يحتفظ تاريخ المغرب مع كل ما عرفه من تعاقب للدول والملكيات منذ استقلاله عن حكم الدولة العباسية المشرقية، بأسماء لعدة نساء كان لهن دور كبير وحاسم في تحديد وجهة التاريخ، انطلاقا من كنزة الأوروبية التي تزوجها إدريس الأول، فأنجبت منه ابنه إدريس الثاني مؤسس أول دولة مغربية مستقلة عن الخلافة العباسية، وفاطمة الفهرية التي بنت جامعة القرويين أول جامعة في العالم ما زالت قائمة إلى اليوم، وزينب النفزاوية التي كان لها دور كبير في بناء مدينة مراكش وتأسيس الدولة المرابطية.
لكن امرأة من بين هؤلاء تتميز بكونها باشرت مهام الحكم مباشرة ولمدة طويلة، بل قادت العمل العسكري بنفسها، وهي “السيدة الحرة”.
تتميز هذه السيدة بكونها تنحدر من أسرة موريسكية، أي من الذين طردهم المسيحيون من الأندلس، وأقامت هذه الأسرة دويلة مستقلة بمدينة شفشاون شمال المغرب خلال القرن الـ16، وبعد زواجها من حليف والدها قائد تطوان، فإنها استطاعت أن تتحول بعد وفاته إلى حاكمة فعلية للمدينة الاستراتيجية، بل وتزوجت من سلطان المغرب وقتها، ودخلت في حلف مع القائد العثماني في الجزائر خير الدين برباروس، وتقاسمت معه حوض البحر الأبيض المتوسط، لمحاصرة الإسبان والبرتغاليين ومحاربتهم انتقاما للأندلس، لدرجة أن الإسبان أطلقوا عليها لقب “البرباروسة التطوانية”.[1]
تطلق عليها المصادر التاريخية اسم “الست الحرة”، وهو ما يفسّره البعض بتأثر المغرب وقتها بمصطلحات وفدت على الأندلس من المشرق العربي. ويخلدها التاريخ كأول وآخر “ملكة” في المغرب، حيث نالت ألقابا وسلطات رسمية جعلتها طيلة نحو 30 عاما حاكمة لمدينة تطوان، وجمعت خلال فترة حكمها هذه بين العمل العسكري الدائم ضد أطماع الأوروبيين، وبين تحول المدينة إلى نسخة مصغرة من النظام الإداري والتدبيري القائمة في عاصمة المغرب وقتها، مدينة فاس.[2]
سقوط غرناطة.. ميلاد من رحم المأساة الكبرى
“الست الحرة” هي ابنة أمير شفشاون عليّ بن راشد، تلك الشخصية المعروفة في الداخل والخارج بالنسبة لفترة القرن الـ16 م، وهي الأخت الشقيقة للوزير أبي سالم والأمير إبراهيم بن علي بن راشد، وأمهما “للا الزهراء” ذات أصل إسباني أندلسي.
وهي بعد كل هذا وذاك زوجة السلطان المغربي أحمد الوطاسي (932-956)، وهو الزواج الذي يشبهه البعض بزواج الملكين الكاثوليكيين “فرناندو” و”إيزابيلا”، ملكا إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وأوائل القرن السادس عشر.[3]
في فترة تاريخية تميّزت بشبه تفكك للدولة المركزية المغربية بعد سقوط حكم المرينيين، ولدت “الست الحرة” من رحم المأساة الكبرى لتهجير وإبادة المورسكيين في الأندلس بعد سقوطها في يد الملوك المسيحيين، وحتى بعد هجرتها رفقة أسرتها واستقرارها في شمال المغرب، فقد وجدت نفسها في احتكاك مباشر مع هذه القوة التي طردتها من غرناطة، حيث كان البرتغاليون يجاورون شفشاون وتطوان، باحتلالهم مدينة سبتة.
