كان جون لوك ميلانشون، الرجل الذي يأتي من أقصى اليسار الفرنسي وزعيم حزب “فرنسا المتمردة”، صوتا يكاد يكون نشازا في أوروبا، حين قال بعيد مجزرة المستشفى المعمداني في غزة: “هل من الصعب إدانة جرائم الحرب التي يرتكبها نتنياهو؟ هل من الصعب إدانة العنصرية التي تمنعنا من رؤية الفلسطيني أولا كإنسان؟ أين أصحاب الضمائر الحية والأرواح الجميلة؟”.
هو أحد الضمائر التي ما زالت حية في فرنسا وأوروبا، ولذلك يتعرض وحزبه “فرنسا الأبية” ونوابه، مثل النائبة دانيال أوبوتو وماتيلد بانو (رئيسة الحزب في الجمعية الوطنية) لحملة شرسة بتهمة “معاداة السامية”، تماما كما يتعرض لها برلمانيون ورياضيون وسياسيون وإعلاميون في الغرب فقط لأنهم يرون الفلسطيني كإنسان، وفق تعبير ميلانشون.
يتقدم ميلانشون الاثنين مظاهرة ضخمة ضمت أكثر 30 ألف شخص في باريس، موجها انتقادات شديدة لرئيسة البرلمان الفرنسي قائلا: “هذه هي فرنسا، في هذه الأثناء تحل السيدة يائيل برون-بيفيه (رئيسة البرلمان) في تل أبيب، من أجل تشجيع المجزرة.. ليس باسم الشعب الفرنسي”. وكان قبل ذلك قد خاطب الرئيس ماكرون قائلا: “سيدي الرئيس أوقف الدعم غير المشروط للحكومة الإسرائيلية التي ترتكب جرائم حرب بغيضة”.
Voici la France. Pendant ce temps Madame Braun-Pivet campe à Tel Aviv pour encourager le massacre. Pas au nom du peuple français ! pic.twitter.com/ruxMujq14k
— Jean-Luc Mélenchon (@JLMelenchon) October 22, 2023
ليس لليسار الفرنسي أو الأوروبي تأثير كبير في السياسة والمواقف الرسمية، ويختلف موقف ميلانشون الذي -خسر الرئاسيات الفرنسية 3 مرات- عن موقف ماكرون المؤيد لإسرائيل أو عن موقف رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي زينت مبنى المفوضية في بروكسل بالعلم الإسرائيلي، وزارت تل أبيب مواسية بنيامين نتنياهو صحبة رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا، التي رفعت بدورها العلم الإسرائيلي على مبنى البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، وكلتاهما تتعرض لانتقادات شديدة من أعضاء في البرلمان الأوروبي عن هذا الاندفاع السريع في دعم إسرائيل.
هناك أصوات غربية -أوروبية وأميركية- ذات بوصلة واضحة تقف مع القضايا العادلة والحق الفلسطيني، وتنظر بمعيار واحد ومتوازن لمسألة الحريات وحقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي، معظمها من المثقفين ودعاة السلام وأحزاب وشخصيات من أحزاب اليسار الأوروبي، غالبيتها في المعارضة وقليل منها في السلطة، من بينها حزب بوديموس الإسباني (اليسار الاجتماعي)، حيث كانت وزيرة الحقوق الاجتماعية في الحكومة الإسبانية أيوني بيلارا وزميلتها وزيرة المساواة إيرين مونتيرو، صوتين حيين منافحين عن الحق الفلسطيني.
لقد ذهبت بيلارا بعيدا مقارنة بالمواقف الرسمية، حين اتهمت “الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتواطؤ في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل”، وطالبت بتقديم بنيامين نتنياهو إلى الجنائية الدولية لارتكابه جرائم حرب. وهي توصم بكونها في خانة “ذلك اليسار الراديكالي” الأوروبي الذي تمقته إسرائيل، وتعتبره بروكسل مقوضا للإجماع الأوروبي.
