بدأت إيران ليل الرابع عشر من أبريل/ نيسان الجاري هجومًا على إسرائيل؛ ردًا على الهجوم الذي استهدف قنصليتها في العاصمة السورية دمشق مطلع الشهر الجاري، ولم تتبنّه إسرائيل بشكل صريح. ويُعدّ هذا الهجوم الأول الذي تشنه إيران، انطلاقًا من أراضيها على إسرائيل؛ ليخرج بذلك صراع الظل الطّويل الأمد بين البلدين إلى العلن.
ورمزية التحوّل هنا تطغى على النتائج المادية المنتظرة المترتبة على الهجوم. في السابق، فضل الإيرانيون قتال إسرائيل والولايات المتحدة، عبر شبكة وكلائهم المنتشرين في المنطقة؛ لأنه جنى لهم فوائد عالية بتكاليف أقل. ومع هذا التحول في الصراع، فإن الإسرائيليين يأملون أن ترتفع هذه التكاليف على طهران، منذ الآن فصاعدًا.
هناك أربع أولويات ثابتة في الإستراتيجية الإيرانية، ستتعزّز على الأرجح بعد الهجوم الإيراني. الأولى أن الانخراط المباشر في حرب هو أكبر المحظورات وآخر الخيارات الأكثر سوءًا. والثانية أن التسليم بنقاط ضُعف إستراتيجية “الصبر”، أقل تكلفة من محاولة معالجتها بردة فعل قوية تجلب تكاليف باهظة. والثالثة أن الاعتماد الرئيسي على شبكة الوكلاء سيبقى يُحقق فوائد عالية بتكاليف مباشرة أقل. والرابعة أن حجم المكاسب التي يُمكن أن تخرج بها إيران من ارتدادات حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مرهون بقدرتها على تحقيق الأولويات الثلاث المذكورة.
مع ذلك، فإنّه حتى في الوقت الذي صمّمت فيه إيران هجومها على إسرائيل للموازنة بين معاقبتها على استهداف قنصليتها، واستعراض قوتها الذاتية والإقليمية، وبين تجنّب أن يؤدي الردّ إلى حرب مباشرة، فإن الصراع الإسرائيلي – الإيراني انتقل الآن إلى اللعب على حافة الهاوية. وإذا كان هناك من خلاصة واضحة يُمكن الخروج بها لهذا التحول، فهي أن القواعد الصارمة، التي أدارت الصراع في السابق وحالت دون انفجاره، أصبحت أقل شأنًا في الحسابات الإيرانية والإسرائيلية.
ومن الواضح أن المنحى الخطير، الذي سلكه الصراع منذ الهجوم على القنصلية الإيرانية، يستمدّ قوته من عاملين أساسيين: أولهما البيئة الأمنية الإقليمية المضطربة التي أفرزتها حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول بين إسرائيل وحركة حماس، وثانيهما تعامل كل من إسرائيل وإيران مع حقبة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، على أنها معركة لإعادة تشكيل قواعد الردع المتبادل بينهما.
ستبقى التكاليف الباهظة المترتّبة على حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران على الطرفين تعمل كرادع قوي لتجنّبها. لكن الرغبة المتبادلة في تجنب مثل هذا السيناريو، تُصبح أقل قيمة في إدارة الصراع عندما يفقد الطرفان قدرتهما على تشكيل الفعل، وردة الفعل بطريقة محسوبة ودقيقة، وعندما تُرتكب الأخطاء القاتلة.
فالحرب لا تستأذن أطرافها قبل أن تُصبح واقعًا. وبمعزل عن الكيفية التي ستتعامل بها إسرائيل مع الهجوم الإيراني، فإن العوامل الأساسية، التي مكّنت كلًا من طهران وتل أبيب في السابق من الحفاظ على وتيرة مستقرة في الصراع ومنع انزلاقه إلى نقطة الانفجار الكبير، لم تعد قائمة في حقبة ما بعد حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
فمن جانب، تخلت إسرائيل عن المحظورات السابقة في تصعيد معركتها ضد الوجود الإيراني في سوريا من خلال استهداف منشأة دبلوماسية إيرانية في الخارج للمرَّة الأولى، وقبلها اغتيال قادة كبار في الحرس الثوري الإيراني على الأراضي السورية. ومن جانب آخر، فإن إستراتيجية “الصبر” التي تنتهجها إيران منذ حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أظهرت نقاط ضعف طهران في هذا الصراع. كما أن التأثير الأميركي، الذي كان له في السابق الدور الأكبر في الحفاظ على وتيرة مستقرة من صراع الظل الإسرائيلي – الإيراني، لم يعد يعمل الآن كضابط إيقاع قوي له.
