يعرض فيلم “الزعيم الصامت” مسيرة الهادي نويرة، وهو أحد قادة النضال التونسي ضد الاستعمار الفرنسي، وأهم رجالات الدولة الوطنية بعد الاستقلال لما يزيد عن ربع قرن.
ولأن التنافس السياسي على عهده شديد التوتر، فقد شبّه صنّاع الفيلم الحياة السياسية بمباراة في لعبة الشطرنج، تخوض كل قطعة منها معركتها الضارية لتحافظ على وجودها أطول وقت ممكن، ولكن حياتها ترتبط بحماية الملك.
فقد كان الهادي نويرة قطعة وازنة في هذه اللعبة، فتقلد المناصب الكبرى في أعلى هرم السلطة، حيث جمع بين مرحلة النضال على الميدان ومرحلة بناء الدولة ومؤسساتها، وبين الدّورين مسافة لا يحسن عبورها إلا أصحاب الفكر الراجح والقدرة على القيادة.
الهادي نويرة.. لاعب الكرة الذي اختطفته ملاعب السياسة والنضال
انتمى الهادي نويرة وهو شاب إلى فريق النجم الرياضي الساحلي التونسي، فبذل الجسد دفاعا عن ألوان الفريق تحقيقا لمجده، ثم وجد نفسه فيما بعد يبذل نفس الجسد في الزنزانات والمنافي، دفاعا عن الوطن وبحثا عن نصره ومناعته، ثم يلاعب خصوما عتاة من الدّاخل يحاولون أن ينتزعوا منه المكانة، فيستميت في الدّفاع عن منصبه، وقد يضطرّ عندما تكون الهجمة شرسة أن يلعب لعبا خشنا.
يحاول الفيلم أن يتبسّط في سيرة الرّجل، فيعرضها بصوت مفترض للهادي نويرة نفسه يردنا من خارج الإطار لقصته بضمير الأنا، فيصل بين مختلف الشهادات التي يعيد بها معاصروه أو باحثون في التاريخ المعاصر بناء تجربته.
وُلد الهادي نويرة بمدينة المنستير السّاحلية، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي، ثم انتقل إلى مدينة سوسة المجاورة، ليواصل تعليمه الثانوي، وينخرط في فريق النجم الساحلي لكرة القدم.
وندرك طموح الشاب الذي يجعل انعقاد مؤتمر “جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين” بفرنسا سنة 1932 بتونس التحول الفارق في حياته، فقد عقد صلته بأعضائها ليهاجر للدراسة في فرنسا، وهناك درس العلوم القانونية والمالية التي ستوجه مسار حياته وتضبط دوره في الدّولة. ثم كان من مؤسسي الحزب الحر الدستوري الجديد المنشق عن الحزب الدستوري بقيادة الحبيب بورقيبة في 2 مارس/ آذار 1934.
رحلة الكفاح والزنازين والمنافي.. ملامح التكوين الأولى
فضلا عن انشغاله بالسياسة، انخرط الهادي نويرة في هذه المرحلة في العمل الجمعياتي مثل “لجنة الدفاع عن الحريات بتونس” و”جمعية الوحدة العربية” و”جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين”. ومكنه عمله بالمحاماة في فرنسا من ربط الصلات ببعض الحقوقيين الفرنسيين من أنصار تحرر الشعوب، ومن التعرف على الزعيم الدرزي شكيب أرسلان، والجزائري مصالي الحاج، والمغربي علال الفاسي.
وتزامنت عودته إلى تونس مع حركة سياسية نشطة، فقد أعلن الحزب الحر الدستوري الجديد العصيان المدني في بداية سنة 1938، بعد مقتل 7 مناضلين في مدينة بنزرت في شهر يناير/ كانون الثاني، وكثّف من التظاهر ضد المستعمر الفرنسي للمطالبة بدستور تونسي، حتى وصل الصدام أوجه في أحداث 9 أبريل/ نيسان.
