كثيرا ما ينشغل المبدعون بالبحث عن الزمن الضائع، فيعودون إلى تقليب صفحات الماضي. وفي فيلم “البوسطجي” كثيرٌ من الحنين ورثاء الفقد، فقد جعل الكاميرا -وهي تشكل صورة ساعي البريد- تستدعي أنماطا من حياتنا، لا تفتأ تتوارى وتختفي شيئا فشيئا، لعجزها عن مسايرة التقدّم التكنولوجي اليوم. ولكن معها تختفي علاقات إنسانية بنبضها الحميم.
يأخذنا فيلم “البوسطجي” إلى عوالم ساعي البريد بين الحاضر والماضي، وما يحمل بين يديه من قلوب تقطر بالمشاعر بين الحروف، ومن هموم ينتظر فرجها آخرون على ضفاف المتراسلين، وهو من إخراج المصري ثامر عزت، وإنتاج الجزيرة الوثائقية (2020).
“البوسطجية اشتكوا من كثر مراسيلي”
يبدأ الفيلم بقراءة لفقرات متبادلة بين المتراسلين قديما، وتردنا من خارج الإطار. فيعرض أصواتا لشرائح عدة في المجتمع، منها الأب المغترب الذي يضنيه البعد عن عائلته، والزوجة الوفية التي يشقيها الزوج الخائن، والعاشق الملتاع الذي يعوّل على سحر البلاغة لتليين قلب المعشوق، ومنها الرسائل الوظيفية الصارمة والوعظية المعلّمة.
ويجرى ذلك على أنغام أغنية الفنانة رجاء عبده:
البوسطجية اشتكوا من كثر مراسيلي
وعيونى لما بكو دابت مناديلي
وكان قد كتب كلماتها أبو السعود الإبياري، ولحّنها محمد عبد الوهاب لفيلم “الحب الأول” (1945).
فيجرّنا إلى فرجة مغرقة في الحنين، ويجعلنا نبحث فيها عن أنفسنا في حقيقة الأمر، فنرصد موقفا عشناه في واقعنا أو في خيالنا ونقارن ردود أفعالنا بردود غيرنا. وهكذا ننخرط في قصص بعيدة عنّا لا صلة لنا بأصحابها، ونتطلّع إلى معرفة تفاصيلها. وبفخ القص اللذيذ يجعلنا الفيلم نتعرّف على مهنة ساعي البريد من زوايا مختلفة كثيرا ما تغيب عنّا.
أبو العلاء السيد.. طوّاف بالرسائل ينتظره الناس بفارغ الصبر
كان من شخصيات الفيلم المميّزة أبو العلاء السيد، فقد اختاره المخرج ليكون نموذجا نرصد به مهنة ساعي البريد بين زمني الماضي والحاضر أوّلا، ولندرك من تجربته أنّ المعاصرة تجعلنا نغترب أكثر فأكثر عن إنسانيتنا، على ما توفره لنا من الرفاه المادي.
فقد انخرط أبو العلاء في هذا العمل منذ سبعينيات القرن الماضي، فكان قبل استقراره في القاهرة “طوّافا” يقطع نحو 50 كيلومترا يوميا، ليحمل الرسائل إلى المناطق النائية، على ظهر حمار يكلفه علفه خُمس راتبه الشهري.
ولكن طول معاشرته للناس وتحصيله للمكانة الأدبية بينهم، جعلت علاقته بهم عاطفية، ودفعته إلى رفض ترك الطواف، ليستقرّ في المكاتب المغلقة بمهام وترقيات أرفع. لقد أصبح أبو العلاء يغوص في تفاصيل حياة الأهالي، فيدخل بيوتهم ويقاسمهم طعامهم، ويُسأل عنه بقلق كلّما طال غيابه عنهم.