وتصنف نائبة البرلمان الأوروبي الأيرلندية اليسارية كلير دالي بدورها في تلك الخانة، فهي من بين الضمائر الحية التي رفضت العدوان الإسرائيلي على غزة، ونددت بموقف الاتحاد الأوروبي المنحاز إلى إسرائيل، وشنت حملة على رئيسة المفوضية فون دير لاين وطالبت بتقديمها للمحكمة الجنائية الدولية. وصرحت كلير قبيل مظاهرة تضامن مع غزة في بروكسل:
“إن الطبقة العاملة في بلجيكا ضد القمع الاستعماري ومن أجل تحرير فلسطين، لقد أساء الناس في السلطة ذلك. نحن نبني عالما أفضل”
.
وتعد كلير دالي من أصوات الاحتجاج العالية في أوروبا، مثل أصوات أخرى يسارية تنشط منذ عقود في السياسة الأوروبية، وتقف تاريخيا مع القضايا العادلة، ولكنها لم تؤثر سابقا ولا راهنا في المواقف الرسمية الأوروبية والغربية إلا بشكل محدود، فهناك ارتباط عضوي بين السلطات الأوروبية وإسرائيل لم يتزحزح إلا نادرا.
الغرب الرسمي المنحاز
في أوج الحرب الإسرائيلية على غزة، زار الرئيس الأميركي جو بايدن تل أبيب تسبقه عشرات المجازر الإسرائيلية وأمامه أبشع مجازر العصر، وكرر مجددا الروايات المزورة التي روجت لها إسرائيل والإعلام الغربي، بما فيها رواية مسؤولية “الطرف الثاني” عن قصف المستشفى المعمداني، وتعهد بمزيد الدعم لإسرائيل، بل زاد عن ذلك بقوله: “إذا لم تكن إسرائيل موجودة لكنا أنشأناها”.
وجاء المستشار الألماني أولاف شولتس بدوره صامتا عن مجزرة كبرى مروعة ضد الإنسانية، وأتى بعده رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، ولم يتحدث عن المجازر في غزة، وأعلن دعمه الكامل لإسرائيل، وكذلك فعلت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، ومثلها فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي دعا إسرائيل إلى “رد قوي وعادل”.
يحتج نشطاء السلام والمعارضون على هذا التدافع الغربي الكثيف لزيارة تل أبيب ولقاء نتنياهو في أوج الحملة العسكرية على غزة والمجازر اليومية التي ترتكب، ورغم الكلمات القليلة التي يسوقها القادة الغربيون على استحياء عن “حل الدولتين”، فإن زياراتهم تلك تعتبرونها دعما كاملا لإسرائيل.
وباستثناء أيرلندا وأسكتلندا والنرويج وإسبانيا، تتماهى المواقف الغربية الرسمية بشكل كامل مع السرديات الإسرائيلية، ومن زاوية تاريخية ليست هذه المواقف مستغربة، فالمنظومة الغربية صمتت على كل المجازر الإسرائيلية حاضرا وتاريخا، رغم أنها أصدرت منذ عقود عشرات المواثيق والقوانين والعهود التي فرضتها على العالم لتؤكد على الديمقراطية والعدالة واحترام حقوق الإنسان والحريات، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا تطبقها إلا وفق حاجاتها ومصالحها وانحيازاتها.
وتكمن المفارقة في التضييقات الشديدة التي تمارسها الحكومات الغربية على الآراء والمواقف التي تختلف مع التوجه الرسمي في مقاربة القضية الفلسطينية، ويعبر عنها الصحفي والكاتب البلجيكي بودوان لويس في موقع “أوريان 21” بقوله: “تبدو حرية التعبير محل تساؤل في أوروبا، وفي مفارقة كبرى يكون ذلك باسم الدفاع عن دولة إسرائيل تضرب بدورها عرض الحائط بمبادئ القوانين الدولية وحقوق الإنسان بشكل يدعو للدهشة”.
ففي وقت يرفع فيه العلم الإسرائيلي على مقر المفوضية الأوروبية والبرلماني الأوروبي، يتم منع عضو البرلمان مانو بينيدا عن تكتل اليسار المتحد الإسباني من وضع الكوفية الفلسطينية خلال اجتماع البرلمانيين، رغم تأكيده أنها تعد رمزا ثقافيا وليس سياسيا.
