يعود فيلم “الحمراء وابن الخطيب” إلى تاريخ مملكة غرناطة التي تأسست بعد انهيار دولة الموحدين، فيعرض قصّة بناء قصر الحمراء في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف الأول (تُوفي 755هـ 1354م)، وهو حاكم آخر الممالك الإسلامية في الأندلس.
يتطرق الفيلم إلى الأدوار التي عُهدت إلى الشاعر والمفكر لسان الدين بن الخطيب (توفي 776هـ 1374م) الذي تدرّج من الكتابة في ديوان الإنشاء، إلى الوزارة في عهد يوسف الأول، ثم في عهد ابنه السلطان محمد الخامس الغني بالله في ولايته الأولى ثم الثانية.
ولإنصافه للحضارة العربية الإسلامية بالأندلس يمكننا أن نعدّه باطمئنان فيلما مضادّا للسينما الاستشراقية أو وجها آخر مختلفا لهذه السينما.
ساهمت الجزيرة الوثائقية في إنتاج فيلم “الحمراء وابن الخطيب”، وهو أضخم إنتاج مشترك لها، وقد استغرق إنتاجه 7 سنوات، وأخرجته الإسبانية “إيزابيل فرنانديز”، وعُرض أول مرة في إسبانيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 باسم (Los Constructores de la Alhambra)، أي “بُناة الحمراء”.
فن الاستشراق.. بحث عن سحر الشرق والكنوز المهملة
يُعرَّف الاستشراق بأنه علم دراسات الشرق، والمستشرق في قاموس أكسفورد هو “من تبحّر في لغات الشرق وآدابه”.
ومع اختلاف الرؤى الفنية للمبدعين والمعرفية للباحثين الغربيين واختلاف المناهج المتبعة في دراستهم، فإنها تكاد تتفق على تقسيم العالم إلى شطرين، ينسَل أوّلها من عوالم ألف ليلة وليلة، فيعرض صورة الشرق السابح في عوالم الخيال والكنوز، وثانيها كدّ الرويّة والفكر العقلاني في العالم الغربي. والشرق في هذه المباحث يعني المناطق الخارجة عن محيط الغرب الأوروبي.
ومع ذلك فإن هناك اتجاها نيّرا في الاستشراق، كرّس جهوده للحفر عن الكنوز المخبوءة في تراثنا، وإنجازات هذا الاتجاه تظل رائدة في مختلف المجالات، ومن مظاهر جديته نأيه عن فكرة الصدام الحضاري، فيكون وفيّا للتعريف المعلن للمستشرق؛ أن يكون عالما نبيلا، وأن يتجشم الصعاب في البحث، فيعبر مسالك اللغة الوعرة والكتابات المستعصية على الفهم في الآداب والديانات الشرقية، لبُعدها عن التراث الكلاسيكي الغربي.
الاستشراق الإسباني.. نزعة انتقامية تنكر حقيقة الشمس
يمثّل الاستشراق الإسباني فرعا خاصا من الاستشراق عامّة، فقد كان للماضي العربي بشبه الجزيرة الأيبيرية وقع على مباحثه، ممّا جعل صدره أشد ضيقا، ومباحثه أميل إلى الانفعال، ورؤيته أقرب إلى الانتقام. ولهذا كلّه كان أسرع إلى إنكار دور الحضارة الإسلامية الأندلسية في النهضة الأوروبية.
ويقر بهذه الحقيقة “خوان غويتسولو” في كتابه “في الاستشراق الإسباني”، فيقول: منذ الغزو العربي والحياة الإسبانية تخضع للمقابلة (المسيحي – الموري)، فما ليس لنا هو مسلم وأجنبي في آن واحد، وكل ما لنا هو مسيحي وإسباني في الوقت نفسه. إن التأكيد على ما هو لنا يتسع ليشمل المسيحية والإسبانية على نحو متزامن، أما التأكيد على ما ليس لنا فيستوعب على النحو ذاته قومية الآخر المتطفّل ودينه، وإلى يومنا هذا، ما يزال بعض الآباء في أريافنا الأندلسية، يسمون كل صغير لم يعمّد بعدُ بالموري.
وفي مرحلة متأخرة من القرن العشرين أخذت ملامح اتجاه آخر من الاستشراق تتبلور، وبدأ يظهر خطاب مدافع عن الإرث العربي الإسلامي في الأندلس.