بل إنه قد بات مؤتمنا على مصائرهم وأسرارهم، فعلى كاهله يقع تبليغ الرسائل التي تفِد من المحاكم، لتعلم بمواعيد الجلسات، أو بيانات ضرائب لا بدّ أن تدفع في أوانها، ومواعيد البيع بالمزاد العلني، والشيكات، ونتائج الامتحانات، ورسائل العشّاق. فإذا بمهنته التي أرادها مصدرا لتأمين ضرورات حياته تصبح هي الحياة نفسها.
هواة المراسلة.. مجتمع مسالم راقٍ يعيش على هامش الحروب
يمثل مصطفى سليمان النموذج الثاني الذي يعرضه المخرج، ليجعلنا نعيش عالم البريد وخدماته في ذلك الزمان، فقد كان مصطفى مراهقا هاويا للمراسلة في مطلع القرن العشرين، وكانت هوايته نافذة يفتحها على العالم الرّحب، لكسب الصداقات والمعرفة بالمجتمعات المختلفة.
فيذكر بكثير من الحنين أسابيع كان يقضيها في انتظار رسالة ترد إليه من وراء البحار من أصدقائه، ويعرض طقوس هذا المجتمع المسالم الذي يتميّز بتقاليده الخاصّة، فلا يمكن للمرء أن ينخرط فيه ما لم يحترمها ويلتزم بقيمها.
فقد كان المترسّل يحرص على الجانب الجمالي في تواصله مع الآخر، كاختيار شكل الظرف ولونه واختيار الطابع، ونوع الهدية التي يضمنها داخله، وطريقة طي الرسالة، واختيار العبارة الأنيقة لشكر ساعي البريد على الصفحة الخارجية، وغير ذلك مما يدرّس اليوم في النقد الفني تحت عنوان “العتبات” التي تحمل دلالة موازية قد يخفيها النص، أو يجد عسرا في التعبير عنها.
أما الرّسائل فكانت -على نحو ما- شكلا من أشكال كتابة اليوميات أو المذكرات من جهة الأسلوب، وتواصلا وتثاقفا بعيدا عن الاحتراب والصدام الحضاري الذي يعيشه العالم، من جهة المضمون.
وقد كان مصطفى يحمل مسألة التّرسّل محمل الجد، ولأن كبرياءه الوطني يدفعه إلى أن يظهر أمام الآخرين بأفضل صورة، فقد اتخذ هوايته تمرينا في الكتابة، لتنمية زاده اللغوي، فكان يقضّي الأيام في تقليب قواميس اللغة الإنجليزية، ليعبّر عن أفكاره بجلاء.
“مغلق بلحسة، لأن القبلة لن تغلقه”.. ذكريات الرسائل العذبة
مما يعرضه مصطفى سليمان، قصته مع فتاة كندية منذ نحو ربع قرن من الزمن، ومع أن رياح المعاصرة ووسائل التواصل الاجتماعي قد عصفتا بهواية الترسّل، فإن مصطفى يحافظ إلى اليوم على صلته بها، فيعرض علينا المخرج لقاء بينهما على هذه المنصّات، ليتبادلا الذكريات حول مراهقتهما ومقاطع من رسائلهما القديمة.
فتعترف المرأة بأنها كانت تجهل تفاصيل العالم الخارجي، وتعيش تحت وقع أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، وتأثير وسائل الإعلام المحلية التي تصوّر الشّرق غارقا في التخلف والإرهاب وإهانة المرأة، وتائها في الصحراء العربية الممتدة، لذلك كانت تسأله هل يركب المصريون السيارات وتصل إليهم الأقمار الصناعية كبقية شعوب العالم.
أما هو فيعترف بما فعلته به العبارة المكتوبة على الظرف الخارجي: “مغلق بلحسة، لأن القبلة لن تغلقه”. فقد جعلته يتوهم أنها تقع في حبه، فيشكّل أسرة في خياله، ثم يحتار أين سيعيشان؟
ثم تفهم الفتاة دور الإعلام في تضليلها، وتدرك أنّ مشاكل الشباب متشابهة هنا وهناك، لأن الإنسان واحد وإن اختلفت التفاصيل. ويفهم هو أن ما كتبته فتاته ليس إلا نمطا يعتمده المترسلون “هناك”، مفرغا من المشاعر والنيات الخاصّة. ويدرك كلاهما أنّ التواصل اليوم أصبح أسرع، وأنّ تبادل المعلومات أصبح أغزر، ولكنّ طريقة تواصل الناس فقدت نبضها وحرارتها وأدبيتها، ولا أمل في استعادتها.