ولانخراطه في هذا المعترك السياسي وفي النضال ضد الاستعمار، زُجّ به في السجن المدني بتونس، ثمّ نُقل في يونيو/ حزيران 1939 إلى مرسيليا بجنوب فرنسا، ولم يزل بها حتى أفرجت عنه السلطة الألمانية يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1942، ثم نُفي بعدها إلى إيطاليا، ثم إلى الجنوب التونسي في أبريل/ نيسان 1952، بعد رفضه المشاركة في حكومة صلاح الدين البكوش.
وعلى العموم، كان الهادي نويرة يمثل الشقّ الراديكالي في الحزب، وكان ينتقد بشدة بعض القرارات غير العقلانية التي تتخذها القيادات الحزبية.
مرحلة بناء الدولة.. إنشاء اقتصاد تونس المستقل من الصفر
في العام 1957، وفي حكومة الحبيب بورقيبة التي تشكلت بعد الاستقلال، أوكلت للهادي نويرة حقيبة المالية، فمثّلت تحديا صعبا له، فأنشأ البنك المركزي التونسي، وركّز العملة التونسية المستقلة بنجاح، وتولّى منصب محافظ البنك المركزي منذ تأسيسه في 1958 وحتى 1970، وهو تاريخ تسميته وزيرا أوّل.
وقد قطع صلة الاقتصاد التونسي بالعملة الفرنسية، وقاد فريقا من ذوي الخبرات، ركّز البنوك الوطنية وبنى مؤسسات الدولة، مثل وكالة النهوض بالصناعة، والوكالة العقارية الصناعية، والوكالة العقارية للسكن، وهي محركات اقتصادية لا تزال فاعلة إلى اليوم، فأرسى بذلك دعائم النظام المالي، وجعل الدينار التونسي عملة ذات قيمة عالية في التداول الخارجي.
ولكن في هذه الأثناء، هبت ريح أربكت المسار الاقتصادي بأسره، ففي سنة 1961، تقلّد أحمد بن صالح -ذو الفكر اليساري- وزارات التخطيط والمالية والاقتصاد، وهذا ما سيجر البلاد لاحقا إلى مسار مختلف عن ما كان الهادي نويرة يخطّط له.
تجربة التعاضد.. تغيير البوصلة الرسمية يثقل كاهل الشعب
ظهرت دولة الاستقلال في سياق عالمي يهيمن عليه الفكر الاشتراكي، حتى أن “الحزب الدستوري” ذا الخلفيات الليبرالية انساق في الموجة، وتحوّل إلى “الحزب الاشتراكي الدستوري” في مؤتمر بنزرت سنة 1964.
وقبله كان الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية، قد خطب في الحشود بما يناهض فلسفته الليبرالية في يونيو/ حزيران من سنة 1963 في مدينة صفاقس، فدعا إلى اعتماد التخطيط الاقتصادي المركزي، وتبنى تجربة التعاضد التي خطّط لها أحمد بن صالح، وهاجم الشق الليبرالي من الحزب بقوله: نقول لأولئك الذين يدافعون عن الحرية الفردية والقطاع الخاص والمشاريع الحرّة، إن هذا المخطط يلبّي مصالح الجميع، ففي وضعيتنا، العمل الجماعي هو الأكثر نجاعة.
ويقوم جوهر فلسفة التعاضد على نزع ملكية الأراضي من الفلاحين، قصدَ بناء تعاضديات تسيّرها أجهزة الدولة بطريقة مباشرة، ويسهم الملاّك في أعمالها ويستفيدون من ريعها جميعا. فقد رأى فيها أحمد بن صالح حلاّ يواجه تشتت الملكية الذي كان يحول دون تحديث الفلاحة، ويطوّر الإنسان ويوفّر له الرفاه الاقتصادي.