كان البرتغاليون يحتلون ثلاثة موانئ مغربية أساسية، هي سبتة وطنجة والقصر الصغير، مما جعلهم يصبحون قوة دولية وإقليمية، لسيطرتهم على مضيق جبل طارق بشكل شبه كلي.[4]
وقد جمعت السيدة الحرة بين النسب العريق لوالدها علي بن موسى بن راشد (الأدارسة الشرفاء) والأصول الأوربية لوالدتها الإسبانية “زهرة فرنانديز”، حيث عاشت في كنفهما إلى جانب أخ شقيق وحيد هو إبراهيم بن راشد، قبل أن يذوق الجميع مرارة الطرد والاقتلاع من الأرض الأندلسية ويهاجروا نحو المغرب.[5]
تأريخ النشأة الأولى للسيدة الحرة يلفه بعض الاختلاف بين الروايات التاريخية، إذ يتحدث البعض عن ميلادها عام 1485 في غرناطة، وزواجها أول مرة وهي ابنة 16 سنة، أي عام 1500، بينما تتحدث روايات أخرى عن ميلادها سنة 1493 في شفشاون، وزواجها عام 1510. لكن المصادر التاريخية تعود في النهاية لتتفق في كون 1542 هي سنة سقوط هذه الملكة وخروجها من تطوان.[6]
ضجيج الجيوش الغازية وأنين العاصمة.. المغرب الممزق
تقول بعض المصادر إن عائلة بني راشد المنحدرة من الأدارسة الذين كانوا أول من حكم المغرب في المرحلة الإسلامية، هاجرت قبيل سقوط غرناطة، حين تبيّن أن الهزيمة باتت وشيكة.
استقر المقام بالأسرة الأندلسية المتمتعة بالجاه والنفوذ في منطقة شفشاون الجبلية الحصينة، حيث كان الوطاسيون الذين يحكمون المغرب وقتها (وهم أسرة أمازيغية اتخذت من مدينة فاس عاصمة لها)، يقبلون باستقرار الأندلسيين الفارين من الجيوش المسيحية، ويقرونهم في بعض الثغور من أجل الاستقرار فيها وحمايتها من الغزو الأجنبي كما هو الحال في الشمال، بينما استقرت مجموعات أخرى من الموريسكيين في مدن أخرى، خاصة فاس والرباط.
وقد عاشت السيدة الحرة في مرحلة اتسمت بسياق دقيق مرّ به المغرب، حيث كان يئن تحت وطأة ضغوط متنوعة، فالعثمانيون قادمون من الشرق والأوربيون من الشمال والغرب، وسلطة جديدة تزحف على تلك القائمة في العاصمة فاس، وضعٌ جعل المغرب -على الرغم من وجود دولة مركزية معترف لها بالبيعة والولاء- موزعا بين إمارات شبه مستقلة عن بعضها.[7]
مدينة شفشاون.. قصر الحمراء البعيد عن غرناطة
عاشت السيدة الحرة في ظل حكم آخر ملك عربي في غرناطة الأندلسية، وانتقلت رفقة أسرتها ضمن المسلمين الذين طردوا من الأندلس بعد سقوطها كاملة خلال حرب الاسترداد المسيحية، لكن القدر كان يخبئ لها تجربة التحوّل إلى ملكة فعلية لمنطقة حيوية في الشمال المغربي.
اختار الأمير علي بن راشد موقع شفشاون المنيع ليبني قصبة منيعة أسكن فيها زوجته الإسبانية التي اشترطت تخصيصها بقصبة شبيهة بقصر الحمراء الذي خلفه المسلمون وراءهم في غرناطة.[8]
هناك تلقت الحرة تعليما في غاية الغنى والتنوع، حيث حافظت على مكتسباتها اللغوية الإسبانية على الخصوص، وأضافت إليها علوم الفقه والأدب على يد كبار العلماء، وحين كانت غرناطة تسقط في يد المسيحيين، كانت عائلة أندلسية أخرى -هي عائلة المنظري- تستقر في مدينة تطوان وتعيد بناءها وتحصينها، وهي المدينة التي ستصبح مملكة للسيدة الحرة.[9]
“الحرة”.. لقب الملكات العربيات على مر التاريخ
عكس ما يعتقده الكثيرون حول هذه الشخصية النسائية من كون “الحرة” هو مجرد لقب، يؤكد مؤرخ المملكة المغربية السابق الراحل عبد الوهاب بنمنصور، أن اسمها الشخصي الحقيقي هو “الحرة” لا عائشة، وقد اعتمد في ذلك على ما ورد مثبتا في عقد زواجها من السلطان أحمد الوطاسي.[10]
ويفسّر المؤرخون اختيار هذا الاسم في تلك الحقبة التاريخية لانتشاره وقتها، وكانت عدة نساء شهيرات يحملنه، منهن أم آخر ملوك غرناطة السلطان أبي عبد الله محمد بن الأحمر، ويرجّح أنها هي سبب توهم البعض أن اسم “السيدة الحرة” الأصلي هو “عائشة”، لأن أم السلطان أبي عبد الله كانت تحمل بالفعل هذا الاسم، وتلقّب بالحرة لما تميّزت به من شخصية قوية وتأثير في شؤون الحكم.