“إني أعيش على ذكرى حبيب خائن”.. حروف تفوح ثقافة وأدبا
يمثل المخرجُ السينمائي زياد وشاحي الزاويةَ الثالثة التي يجعلنا الفيلم ندرك بها خصائص التراسل الورقي، فقد ترك له والده المغرم بجمع التحف إرثا ضخما من الرسائل التي كان يزايد عليها لاقتنائها. وكان يستغرب هواية والده، حتى دخل إلى عالمها، فوجد نفسه يغوص في تفاصيل القصص الكثيرة المدفونة بين أوراقها، فيعيش آلام أصحابها وآمالهم من جديد.
يأخذنا زياد إلى ألبوم مشكل من 21 رسالة لزوجة من المنيا منفطرة القلب مهملة، تراسل زوجها المقيم في طنطا. فتكتب:
“زوجي إلى الأبد عبد اللطيف: ماذا أكتب في هذه الوحدة المضنية وبأي لسان أتكلّم؟ وبأي جَنان أعبر؟ وبأي عقل أفكر؟ سؤالي إليك يا معبودي، هل جو الصعيد حوّل قلبك عن طنطا؟ ألم تتذكر أنني بعت أهلي في سبيلك؟”
وتكتب في أخرى: “زوجي إلى الأبد، لقد خنتني، ومع ذلك أعبدك، إني أعيش على ذكرى حبيب خائن”. وغير ذلك كثير.
وما يشد زياد وشاحي هو أسلوب القص الرشيق، بعيدا عن الكتابة المرتجلة اليوم بلهجة عامية وحروف لاتينية، ناهيك عن عمق المشاعر الإنسانية، فقد حاول أن يجمع أشلاء الحكاية، وأن يكمل الناقص منها ويعيشها مثل سيناريو بصدد التشكّل. ويدرك أنّ والده السيناريست كان يشتري هذه الرسائل، لأنها خزان حكايات نائمة، فيها يعرض المرء أصدق مشاعره الحميمة التي يضن بها على عامة النّاس.
“بريد الليل”.. نمط مثير يصنع أفلاما عالقة في الذّاكرة
كثيرا ما مثّل ساعي البريد موضوعا مغريا للسينما الشرهة التوّاقة إلى كلّ ما هو مثير، ولعلّنا نعرض زوايا مختلفة لصورة “البوسطجي” من هذه الذّاكرة.
فتسعفنا أولا بفيلم البريد الليلي الوثائقي البريطاني “بريد الليل” (Night Mail) الذي أخرجه “هاري وات” و”بسل رايت” (1936)، ويوثّق رحلات قطار البريد الليلي الذي تستغله سكك حديد لندن، ويستمدّ قيمته من كونه صادرا عن تصوّر “جون غريرسون”، وهو أحد أهم المنظّرين للفيلم الوثائقي، والدّاعين إلى إقصاء الخيال والالتزام بجمال الحقيقة العارية.
فمعالجته لم تخل من مؤثرات درامية، اعتمدت لتوجيه رسائل ذات مضمون سياسي بدلا من عرض الحقيقة، كما يذهب في مقالاته النظرية.
فقد عوّل المخرجان على لقطات متوسطة ذات مقروئية حركية، لتعرض تفاني العمّال في مهامهم اليومية بإتقان وانضباط. وكانت توظف لقطات الغطس لتعرض صور القطار وعرباته الكثيرة المتلاحقة، ثم تدرج أخرى للمحركات، فتخلق فينا الانطباع بحرصهم على مصالح المتراسلين.