ولكن التنفيذ كان متعثّرا جدا لسوء التصرّف في إدارة مشروع التعاضد برمته من جهة، ولكونه كان يعصف بمصالح أصحاب النفوذ من جهة ثانية. وقد تزامن ذلك مع مغادرة رؤوس الأموال الأجنبية للبلاد، وتأميم الأراضي التي كان يستغلها الفرنسيون.
فكانت النتيجة كارثية وفق تقرير البنك المركزي الذي يديره الهادي نويرة، فقد تراجعت القدرة الشرائية للمواطنين كثيرا، وركدت الأجور لغياب السيولة الكافية، وتضاعفت نسبة المديونية مرة واحدة على الأقل، وتضاعفت الضرائب مرتين وأكثر، وكانت الشرائح الضعيفة التي وُعدت بالرفاه تتحمل تبعاتها بمفردها.
معجزة إنقاذ الاقتصاد من الانهيار.. أيام الوزارة الأولى
حُمّل الوزير الأول الباهي الأدغم فشل تجربة التعاضد، واتهم أحمد بن صالح بالخيانة العظمى، وكان المشهد شديد القتامة، فالمناخ الاجتماعي شديد التوتر والبلاد على حافة الإفلاس والانهيار.
حينها عُين الهادي نويرة في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني وزيرا أول من غير أن يستشار، وعُهد له بمهمة وضع برنامج إصلاحي لإنقاذ الاقتصاد، ولم تكن مهمته سهلة، فقد واجه مناورات الليبراليين في الحزب، ممن يرون أنهم أجدر منه بتولي الحقيبة بعد انهيار التجربة الاشتراكية، وذلك بزعامة أحمد المنستيري الذي يدعو إلى الانفتاح والحريات والانتخاب والديمقراطية داخل الحزب.
في هذا السياق المتشنج، شرع الهادي نويرة في إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، فقاده إلى الانفتاح ودفعه نحو النظام الرأسمالي بأسلوب سلس، ففسح المجال للمبادرة الحرّة، وحفّز على النمو، وشجع على المبادرات الشبابية ودفع التشغيل.
ثم سنّ قانون 1972 الذي يفتح باب الاستثمار ويدعم صناعة النسيج، وساهم في خلق الشركات الخاصة. واستطاع في ظرف وجيز رفع الإنتاجية المعطّلة وتحقيق نسب نمو معتبرة، ووفر الظروف الملائمة لظهور التجمعات الاقتصادية الكبرى، حتى وُصف إنجازه في التقارير الصحفية الأجنبية بالمعجزة الاقتصادية.
تقهقر الاقتصاد.. فتيل أشعل الحرب مع الاتحاد العام التونسي للشغل
لم يكن الهادي نويرة مغاليا في ليبراليته الاقتصادية، فقد كان يردّد أن الاقتصاد الحر يعني الارتجال أو الفوضى، وأن إقرار العدالة الاجتماعية يعني التضامن الوطني، وأنّ التوزيع المتوازن للمجهود وللثروات في مختلف الجهات يقع على كاهل الدولة.
ومع أنه دفع نحو الرأسمالية، فقد ظلّت مؤسسات الاقتصاد الكبرى عمومية بنسبة تفوق 70%. لذا فقد جعلت الدّولة من أولوياتها ضمان التعليم والصحة والعمل لمواطنيها، فأضحى الاقتصاد مختلطا يوازن بين البعد الاجتماعي والتنمية على أسس ليبرالية، ويتعايش فيه القطاع العمومي الذي تملكه الدولة، والقطاع الخاص، والقطاع المشترك.
ولم يكن حظ الجميع متساويا في عهده، فبديهي أن يوسّع التوجّه الرأسمالي الذي اتبعه لردم الهوة بين طبقات المجتمع، لا سيما أن بورقيبة أسهم في ذلك حين مكّن بعض العائلات من دُور المعمّرين وضِيعهم، ومن أراضي أوقاف بالشمال التونسي، بعد تفكيك منظومة الوقف (الأحباس في المصطلح المغاربي).