وانتقد بينيدا -وهو أيضا رئيس وفد البرلمان الأوروبي للعلاقات بين الاتحاد وفلسطين- ذلك الموقف، مشيرا أيضا إلى حذف مقاطع فيديو له من على وسائل التواصل الاجتماعي قائلا:
“اللوبي الصهيوني ومخالبه، يحاولون إسكات التضامن مع فلسطين، لكنهم لم ينجحوا”
من جهتها، هاجمت مانون أوبري عضو البرلمان مجموعة اليسار الاشتراكية الفرنسية الديمقراطية رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين عن “انحيازها المفضوح لإسرائيل”، وذكرتها بأن “3 آلاف من سكان غزة ثلهم من الأطفال قد قتلوا في القصف الإسرائيلي”.
وتشير هذه التصريحات إلى أن الدول الغربية وقعت في فخ التناقض في مواقفها هذه، حين أصدرت تشريعات تجرم حركات مقاطعة إسرائيل والتضامن مع القضية الفلسطينية (بي دي إس) وتخضع المتظاهرين السلميين فيها لرقابة شديدة وتهدد بتغريم وطرد من ينتقد إسرائيل أو يعبر عن تأييده للحق الفلسطيني، ويوصم كل صاحب رأي مختلف بأنه “معاد للسامية” وفق الإعلان الذي صادق عليه مجلس العدالة والشؤون الداخلية للاتحاد الأوروبي في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2018.
وكان النائب في البرلمان الأيرلندي ريتشارد بويد عن تحالف اليسار واضحا أيضا، حين هاجم ما سماه “النفاق المطلق” وازدواجية المعايير التي ينتهجها الغرب في النظر إلى الجرائم ضد الإنسانية بقوله:
“كيف يعامل الفلسطينيون كعرق أدنى ويمنعون من الماء والغذاء ومع ذلك لا تسلط عقوبات على سياسة الأبارتايد التي تمارسها إسرائيل؟”
.
فوبيا الاختلاف من الرياضة إلى السياسة
قبل سنوات عبر اللاعب الألماني من أصول تركية مسعود أوزيل عن هذا التناقض الغربي حين قال: “أنا ألماني عندما نفوز، لكنني مهاجر عندما نخسر”، وتحت سطوة مقولات الحرية الغربية، لم ينل موقفه ما يستحق من تمحيص، وفي فرنسا تحضر أيضا مقولة “الأفارقة من أجل الرياضة”، إذ إن دينامية الفوز والحضور القوي للاعبين الأفارقة تجعلهم موضع تقدير ظرفي، ويغيب ذلك عند الهزائم أو الاعتزال أو فقدان البريق أو إبداء موقف يختلف مع السرديات القائمة.
كان اللاعب الفرنسي من أصول جزائرية كريم بنزيمة بطلا حين قاد منتخب فرنسا إلى الانتصارات ومصدر فخر حين حاز الكرة الذهبية لعام 2022، لكنه أصبح الآن غير جدير بالجنسية الفرنسية، ولم يعد يستحق الكرة الذهبية التي منحتها مجلة فرانس فوتبول، واستدعيت خلفيته العرقية والدينية بمجرد أنه تضامن إنسانيا مع أهالي غزة ضحايا القصف الدموي الإسرائيلي للمستشفى المعمداني.
هذه الحملة الممنهجة -التي تتناقض مع كل الحقوق والحريات الغربية- طالت أيضا لاعبين وناشطين وسياسيين وحقوقيين وإعلاميين عربا وأفارقة يوصمون بتهمة “الدفاع عن الإرهاب” و”التحريض على الكراهية أو العنف”، فيتعرضون لحملة ترهيب تستهدف مستقبلهم ووضعهم برمته في البلدان التي وولدوا ونشؤوا فيها، واكتشفوا أنهم يرجعونهم إلى أصولهم الأولى بمجرد التعبير عن موقف مختلف.