وتتنزّل هذه المعالجة ضمن سياق اقتصادي خاص، فقد انخفضت أجور العمّال بعد انهيار قوة النقابات البريدية، فخلق ذلك مزاجا عاما يميل إلى الإحباط والتشاؤم. وفي المقابل، كان فريق الإنتاج يمتدح من خلفية ليبرالية، كفاءة النظام البريدي، ويردّ تميّزه إلى موظفيه “الصادقين والمجتهدين”، ليرفع من معنوياتهم.
“آخر السعاة”.. سحر في المناطق الريفية أفسدته العولمة
في السينما العربية، يمكننا أن نذكر فيلم “البوسطجي” الذي أخرجه حسين كمال سنة 1968، ومداره على ساعي بريد ينتقل من القاهرة إلى بلدة نائية بمحافظة أسيوط، ليعمل بمكتب بريدها، فيدفعه الضّجر والفضول إلى التلصّص على المترسّلين.
أما أقرب الأفلام إلى فيلم ثامر عزت الذي بين أيدينا، فهو في تقديرنا فيلم “آخر السعاة” (2022) للمخرج العراقي سعد العصامي، وهو يبني قصته على مأساة ساعي البريد أيوب العامل في إحدى المناطق الريفية. فمن محاوره المهمة إثباته أنّ تطور وسائل الاتصال وإشاعة التقنية، أثّر عميقا في نمط إقامتنا في الوجود، فضلا عن الخوض في الشأن السياسي العراقي الرّاهن.
وفي ظل العولمة التي تصبح فيها الشركات أجهزة عابرة للدول، متحكمة في مصيرها، خادمة لقلة من محتكري ثروات العالم؛ اندثرت مهمة ساعي البريد، فكانت أحداثه مشبعة بالحنين إلى أزمنة خلت، وأسلوب في الحياة ولّى وانقضى.
“البوسطجي”.. ناقوس خطر وحنين لتأمل حياتنا الرّاهنة
مما يقوم عليه التراسل بين الأصدقاء والأحبة تبادل البطاقات البريدية، ولكن مرور الزّمن يمنح هذه الصور السياحية -عديمة الجدوى غالبا- قيمةً مضاعفة، فمقتنيات الأب وشاحي كانت تتضمن صورا عدة لأماكن في القاهرة، أو لمهن أو ملابس أهملتها الأرشفة، ولكنّ الترسّل أسعفها، فمنحها فرصة للحياة من جديد، فتضحي لبِنة مساعدة على إعادة بناء الماضي، وعلى تمثّل مظاهر من الحياة قبل قرن من الزّمان أو أكثر.
ولهذا الفيلم وجه آخر من الطرافة، على بساطة معالجته الدرامية، فقد جعل وظيفة “البوسطجي” تعلة لنتأمل حياتنا المعاصرة، ولعلّ أكثر لحظاته تأثيرا صوت الزوجة المكلومة التي تناجي زوجها بعد أن تحدت لأجله عائلتها.
ولا شكّ أنهما كليهما قد رحلا عن الدّنيا كما ترحل كلّ النفوس الذّائقة للموت، ولا شكّ أيضا أنّ عاشقا مهملا أو عاشقة مخذولة تعيش الألم نفسه الآن، هنا أو هناك. فيرحل الأفراد إذن، وتبقى الحياة التي تُختزل في الألم الممضّ، ويعيشها كلّ منّا على طريقته.
أمّا أكثر ما يشدّ في هذا الفيلم، فهو تنبيهنا إلى ضعف الإنسان أمام الآلة والتقنية، فقد ابتكرها لتيسير عمله، ثم ها هو يصبح عبدا لها وضحية.
والمفارقة الكبرى التي يعيشها الإنسان المعاصر وتسهم في شقائه، هي أنّ تطور وسائل التواصل في عهد الإنترنت والتكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي بات يفاقم عزلتنا الاجتماعية، فننشغل عن الحياة الحقيقية من حولنا، ونعيش في عالم افتراضي مليء بالأشباح والخيالات.