احتمال أن تكون ملكة تطوان قد حملت لقب أم آخر ملوك غرناطة كاسم شخصي تأثرا بها يبدو راجحا حسب المعطيات التاريخية، ذلك أن والدها علي بن موسى بن راشد عاش في غرناطة في تلك الفترة، وبالتالي فلا شك أنه عرف ملكة غرناطة الملقبة بالحرة.
“الحرة” هو أيضا اسم يطلق في اللغة العربية على الملكات، فعلى خلاف وظيفة الخليفة أو الإمام التي يختص بها الرجل، فإن الاعتراف بالسلطة “الأرضية” لم يشكل مشكلة كبيرة في الثقافة العربية الإسلامية. ويحتفظ التاريخ العربي بذكرى ملكتين على الأقل تحملان اسم “الحرة”، وهما أسماء بنت شهاب الصليحي وأروى بنت أحمد الصليحي اليمنيّتان، إلى جانب عدد من ملكات الأندلس اللواتي حملن هذا الاسم.[11]
وهناك من يفسّر اسم “الحرة” بكونه يشير في الأصل إلى أنثى طائر الباز الكاسر التي تتميّز بدورها الكبير في رعاية الأسرة وحمايتها، علاوة على أن اسم الحرة كان يطلق على الإناث تمييزا لهن عن الإماء.[12]
الست الحرة.. زواج الملوك وخطة الحلف الأول مع تطوان
ما تؤكده المصادر التاريخية هو أن السيدة الحرة تزوجت بقائد مدينة تطوان المجاورة لشفشاون سنة 1510 م، وذلك على نهج زواجات الملوك في تلك الحقبة التي كانت أشبه بعقد التحالفات بين الحكام، وكان هدف هذا الحلف بين حاكمي تطوان وشفشاون، هو مواجهة التهديدات البرتغالية التي كانت تخيّم على هذا الجزء من شمال المغرب.
كأن قدر هذه السيدة أن تكون كل زواجاتها أحداثا سياسية، فقد كان الارتباط الأول بقائد مدينة تطوان، وهي في سن تقدره المصادر بما بين 16-18 عاما، وهو الزواج الذي كان ينطوي ضمنيا على تحالف سياسي يجعل قائد تطوان تحت مظلة علي بن راشد.
وبالتالي كانت ابنته الحرة بمثابة الحاكم الفعلي للمدينة، بل إن ابنة حاكم شفشاون كانت تتولى الحكم المباشر لتطوان كلما خرج زوجها المنظري لخوض إحدى معاركه المتكررة ضد الأوروبيين الآخذين في التوغل في الأراضي المغربية، انطلاقا من سبتة شرقا وطنجة غربا.
حماية الثغر الشمالي.. أسطول حاكمة تطوان الجديدة
بوفاة زوجها المنظري سنة 1519، ونظرا لعدم جواز تولي امرأة للحكم بشكل رسمي، أصبحت تطوان تابعة لحكم الأخ الشقيق للسيدة الحرة، إبراهيم بن راشد حاكم شفشاون، لكنه سوف يبادر سنة 1525 إلى خطوة جريئة، فقد عيّن أخته حاكمة فعلية لمدينة تطوان، لما أبانت عنه من حنكة ودراية في التدبيرين السياسي والعسكري.[13]
تربط بعض المصادر بين تولي السيدة الحرة الحكم التام لمدينة تطوان، وبين الموقع الذي شغله شقيقها إبراهيم إلى جانب السلطان الوطاسي، حيث انتقل من شفشاون إلى فاس ليصبح وزيرا ومستشارا مقربا، خاصة في الشؤون العسكرية، مخولا لأخته مهمة حماية الثغر الشمالي للمملكة.[14]
كانت الست الحرة تملك أسطولا بحريا شديد الفعالية، ينطلق في عملياته من ميناء مرتيل القريب من تطوان، ويحمل اسم خال السيدة الحرة الإسباني، وكانت هذه السيدة تقود بنفسها عمليات القرصنة (الجهاد البحري)، ووصلت عملياتها إلى غاية صخرة جبل طارق، بينما كانت سواحل الرباط وسلا -في الواجهة الأطلسية، حيث استقر جزء من الأندلسيين- تشهد بدورها نشاطا كبيرا للقرصنة البحرية كنوع من الجهاد ضد الأطماع الأوروبية التي كانت تجمع بين الطابع الاستعماري والسعي إلى تنصير المغرب.[15]
الست الحرة.. ملكة الشمال وسلطانة فاس
سطع نجم السيدة الحرة سياسيا في الواجهة الشمالية للمغرب في معمعان التحرشات العسكرية الأوروبية التي لا تتوقف، مما جذب السلطان المغربي أحمد الوطاسي، فتقدّم لخطبتها عام 1541 في عرض سياسي أكثر من كونه شخصيا.
