تتصاعد الأصوات الحقوقية والتضامنية في العالم مع فلسطين بالتزامن مع تجاهل حكومي غير مسبوق لضغط الشارع والمطالبات بوقف الجريمة.
وفي حين تتواصل الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين في غزة وسط دعم دولي غربي للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، يتصاعد سؤال الجدوى من القانون الدولي، الذي ظهر في هذه المرحلة كأكثر التعبيرات المثيرة للجدل.
تتكثف النداءات الإنسانية والحقوقية على مستوى العالم من أجل وقف المجزرة الإسرائيلية في غزة، في حين تبدو الحركة الحقوقية العالمية أمام تحول حقيقي قد يهدد بتقويض المبادئ الدولية القائمة، التي يرعاها القانون الدولي الإنساني والمبادئ القانونية الناظمة للنزاعات المسلحة.
فـبعد أكثر من شهر على استخدام إسرائيل إستراتيجية العقاب الجماعي، وارتكابها أوضح صور جرائم الحرب، بحسب وصف منظمات حقوقية دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة “العفو الدولية”، لا تزال الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ترفض الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
وتمثل الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين في غزة واحدة من أوضح السوابق في العالم منذ أكثر من 70 عاما، وهي شواهد يمنحها الغرب دعما غير مقيّد لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فقد كشفت وثيقة سرية مسربة، كتبها الملحق العسكري في السفارة الهولندية في تل أبيب، عن أن إسرائيل تقوم “وبشكل متعمد في التسبب في إحداث دمار واسع النطاق للبنية التحتية والمراكز المدنية” في غزة. في حين أكدت الوثيقة الدبلوماسية التي سربتها صحيفة “إن آر سي” الهولندية أن الجيش الإسرائيلي ينتهك قوانين الحرب. مع ذلك لم تتخذ حكومة هولندا موقفا مغايرا، بل تابعت كمعظم الدول الأوروبية رفض المطالبة بوقف إطلاق النار.
خطر حقيقي
ولا يبدو أن الموقف الغربي مرتبط بالحقائق بقدر وجود إرادة سياسية جماعية على دعم إسرائيل وحمايتها من المحاسبة، وهو ما يثير قلق المنظمات الدولية الحقوقية ومخاوفها، التي ترى في هذه المواقف تقويضا للمبادئ الأساسية القانونية التي يقوم عليها النظام الدولي الحالي. ففي تصريح خاص للجزيرة نت، قال عمر شاكر، مدير منظمة “هيومن رايتس ووتش” في إسرائيل وفلسطين، إن “المعايير المزدوجة للحكومات الغربية لا تلحق الضرر فقط بالحماية المدنية للفلسطينيين، وإنما لها تداعيات على المستوى العالمي، لأنها تتحدى الالتزام الأساسي لهذه الدول بالقانون الدولي والقواعد التي يستند لها النظام الدولي”. وأشار شاكر إلى أن عدم الاعتبار لهذه الالتزامات يشكل خطرا حقيقيا على المبادئ الحقوقية، ويقوض قدرة المجتمع الدولي على حماية المدنيين في كافة أنحاء العالم.
وأضاف شاكر أن ما نشهده في قطاع غزة جريمة حرب لا يمكن إنكارها، مشيرا إلى أن منظمته وثقت جرائم حرب واضحة ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية، مثل تهجير السكان واستهداف المستشفيات والمرافق الطبية، إضافة إلى استخدام الفوسفور الأبيض بدون تمييز ضد مناطق مكتظة بالسكان. كما أشار شاكر إلى أن “رد الولايات المتحدة وقادة غربيين آخرين على الأزمة الإنسانية في غزة يسلط الضوء على المعايير المزدوجة التي تتعامل فيها هذه الحكومات مع الصراع”.
وفق تعبيره، “فقد أدانت هذه الحكومات بشكل صحيح اعتداءات في سياقات أخرى في سوريا وأوكرانيا، والهجوم الذي قادته حماس يوم 7 أكتوبر، لكنهم فشلوا في الإشارة إلى جرائم الحرب الواضحة التي ترتكبها إسرائيل”.
ويتزايد قلق العاملين في حقل حقوق الإنسان من أفراد ومؤسسات في ضوء الحماية الغربية المعلنة لانتهاكات إسرائيل بحق المدنيين في غزة. حيث تشتد حملات تضييق على حرية التعبير فيما يتعلق بفلسطين في أوروبا والولايات المتحدة بشكل لم تسجله هذه الدول في الماضي. فقد شهد الشهر الأخير اعتقالات ومحاكماتٍ لأفراد على خلفيات التظاهر أو الهتاف أو رفع شعارات تمّ تفسيرها بطريقة تؤدي للإدانة القضائية.
