاصة في الدورة الـ77 من مهرجان كان السينمائي الدولي، يبرز اسم الفيلم الوثائقي “إرنست كول.. فُقد ووُجد” (Ernest Cole: Lost and Found)، وتدور أحداثه عن المصور الأسود الأول في جنوب أفريقيا في زمن الفصل العنصري، وقد أخرجه “راؤل بيك” الذي رُشح للأوسكار عن فيلمه السابق “أنا لست زنجيك” (I Am Not Your Negro)، وفاز عنه أيضا بجائزة “البافتا” البريطانية لأفضل فيلم وثائقي.
تُوّج فيلم “إرنست كول” مناصفة بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي مع الفيلم المصري “رفعت عيني للسما”، وهو يبدأ بتوقعات عن مواد مصورة من عصر الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لكن الحكاية تتطور لتصبح مهتمة بإرث هذا المصور الذي اختفى بشكل غريب، ثم ظهر ظهورا غريبا بعد موته بسنوات، فكيف نقل “راؤول بيك” لنا هذه الرحلة؟ وكيف يصبح هذا الفيلم مناسبا للعصر الحالي الذي لم ينتهِ فيه الفصل العنصري أيضا؟
التقى موقع الجزيرة الوثائقية المخرج الهايتي “راؤول بيك”، وأجرى معه حوارا على هامش مهرجان كان، للحديث أكثر عن فيلمه المتوج بجائزة العين الذهبية للمهرجان.
حينما نصنع فيلما عن الماضي، فإننا أيضا نحكي حكاية عن الحاضر، كيف ترى أن حكاية المصور الجنوب أفريقي “إرنست كول” ذات صلة بما يحدث الآن في العالم؟
إنه أحد شروطي لصنع فيلم، لا أريد أن أغرق في الماضي، ولكني أصنع أفلاما لأجيب عن أسئلة، وهكذا كان الفيلم محاولة للإجابة عن أسئلة، نسأل أنفسنا ماذا يحدث في العالم الآن، عن الحرب، عن حق البقاء، عن إرث إنسان اختفى أكثر من 40 عاما، والآن يُكشف عنه.
نسأل أنفسنا عن كل الكفاح ضد الفصل العنصري، وعن رد فعل القوى الغربية على هذا الصراع، والتعامي عن المعاناة، والأكاذيب، أن يقولوا إنهم يريدون مساعدة الجنوب أفريقيين السود، ثم يستمرون مع ذلك في دعم نظام الفصل العنصري، لذا أرى أن لدينا أمثلة كثيرة لنشعر -ونحن نشاهد الفيلم- أننا في عالم اليوم.
ينتهي الفيلم بإخبارنا أنهم فقط لم يجدوا نيغاتيف “إرنست كول” في خزينة هذا البنك السويدي، لكن قرأنا أنهم أخيرا أعادوها في مايو إلى عائلته.
نعم كان ذلك في السابع من مايو، فقط قبل أسبوع تقريبا من المهرجان.
هل ترى أنهم أعادوها لعلمهم أن الفيلم سيعرض هنا في مهرجان كان؟
ماذا تظن؟ (ضحكة) لقد أدركوا حين أعلن عن الفيلم أن عليهم فعل شيء كما تعلم، واللحظة الأخيرة كانت خلال الأسبوع الماضي، لكن القصة لم تنتهِ، لأننا لا نعلم حتى الآن من وضع هذا الكم من النيغاتيف، 60 ألف نيغاتيف في خزينة البنك، لا أحد يعلم كيف وصلت إلى هناك، من وضعها هناك، ومنذ متى، ومن دفع؟
فهذا البنك لن يترك ثلاثة صناديق كبيرة في خزينة من غير أن يدفع أحد مقابل هذا، خزانة صغيرة بهذا الحجم -يشير بيده- تدفع مقابلا لها ما بين ألف إلى ألفي دولار سنويا، فتخيل معي كم يكلف هذا. القصة على هذا الجانب لم تنتهِ، لكن هذه ليست القصة التي تجذب اهتمامي، بل قصة “إرنست” هي القصة الرئيسية.
أعمالك ضد الفصل العنصري عميقة، كما رأينا في فيلميك “أنا لست زنجيك” و”إرنست كول”، وتنهي الفيلم أيضا بإشعارنا أن الكفاح ضد الفصل العنصري ما زال مستمرا، هل ترى أنك قد تصنع يوما ما فيلما عما يحدث في فلسطين، عن الشعب الفلسطيني؟
حمدا لله أنني لست مضطر لهذا، أولا لأنه سيكون أمرا معقدا، وثانيا لأن هناك صناع أفلام فلسطينيين عظماء، وصناع أفلام عظماء من إسرائيل ناقدين للغاية، صنعوا أفلاما من قبل وما زالوا، لدي صديقة رائعة هي “آنا ماري جاسر” تصور فيلما الآن، لذا حمدا لله أن هناك كثيرا ممن يعملون على هذا.
وهناك أيضا كثير من المواد المصورة التي التُقطت في غزة الآن، وأتمنى أن نستطيع استخدامها يوما ما، لكن من الجيد أنني أعلم أن هناك أفلاما، ليس من الضروري في هذه اللحظة، لكن بغض النظر عما سيحدث في المستقبل، فأنا أعلم أننا يجب أن نسرد القصة بشكل صحيح.