فقد كان السلطان الوطاسي في حاجة لتثبيت حكمه شمالا، لكي يتفرغ لمواجهة منافسيه السعديين الزاحفين من الجنوب، بينما كانت الحرة أيضا في حاجة لدعم السلطان لحكمها، وهي المشتغلة بشكل شبه يومي بتسيير حملات القرصنة والجهاد البحري ضد الأوروبيين، إضافة إلى تدبير شؤون المدينة ومحيطها داخليا.
وتقول بعض المصادر التاريخية إن السيدة الحرة فرضت على السلطان أن ينتقل هو إلى مدينة تطوان لإجراء مراسيم الزواج، إصرارا منها على البقاء في مجال نفوذها السياسي، وكانت تلك المرة الوحيدة التي ينتقل فيها سلطان مغربي خارج عاصمته من أجل الزواج.[16]
وقد كان عقد زواجها من السلطان هو الوثيقة التاريخية التي حسمت الجدل حول اسمها الحقيقي، حيث تبين أن “الحرة” هو اسم شخصي وليس مجرد لقب. وقام بكتابة العقد قاضي قضاة المغرب وقتها عبد الواحد بن أحمد الونشريسي، المعروف بكتاباته البديعة من الناحية اللغوية.[17]
الست الحرة.. نساء الأندلس على الواجهة السياسية
لقد دفع سقوط غرناطة بنساء أندلسيات كثيرات إلى الواجهة السياسية، فاضطررن للمشاركة في الصفوف الأمامية للمعركة من أجل البقاء، خاصة بعد الاضطرار إلى الهجرة نحو الضفة الجنوبية للمتوسط، ومحاولة الأيبيريين ملاحقتهم داخل الأراضي المغربية.
وكانت من هؤلاء النسوة السيدة الحرة التي تصدت لقيادة أعمال القرصنة العسكرية، دفاعا عن النفس وثأرا من الهزيمة الكبرى إثر سقوط غرناطة، بل وحفاظا على أمل العودة إلى الديار الأندلسية من جديد كما ظلت العائلات المهجرة تحلم بذلك.
وعلى العكس من زواجها الأول من حاكم تطوان، فإن الارتباط الثاني لهذه السيدة الاستثنائية يعتبر مثيرا للغاية، حيث ستتزوج بالسلطان المركزي الذي كان يحكم المغرب من مدينة فاس، وهو السلطان أحمد الوطاسي، وتشير المعطيات التاريخية إلى التفاصيل المثيرة لهذا الزواج، حيث انتقل السلطان بشكل رسمي ترافقه حاشيته وعلماؤه وجيوشه إلى مدينة تطوان، من أجل الارتباط بالأرملة حاكمة تطوان الجميلة.
هذا الزواج تفسّره عوامل عديدة، منها أن السلطان كانت له معرفة سابقة بالسيدة الحرة، باعتبارها واحدة من أفراد أسرة ابن راشد الحاكمة في شفشاون، كما أن أخت السلطان الوطاسي كانت زوجة لأخ السيدة الحرة الذي سيقرّبه السلطان المغربي ويجعله وزيرا ومستشارا له، لما أبان عنه من مواهب خاصة في الدبلوماسية والسياسة والعمل العسكري.[18]
تعزيز الجبهة الداخلية وحماية السواحل.. أهداف فاس
علاوة على تعزيز الجبهة الشمالية في مواجهة التهديدات الأوروبية، كان حرص السلطان الوطاسي على تعزيز تحالفاته الداخلية يرمي أيضا الى مواجهة منافسيه السياسيين الداخليين، وهم السعديون الذين كانوا يمدون نفوذهم قادمين من جنوب المغرب، مقدمين أنفسهم كبديل فعال في مواجهة التغلغل المسيحي الأوروبي.