سينما الاستشراق.. فن ناعم يخبئ صداما حضاريا عنيفا
يشمل الاستشراق الدراسات الدينية والفكرية، بقدر ما يشمل الممارسة الفنية والإبداعية رسما وأدبا. ويظل الاستشراق السينمائي أكثر المجالات اليوم اتصالا بالرأي العام، وإسهاما في صنعه للطبيعة الجماهيرية للأفلام.
فخلف البعد الناعم للفن، يكمن الاصطدام الحضاري العنيف والانخراط في الغزو الثقافي الذي يبشر بالقيم الغربية، ويقدّمها على أنها أطرزة مُثلى لا قبل لسعادة الإنسان بغيرها. ومن ثمة كانت العروض السينمائية -ولا سيما الهوليودية- تقدِّم لسائر الشعوب خططا لما يجب أن يكون عليه شكل إقامتها في الوجود، فتختزلها في النموذج الغربي والأمريكي تحديدا. وكانت تسهم في الحطّ من قيمة النماذج الأخرى.
ويظلّ النموذجُ الحضاري العربي المستهدفَ الأكبر من هذه السينما لاعتبارات عدة، ولعل أهمَّها ذلك التّباعدُ في سلم القيم بين المنظومتين الفكريتين.
ولهذه السينما من الوسائل والتقنيات والأساليب الفنية ما يجعلها شديدة الفعالية، فالمشترك بين أفلام هذه المدرسة على اختلاف مشاربها هو غلبة الخطاب الوجداني الذي يدفعنا إلى التأثّر، بدلا من التّفكير والجدال والنّقاش، ويجعل الفرجة في قاعة السينما أشبه بحصّة تنويم مغناطيسي، أو استرخاء على سرير التحليل النفسي، يُفقد الأنا الأعلى سيطرته على الرغبات المحظورة.
سطوة السينما على الوعي.. ركن من أركان الهيمنة الأمريكية
تتّصل الفكرة الرئيسية للاستشراق السينمائي بكل تفريعاتها بصورة الأرض العربية، فهي عالم مهمل يُقيم فيه العربي البدوي العاجز عن استصلاحه بطريقة همجيّة، وحالما يدخلها الغربي المتحضّر تُستصلح وتُثمر، ثم يعمها الخراب وتسود الفوضى والاستبداد والجهل حالما يخرج منها.
ومن فتور الرقابة الذاتية، تغرس هذه السينما فلسفتها في مواقف المتفرّج، فيستبطن مقولاتها من دون وعي غالبا، مع أن نظرتها متعالية عليه محقّرة له، فيتحوّل إلى مستلب خاضع لتحالف مناطق النفوذ الأمريكية الثلاث؛ واشنطن مركز السلطة السياسية، وهوليود مركز السلطة الثقافية، و”وول ستريت” مركز السلطة المالية.
ولا شك أن في صورة الأرض هذه شيئا من الشعار الذي جعلته الصهيونية مبرّرا للاستيلاء على فلسطين، وهو “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وشيئا من الأسطورة التي تتداول في الآثار الغربية، وما جرى لأبي عبد الله محمد الثاني عشر آخر ملوك الأندلس المسلمين، حين وقف على ربوة يودّع مملكته وأمُّه توبخه، فتقول له “ابكِ كالنساء مُلكا لم تحافظ عليه كالرّجال”، وهو مشهد اصطنعه الأسقف “أنتونيو جيفارا”.
وبما أنّ كل قوّة تنتج قوّة مضادة، فقد نشأت من رحم هذا الفنّ أدوار بديلة، فظهرت سينما المؤلف لتحارب الاستلاب الذي تكرّسه السينما النّمطية الأمريكية، وحاولت أن تواجه التضليل الاستشراقي، وكثيرا ما تكون هذه الحركة من طرف هذه السينما الاستشراقية نفسها، ولكن وفق تصوّر مختلف للشّرق. وضمن هذه السينما الاستشراقية البديلة إذن، يمكن أن نصنّف فيلم “الحمراء وابن الخطيب”.
“لم نَرَ قَصرا مِنهُ أنعَمَ نُضرَةً”
يعدّ موضوعُ بناء قصر الحمراء الفكرةَ الرئيسية لفيلم “الحمراء وابن الخطيب”، ويراد به البناء الحقيقي، ويتعلّق بتشييد أضخم معالم العمارة العربية الإسلامية، فيَصل بين تشكيل العرب للعمارة الإسلامية وتصوّرهم للوجود القائل إنّ كلّ ما حولنا “جـِرمٌ صغير، فيه انطوى العالم الأكبر”.