مواد الأرشيف.. رحلة بصرية إلى أيام الفصل العنصري
فيلم “إرنست كول” يعتمد أساسا على مواد أرشيفية، من صور ومقاطع فيديو التقطها المصور الجنوب أفريقي في أحياء وشوارع جنوب أفريقيا، ثم بعد ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، ويصاحب هذه المادة المصورة صوت راوٍ يعرّف نفسه بأنه “إرنست كول” نفسه، وتتخلل هذا الحكي مداخلات من أصدقاء وأفراد عائلة “إرنست كول”، يخبروننا كيف عاش حياته، وكيف انتهت سريعا.
لقد قدّم المصور الجنوب أفريقي بصوره تكثيفا للحياة في عصر الفصل العنصري، من واجهات المحال التجارية التي تمنع دخول السود، إلى وسائل المواصلات التي تشترط فصلا كاملا بين الأوروبيين والسود، فنرى السود متكدسين في عربات قديمة ومجبرين على الانتظار في أماكن ضيقة، بينما ينعم الأوروبيون بمساحات شاسعة وعربات نظيفة وحديثة.
تبدو اللقطات التوثيقية والصور كافية للتعبير عن حجم الظلم الواقع على أهل جنوب أفريقيا في هذا الزمن، حتى من غير تعليق صوتي يصف ذلك.
يعيد المخرج “راؤول بيك” هنا نفس الطريقة التي اتبعها في فيلمه السابق “أنا لست زنجيك”، فيستخدم صوت الممثل “لاكيث ستانفيلد” في دور “إرنست كول” ليشعرنا أننا نستمع للحكاية من صاحبها، حتى ولو كان قد فارق الحياة.
“إرنست كول”.. هجرة من العنصرية إلى العنصرية والغربة
بعد بدايته في مجال التصوير الفوتوغرافي في جنوب أفريقيا، ينتقل “إرنست كول” إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الستينيات، وكان حينها شابا عشرينيا، ويظن أنه قد ذهب لأرض الحرية، لكننا نرى من خلال أحداث الفيلم أنه مر بنفس المعاناة في الولايات المتحدة الأمريكية.
تضاف لمعاناة العنصرية الأمريكية أيضا معاناته بشعور الغربة، ومع أنه وثّق الأحداث الهامة التي مر بها المجتمع الأمريكي في تلك الحقبة من خلال حركات الحقوق المدنية الاحتجاجية، وفي مقدمتها حركات الدفاع عن حقوق الأمريكيين الأفارقة بقيادة “مارتن لوثر كينغ” ثم “مالكوم إكس”، والحركات الاحتجاجية غير السلمية كالنمور السوداء، فإن عمله قد انتُقد في هذا التوقيت، لكونه غير ملم بالشأن الأمريكي بشكل كاف.
ينقل لنا الفيلم بعد ذلك رحيل “إرنست كول” إلى السويد، ظانا أنه سيجد حياة أفضل من التي وجدها في أمريكا، لكنه لا يبقى طويلا لعدم وجود مجتمع أفريقي كبير هناك، ناهيك عن شعوره بالعزلة في المجتمع السويدي، مع استثناءات قليلة من أصدقاء قابلهم هناك.
عودة إلى الحياة بعد 25 عاما
يعتمد المخرج “راؤول بيك” بعد رحلة السويد على رؤية قصة حياة “إرنست كول” بشكل درامي، محاولا أن يفهم كيف انتهى به الحال مريضا مشردا في أواخر أيامه، لا يعمل ولا يدري أين ذهبت الصور واللقطات الأرشيفية التي التقطها طوال عقد من الزمان.
في هذه الفترة الغامضة من حياة “إرنست كول” يعتمد المُخرج على شهادات مجموعة من أصدقائه، وكذلك ابن أخيه الذي لعب دورا مهما في إيجاد أعمال “كول” المفقودة.
يتلقى ابن الأخ هذا بريدا إلكترونيا غريبا في عام 2017، بعد رحيل عمه عن الحياة بما يزيد عن ٢٥ عاما، فيطلب المرسل منه اسمه ورقم هويته وأسماء وأرقام هويات كل أفراد العائلة الأحياء، وحينما يستفسر عن سبب هذا يتلقى ردا بأن أعمال عمه المفقودة قد وجدت في بنك سويدي. هكذا دون أن يدري أحد من تركها، ومن دفع تكاليف وضعها في هذا البنك طوال هذه السنين.
هذا المفاجأة تحول الفيلم إلى دراما بحث عن الحقيقة في فصله الأخير.
“الحرية قادمة يوما ما”
ينهي “راؤول بيك” فيلمه المميز بلقطات أرشيفية للحظات خروج “نيلسون مانديلا” من محبسه، ويعرض لنا مساندة الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ورفضهم مقاطعته حتى النهاية.
يحدثنا “إرنست كول” في مقطع فيديو صوره حين فر مهاجرا من جنوب أفريقيا، فيخبرنا أن الحرية قادمة يوما ما، ومع لحظات خروج “مانديلا” نرى هذا الحلم وهو يتحقق.
حينما نصنع فيلما عن الماضي، فإننا أيضا نروي حكاية عن الحاضر، وفي فيلم “إرنست كول” يمكن الربط بسهولة شديدة بين ما حدث في جنوب أفريقيا في هذا التوقيت وما يحدث الآن في العالم، ولا سيما على أرض فلسطين، لا يظهر هذا الربط بشكل مباشر في الفيلم، لكن المشاهد يصل له بحكم لحظة عرض الفيلم. يستمر النضال ضد الأنظمة الاستعمارية، وضد الفصل العنصري، والحرية لا بد أن تأتي يوما ما.