وبسبب هيمنة بعض رجال الأعمال على الاقتصاد وارتفاع الأسعار في السوق العالمية ولجوء البلاد إلى التداين في نهاية عشرية حكمه، فقد تقهقر رصيد البلاد من العملة، وارتفعت الأسعار ولم تعد قادرة على مجاراة النسق لرفع الأجور بالموازاة كما كانت تفعل في بداية عهده، فدب التململ في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل، وأصبح السلم الاجتماعي على صفيح ساخن.
وممّا فاقم الوضع تنامي الطموحات السياسية لحليفه الحبيب عاشور، وتفكيره في خلافة بورقيبة المريض الفاقد للسيطرة على رجاله من حوله، فكان الصّدام بين الرّجلين، وحدث الانفجار الاجتماعي الهائل يوم 26 يناير/كانون الثاني 1978، بعد الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد، وانتهى إلى عدد كبير من القتلى، بعد أن استعمل الجيش الرصاص الحي ضد المتظاهرين، وحوكمت قيادات الاتحاد وأُدخلت السّجون، وأثبت ذلك اللاعب أنه يلجأ إلى اللعب الخشن حينما تكون الهجمة خطيرة.
مشروع الوحدة.. لعبة مع القذافي تؤدي إلى جلطة دماغية
في ظروف غامضة، وبعد زيارة لم تكن مبرمجة، علانية على الأقل، وقّع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والعقيد الليبي معمر القذافي على بيان جربة، الذي يقضي بتوحيد الدولتين وحدةً اندماجية، ضمن كيان أطلقا عليه اسم “الجمهورية العربية الإسلامية”، بحيث يكون بورقيبة رئيسها والقذافي نائبا له.
ويبدو أن حسابات بورقيبة -الذي فقد كثيرا من رجاحة عقله بسبب الجلطة الدماغية التي أصابته- أخذت بعين الاعتبار التفاعل المجدي الذي سيحدث بين الثروة البترولية الليبية والثروة البشرية التونسية، وأهملت التفكير في نيات القذافي من وراء هذا العرض السّخي.
وكانت الزيارة مفاجئة، لأنها وقعت دون علم الهادي نويرة، وكان حينها في زيارة إلى إيران، ودون علم وسيلة بن عمار زوجة الرئيس الفاعلة الرئيسية في محيط زوجها، فكانت حينها في زيارة إلى الخليج.
وفور عودة الوزير الأول، أقنع رئيسه بالعدول عن هذا المشروع الوحدوي، ورسّخ في ذهنه أنّ القذافي يناور للاستيلاء على الحكم لنفسه لاحقا، وهذا ما أغضب العقيد القذافي، فأرسل فريقا لاغتيال الهادي نويرة أولا، ثم أرسل مجموعة من المسلحين التونسيين يوم 27 يناير/ كانون الأول 1980، للاستيلاء على مدينة قفصة الواقعة بالجنوب الغربي التونسي، تمهيدا للإطاحة بالرئيس بورقيبة وقلب نظام الحكم، فأرسلوا برقية إلى وكالة “فرانس برس” يعرّفون أنفسهم بأنهم “جزء من جيش التحرير التونسي الذي شرع في القضاء على ديكتاتورية الحزب الحاكم والهيمنة الاستعمارية”.
ومع أن المحاولتين فشلتا بعد التفطن لهما، فإن غزو المدينة أصاب الهادي نويرة بجلطة دماغية أقعدته وجعلته يُسحب من رقعة الشطرنج، بعد أن أضحى عاجزا عن حماية الملك. فخلفه محمد مزالي الذي انخرط في معركة خلافة بورقيبة، إلى أن انتهت اللعبة بإزاحة الملك نفسه، بعد انقلاب زين العابدين بن علي على بورقيبة، لتبدأ مباراة جديدة في لعبة الشطرنج ستطول وتتقاتل القطع من حول ملكها لحمايته أو الإجهاز عليه، وستخلّف معطوبين كثرا.