ففي الحديقة شيء من صورة الجنة، وتختزل القبةُ الضخمة السماءَ بكل دلالاتها وما وراء ذلك، ويورد الفيلم من نَظم الوزير ابن زمرك ما يثبت ذلك، فيقول:
به القبةُ الغراءُ قَـلَّ نظيرُها.. ترى الحُسنَ فيها مُستَكِنّا وبادِيا
تمدُّ لها الجوزاءُ كَفَّ مُصافِحٍ.. ويدنُو لها بدرُ السماءِ مُناجِيا
وتَهوَى النجومُ الزُّهرُ لو ثُبّتت بها.. ولم تَكُ في أُفقِ السَّماءِ جَوارِيا
إذا ما أضاءت بالشُّعاعِ تَخالُها.. على عِظَمِ الأَجرامِ منها لَآلِيا
فلم نَرَ قَصرا مِنهُ أنعَمَ نُضرَةً.. وأعطرَ أرجاءً وأَحلى مَجَانِيا
وقد خُطّت هذه الأبيات التي تصف قبة بهو قمارش على جدران القصر.
ومدار الفيلم على البناء الحضاري الأندلسي الذي ظل يقاوم الزّحف المسيحي أكثر من قرنين ونصف. لذلك تجعل “إيزابيل فرنانديز” حلولنا بالقصر تعلةً لعرض شهادات المؤرخين، التي تثني جميعها على الحضارة العربية الأندلسية وعلى دورها الفاعل في القرون الوسطى.
ولا شك أن المخرجة كانت تنتزع الاعتراف من الأكاديميين الإسبانيين أنفسهم بقصد ونيّة، فتعمل على مقاومة ما وصم الفكر الاستشراقي الإسباني الكلاسيكي من الجحود.
بناء الصروح.. كتابة للتاريخ على أديم الأرض
يستهل الفيلم بمشاهد غطس تخترق الضباب وتغوص إلى الأسفل، لتنقل مشاهد خارجية لمدينة غرناطة، فتركّز على ما بقي من عمران قصر الحمراء، ثم تأخذنا بعد هذا التأطير إلى مشاهد داخلية، وتجول بنا في القصر الأَثري العجيب، وتحفة العمارة الإسلامية بالأندلس.
فتعرض بعض ما فيه من المكونات، منها فناء الريحان الكبير، وبهو السباع ذو النوافير الرخامية، وبهو قمارش ذو القبة العملاقة، والحمّامات الملكية، والقاعات الفسيحة والأبراج والأبواب، والعناصر الزخرفية الجصية أو الخزفية الملونة.
ويستدعي الفيلم نقمة بعض الأندلسيين على ما رأوا في بناء القصر، فقد وجدوه هدرا للمال، وقدّروا أنّ إنفاقه على تقوية شوكة الدّولة أولى وأجدر، لا سيما أنّ المملكة مهدّدة في وجودها، محاصرة برايات أعدائها.
وينزّل هذا الاحتراز ضمن نظرية ابن خلدون لدورة تطور الحضارات قبل انهيارها، فيجد في تطاول البنيان علامات كُبر مؤذنة بانهيار الدولة.
ولكنّ هذا الرأي يظلّ عابرا، فمعالجة المخرجة الرئيسية كانت ترى هذا المعلم استشرافا للمستقبل، فكأنّ البناء كتابة للتاريخ العربي على أديم أرض الأندلس. وكأن الجدرانَ مدادُها الذي يدعونا إلى تدبّر ما حبّرته السواعد عليها، فانطلاقا من هذا البناء المتطاول ظل التاريخ الأندلسي منشورا بين ظهرانينا خالدا في أذهاننا.
ولا بد أنّ ننتبه للاستعارة الضمنية التي تجعل البناء كتابة ضد الانمحاء، كما هو شأن أهرام مصر وسور الصين العظيم ومدينة قرطاج، فهي تشدّ أفكار الفيلم الفرعيّة المختلفة إلى كلّ منسجم، وليس الأمر محض تأويل، فالمخرجة “إيزابيل فرنانديز” تورد -على سبيل القياس- إجابة الخليفة عبد الرحمن الناصر على احتجاج القاضي المنذر بن سعيد البلوطي على هدر المال في مدينة الزهراء، ونصّها:
هِممُ المُلوكِ إذا أَرادوا ذِكرَها .. من بَعدِهم فبِألسُن البنيانِ
أوَ ما ترى الهَرَمين قد بَقِيا وكم .. مَلِكٍ مَحاهُ حَوادثُ الأَزمانِ
إنّ البناءَ إِذا تَعاظم شأنُه .. أضحى يدلّ على عظيم الشأن
ويؤكّد الوزير ابن زمرك هذا المعنى، فيذكر أن التزويق والأعمدة الرخامية المخروطة في الحمراء، تعمل على إبراز جبروت الله وعزة الإسلام.