ففي الوقت الذي تفقد فيه واشنطن المزيد من تأثيرها على تل أبيب – لإعادة تشكيل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتتركز اهتمامات إدارة الرئيس جو بايدن على الحد من آثار حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول على الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، وعلى فرص بايدن في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأميركية – فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يواجه مأزقًا كبيرًا في حرب غزة ومُعضلة أخرى تتمثل في تصاعد تهديد حزب الله اللبناني على الحدود الشمالية، ينظر إلى تصعيد المواجهة مع إيران على أنه مخرج محتمل لإطالة فترة بقائه في السلطة، وإجبار الولايات المتحدة على إعادة تأكيد التزامها بأمن إسرائيل.
الحقيقة الواضحة، التي سيتعين على واشنطن التعامل معها بعد هجوم الثاني من أبريل/ نيسان على دمشق، أن قدرة إيران وإسرائيل على ضبط الفعل وردة الفعل لم تعد عامل جذب لكلتيهما.
إن الحقبة الجديدة من الصراع الإسرائيلي – الإيراني تستمد قوتها من تصور مشترك بأن حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ستُعيد تشكيل الشرق الأوسط على نطاق واسع، وأن الولايات المتحدة لم تعد قادرةً أو راغبةً في مواصلة لعب دور القوة العالميّة المُهيمنة في الجغرافيا السياسية الإقليمية.
مع ذلك، من غير المتصوّر أن تتخلّى الولايات المتحدة عن حليفتها إسرائيل في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الدولة العبرية، حتى في الوقت الذي تُظهر فيه واشنطن بشكل متزايد امتعاضها من سلوك نتنياهو في الحرب.
وهذا التصور يعمل كمُحفز قوي لنتنياهو؛ لنشر حرب غزة في الشرق الأوسط؛ لاعتقاده بأن دفع إيران إلى تعميق انخراطها في حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، سيترك خيارات محدودة أمام واشنطن، وسيُجبرها على التفكير في مخاطر التراجع في الشرق الأوسط.
حقيقة أن حربًا إسرائيلية على حزب الله في لبنان تلوح في الأفق، تُعطي لمحة واضحة عن التداعيات الهائلة لخروج الصراع الإسرائيلي – الإيراني عن السيطرة على الأمن والاستقرار الإقليمي.
إن الطرق المتبقية لتجنيب الشرق الأوسط مثل هذا السيناريو الكارثي تمر أولًا في قدرة كل من طهران وتل أبيب على فرض قواعد ردع جديدة متبادلة دون الانجرار إلى حرب مباشرة، وثانيًا في الدور الذي لا يزال بمقدور الولايات المتحدة لعبه لتجنب انتشار أوسع نطاقًا وأكثر خطورة لحرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول في الشرق الأوسط، وثالثًا في الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس، يؤدي إلى وقف طويل الأمد للحرب على غزة.
مع ذلك، فإن الجنون الذي يُهيمن على إدارة نتنياهو لحرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول وارتداداتها الإقليمية، وانكشاف نقاط ضعف إستراتيجية “الصبر” الإيراني، والتقييمات الأميركية الخاطئة للحرب منذ البداية، تزيد من وعورة هذه الطرق الثلاث. وفي ضوء ذلك، سيتعين على الشرق الأوسط الاستعداد للتعامل مع صراع لم يعد بالإمكان التنبّؤ بمساراته وحدوده وخطوطه الحمراء.
لقد أظهرت حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول مدى هشاشة الأمن الإقليمي. وأي انفجار محتمل في صراع الظل الإيراني – الإسرائيلي سيؤدي إلى انهيار ما تبقى من مفهوم الأمن الإقليميّ.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.