وفي حالة رسام الكاريكاتير في صحيفة ذي غارديان البريطانية ستيف بيل، فإن حرية الفكر والرأي والتعبير المكفولة والمقدسة في الغرب توقفت بمجرد انتقاده في رسم كاريكاتيري ممارسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حربه على غزة، فطرد من عمله الذي زاوله مدة 40 عاما، رغم أن الصحيفة رفضت نشر الكاريكاتير في الأصل.
وبات الناشطون السياسيون والإعلاميون والصحفيون في مؤسسات إعلامية غربية يخضعون لضغوط وتضييقات شديدة تستهدف آراءهم ومواقفهم الشخصية، لتتلاءم مع السرديات الإسرائيلية التي يتبناها معظم الإعلام الغربي، تحت طائلة الفصل وإنهاء العقود.
الضمير الشعبي
تشير المظاهرات الضخمة التي ضمت أكثر من 100 ألف شخص في لندن وتلك التي حضر فيها نحو 70 ألفا في برشلونة، أو تلك التي ضمت عشرات الآلاف في باريس، وفي بقية مدن العالم، أن هناك منظومة عالمية أخرى أكثر عدلا واتساقا في إنسانيتها، هي تلك التي تعبر عنها شعوب جنوب العالم، وممن يعتمدون بوصلة لا تحيد في الدفاع عن قيم الحق والحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان والشعوب، لكن تلك المنظومة الشعبية التلقائية لا تسندها عناصر القوة اللازمة للتأثير.
لقد هزت مجزرة المستشفى المعمداني بوحشيتها وفداحتها والمجازر الإسرائيلية المتواصلة ضمير العالم الحر والمؤسسات الحقوقية الدولية المستقلة والشارع العربي والإسلامي والعالمي ودعاة السلام، وقد استفزهم هذا الانحياز الرسمي للدول الغربية لإسرائيل.
وتعبر هذه المظاهرات والتحركات الشعبية عن خيبة أمل في منظومة غربية بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والإعلامية المتحكمة في مفاصل العالم، وتدعم المجازر والتطهير العرقي والحصار المطبق لشعب أعزل وتطمس الحقائق وتزيفها بلا رادع أخلاقي.
وبالنسبة لملايين المتظاهرين حول العالم، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة والدعم الغربي لها هي نتاج ضعف المؤسسات الدولية، من بينها منظمة الأمم المتحدة التي يتحكم فيها الفيتو الغربي، والتي طالما كانت سلاحا فائض القوة بيد الدول الغربية ضد قضايا العالم البائس وشعوبه وخاصة الشعب الفلسطيني.
يدرك هذا الضمير العالمي الحي والمضاد للسرديات الرسمية الذي يمثله دعاة السلام ومعظم اليسار الأوروبي والعالمي الذي تفجعه الجرائم الإسرائيلية، أن النظام الدولي السائد والمهيمن يمارس معايير مزدوجة في مقارباته السياسية والحقوقية وتبيح الجرائم أو تسكت عنها متى كانت متناسبة مع مصالحه وتوجهاته، ويدرك أيضا أن قبضة الشمال المهيمن على الجنوب المهمش هي موطن العطب الحقيقي.
كان موقف ميلانشون وكلير دالي ومانون أوبري، وغيرهم من المثقفين والسياسيين من أصحاب الضمائر الحية في أوروبا والعالم ممن يخرجون في مظاهرات من القضية الفلسطينية هو نفسه ما قاموا به ضد هؤلاء الذين حاصروا العراق قبل ذلك، فمنعوا عن أطفاله الحليب والدواء وأقلام الرصاص والحبر والطباشير لمدارسهم.
يعتقد هؤلاء أن العالم يحتاج إلى نموذج جديد وفعّال وشفاف للعلاقات الدولية “يرى الفلسطيني كإنسان”، ويقوم على المساواة الحقة واحترام حقوق الإنسان دون تمييز واحترام إرادة الشعوب دون انحياز، ويحتاج إلى مؤسسات دولية لا تخضع لضغوط القوة والهيمنة والتفوق العسكري ورواسب التاريخ الاستعماري، ليتشكل طريق آخر للعبور إلى العدالة، على حد قول النائب الإسباني بالبرلمان الأوروبي مانو بينيدا.