تصوير الفيلم.. عدسة مفتونة بتفاصيل الجمال المعماري
كثيرا ما تعتمد المخرجة لقطات الإدراج التي تتأمل بعشق كل تفاصيل الجمال المعماري، فتنزع زوايا تصويرها باستمرار إلى زوايا الغطس المضاد، كاشفة إلحاحها على معنيي العظمة والضخامة. فهذه الزّوايا التي تلتقط المرئيات من الأسفل تضاعف حجمها وتجعلها تطاول السّماء.
وضمن الإيحاء بنظرة لسان الدّين ابن الخطيب الاستشرافية الثاقبة، تنتقل المخرجة من إدراج عدسة عينه (الممثل عمرو واكد)، إلى خريطة الأندلس وعظمة منجزاتها، ويبدو أنّ الخلفية المعرفية كانت حاسمة، فقد عملت المخرجة على احترام المعارف الجغرافية عندئذ.
ولا يخفى على كل ذي معرفة بأفلام السّينما العتيقة ما في المشهد من محاكاة لاستعارة العين- البالوعة في مشهد الحمّام من فيلم “ذهان” (Psychose) للمخرج “ألفريد هيتشكوك”، حين عبرت الكاميرا من إدراج عدسة عين الضحية بعد أن أجهز عليها قاتل مجهول، إلى استدارة البالوعة، ضمن سياق التشويق، لتخلق معنيي الفراغ والموت. ولكنّ المخرجة تقلب دلالة الاستعارة إلى العين- الأرض. فتجعلها صِنوا لمعنيي الامتلاء والحياة.
وتعكس هذه المعالجة الفنية انتصار المخرجة للحضارة العربية، واعترافها بإسهامها الفاعل، واعتبارها للمرحلة الأندلسية مكوّنا من مكوّنات الهوية الإسبانية، وإعلانها لانخراطها في الاتجاه الاستشراقي الذي يُقر بالاختلاف والتنوع الحضاري، ويحتفي بالعادات والتقاليد المختلفة المشكّلة لأقاليم إسبانيا.
مقاومة التيار السينمائي الاستشراقي الحاقد.. نزعة جديدة
مع أنّ الفيلم متعدد الجنسيات والهويات بين الغربيين والعرب والمسيحيين والمسلمين، ومع أنّ للقنوات المنتجة للفيلم تأثيرا في مقارباته بما يتماشى مع خطّها التحريري، فإن معالجته الفيلمية تحسم انتماءه إلى الاتجاه النّير من الاستشراق السينمائي، وإلى سينما المؤلف التي تجعل المخرج هو المسؤول الفنّي الأول عن كل ما في الفيلم من الرؤى الجمالية والفكرية، وهذا ما يجعله عملا ضدّ التيار السينمائي الاستشراقي الحاقد.
وحتى نتبيّن مدى تحرّره من عقدة الصدام الحضاري والنزعة الآلية للحطّ من قيمة إنجازات الحضارة العربية العلمية لنا أن نستدعي مثلا الفيلم الروائي التاريخي “الطبيب” (The Physician)، الذي أخرجه الألماني “فيليب شتولزل” (2013).
فمع أنّ الفيلم يعرض سيرة ابن سينا ضمن رؤية سينمائية تعلي من شغفه بعلمه، فإنه لم يجعل تميّز الطبيب والفيلسوف الإسلامي نتيجةً لتراكم معارف قرون من العلوم الطبية في كامل أنحاء العالم الإسلامي، بل نبوغا فرديا واستثناء ضمن محيط يسوده الظلام.
بل إنه جحد بعض إنجازات الطب الإسلامي، فمن الثابت تاريخيا أنّ ابن النفيس قد بيّن أن الدم ينتقل من البطين الأيمن إلى البطين الأيسر عن طريق الرئتين، وهو ما عُرف باسم الدورة الدموية الصغرى، ففنّد فرضية غالينوس الإغريقي القائلة إنّ الدم يصل إلى البطين الأيسر من القلب عبر مسارات غير مرئية في الحاجز البطيني.
وأما الفيلم فينسبها إلى الشاب “روب كول” الإنجليزي (الشخصية المتخيّلة)، الذي يصبح في غضون أشهر قليلة عبقريا يشرّح الجثث بنفسه ويؤثر في معلّمه، فيرشده لعلاج مختلف الأمراض أو يصحّح له معلوماته حول الدورة الدّموية.