حملات شيطنة وتشويه
كما تواجه منظمات حقوقية حملات شيطنة وتشويه سمعة مستمرة في أكثر من دولة غربية. ففي بريطانيا تواجه الحركة الحقوقية والتضامنية بشكل عام اتهامات بمعاداة السامية والكراهية، كان آخرها على لسان وزيرة الداخلية المقالة، سويلا بريفرمان، التي اتهمت كل المتضامنين بـ”متظاهري الكراهية”. أما في ألمانيا، فقد أصدرت الحكومة تعليمات صارمة باعتبار بعض الممارسات والهتافات التضامنية جرائم قانونية، مثل لبس الكوفية الفلسطينية في أماكن محددة، أو هتاف “من البحر إلى النهر، فلسطين ستكون حرة”، تحت ذريعة أنها دعوة إلى إنكار حق إسرائيل في الوجود، والذي يُعتبر معاديا للسامية وفقا لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست “آي إتش آر إيه” (IHRA)
في سياقٍ متصل، اعتبر أنور الغربي، مدير مركز جنيف للديمقراطية وحقوق الإنسان، في تصريحه للجزيرة نت، أن ما تشهده الحركة الحقوقية العالمية غير مسبوق في التاريخ المعاصر، إذ يعجز الأمين العام للأمم المتحدة عن تثبيت موقف بسيط مثل المطالبة بوقف إطلاق النار، على حد وصفه.
وتابع الغربي، أنه وبالرغم من ذلك، فإن المنظومة الحقوقية المدنية هي التي ستأتي بالنتائج الإيجابية في ضوء التحرك المكثف من قبل الجمعيات والمبادرات الحقوقية عبر العالم، والتي انضم لها مئات الحقوقيين والمحامين الدوليين. كما طالب الحقوقي السويسري من أصلٍ تونسي المقيم في جنيف، بضرورة التفريق بين المنظومة الحقوقية الرسمية والعاجزة من جهة، والمنظومة الحقوقية المدنية الثابتة والمستمرة في الصعود من جهةٍ أخرى، والتي يراها ذات تأثير مستقبلي سيكون كبيرا.
مبادرات حقوقية
وأكد الغربي على الأهمية الكبيرة لتأثير المبادرات الحقوقية، خاصة أن هناك وعيا بخطورة ما يحدث. ووفقا لوجهة نظره، فإنه “عندما يصبح الجميع غير قادر على إيقاف الجاني، سيتعزز الشعور أن الجميع مستهدف، وأن العدالة القائمة لم تعد تحميه، وهذا الذي حفّز هذه الهبة الكبيرة من كل البلدان”. ويختم الغربي كلامه بالقول إن “الموقف الدولي اليوم، وعجز المنظومة القانونية الدولية القائمة، عزز المبادرات الفردية لتحقيق العدالة”، مشيرا إلى فكرة المقاطعة التي تتنامى اليوم، بما فيها المقاطعة الأكاديمية.
وتسجل الحرب الحالية على غزة تعاظم الشعور العام دوليا بتراجع الحماية القانونية للحريات العامة. وهو الأمر الذي دفع عددا من موظفي وكالات إعلامية دولية للاستقالة، كما حصل في قناة “بي بي سي” BBC البريطانية، وصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية. وقد تنامت مؤخرا في ضوء تطورات الحرب على غزة ظاهرة الاستقالات الاحتجاجية في الغرب، التي تشير إلى فشل المؤسسات والكيانات الحكومية وشبه الحكومية الالتزام بمعايير متساوية في احترام الحريات وحقوق الإنسان. ففي هولندا انسحب 12 مخرجا وفنانا من مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية “آي دي إف إيه” (IDFA)، الذي يُعتبر المهرجان الأكبر من نوعه على مستوى العالم. فقد أشارت صحيفة “الغارديان” البريطانية إلى أن الانسحابات جاءت على خلفية إدانة إدارة المهرجان لهتاف فلسطيني كان قد حصل خلال الجلسة الافتتاحية للنشاط. وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي استقال 8 وزراء دفعة واحدة من حكومة الظل التي يقودها حزب العمال البريطاني المعارض، بعد تصويت الأخير ضد مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزة داخل مجلس العموم.
وقد تزايدت مؤخرا المبادرات غير الرسمية في المجال الحقوقي، كان أهمها مبادرة المحامي الدولي الفرنسي جيل ديفرز الذي نجح في تجميع ما أطلق عليه “جيش من المحامين” من مختلف الجنسيات في العالم، حيث وصل المستجيبون لدعوة ديفرز إلى حوالي 300 محام وحقوقي دولي. ويعتزم هؤلاء التوجه بمفلاتهم إلى محكمة الجنايات الدولية.
وبغض النظر عن جدوى هذا الحراك، يرى حقوقيون، مثل أنور الغربي، أنه قد يعكس تراجعا في الإيمان بالآليات السائدة لتحقيق العدالة عبر الحكومات، وهو ما قد يسهم في إعادة تشكيل الحركة الحقوقية الدولية، من طلب العدالة من النظام السائد إلى صناعتها بالضغط المدني والمبادرات الفردية.