وفي الوقت الذي كان فيه الأخ الشقيق للسيدة الحرة إبراهيم بن راشد يعتبر وطاسي الهوى، فإن أخاها غير الشقيق الذي كان يحكم شفشاون بعد وفاة الوالد كان سعدي الميول، وهو ما يضع زواج السيدة الحرة من السلطان أحمد الوطاسي في سياق تقريب هذا الأخير للمحور المساند له، مقابل عزله لمحمد بن راشد من حكم شفشاون لاختياره المعسكر السعدي، قبل أن يعود ليعفو عنه.[19]
مما يؤكد الطبيعة السياسية لزواج السلطان المغربي الوطاسي بالسيدة الحرة، هو أنه لم يصحبها معه بعد زواجه بها بل أبقاها في تطوان ملكة عليها وحارسة لسواحلها المفتوحة على غزوات الإسبان والبرتغاليين، وهي المهمة التي قامت بها أحسن قيام، فباعتبارها كانت شريكة زوجها الأول حاكم تطوان محمد المنظري في الحكم، فإن هذه السيدة بسطت حكمها على تطوان المغربية نحوا من ثلاثين عاما، أي من 1510 إلى غاية زوالها من الحكم سنة 1542.[20]
الست الحرة.. قائدة القراصنة وسيدة التحالفات السياسية
تجمع المصادر التاريخية على الطبيعة القوية لشخصية السيدة الحرة وميلها للمواجهة والحرب، حيث لم تكن تتردد في الاصطدام بحاكم مدينة سبتة المحتلة كلما بالغ في التطاول على مجال نفوذها، كما كانت سفن القرصنة البحرية التابعة لها تتخصص في أسر المسيحيين وبيعهم في سوق النخاسة، في الوقت الذي كانت الكفة تميل وقتها حضاريا للأوربيين الذين أخذوا يحترفون أسر واستعباد الشعوب الأخرى.
إنها سيدة التحالفات السياسية بامتياز، فهي تجمع في الوقت نفسه بين دعم السلطان المغربي الوطاسي الذي أصبح زوجها رسميا، وبين دعم القائد العثماني برباروس الخائض في مواجهة بحرية ضارية ضد الأوروبيين من الإسبان والبرتغاليين، فقد أصبحت الأساطيل العثمانية المنطلقة من الجزائر وتلك التابعة للسيدة الحرة من المغرب، تنسق تحركاتها وضرباتها ضد الأساطيل الأوروبية.
فوحدة الهدف المتمثل في محاربة جيوش الإسبان والبرتغاليين، دفعت السيدة الحرة للاتفاق مع القبطان التركي خير الدين بارباروس -الملقب بملك البحار لما حققه من انتصارات في البحر الأبيض المتوسط- على تقاسم مناطق الجهاد، فأشرفت هي على غرب المتوسط من جهة المغرب، وقاد هو العمليات في شرق المتوسط من جهة الجزائر، وذلك في مرحلة كانت فيها الإمبراطورية العثمانية في أوج قوتها، على عهد السلطان سليمان القانوني.[21]
الست الحرة.. نهاية صوفية لملكة قوية
تضافرت عوامل سياسية وشخصية لتنهي حكم السيدة الحرة لمدينة تطوان، ذلك أن مكائد أسرة زوجها الأول والحاكم السابق للمدينة آل المنظري، قادتهم للتحالف مع السعديين خصوم السلطان الوطاسي المتزوج من السيدة الحرة، حيث يعتبر الكثير من المؤرخين أنها ذهبت ضحية لوفائها السياسي لزوجها في حربه ضد السعديين الزاحفين عليه من الجنوب، فأحد أفراد آل المنظري هو الذي سيقود تمردا عسكريا ضد الحكم الوطاسي وحليفته بمدينة تطوان، حيث جرى إسقاطها من السلطة متم العام 1542.[22]
لكن هناك عامل أساسي يرجح أنه ساهم في إنهاء حكم السيدة الحرة وإخراجها من تطوان، وهو وفاة أخيها إبراهيم عام 1539، بمدينة فاس حيث كان مقربا من السلطان.[23]
ويجمل المؤرخون أسباب سقوط حكم السيدة الحرة في مدينة تطوان في نشاطها العسكري البحري، وإصرارها على ممارسة القرصنة كوسيلة دفاعية ناجعة ضد الأوروبيين ومصدر للعائدات المالية، ثم لوجود معارضة داخلية قوية لها من جانب آل المنظري أسرة زوجها الأول الذين ظلوا يعتبرون أنفسهم أحق منها بالحكم، ثم لخذلانها من طرف أخيها غير الشقيق محمد بن راشد الذي كان ميالا للسعديين خصوم زوجها السلطان الوطاسي.[24]
رغم عزلها من حكم تطوان ومصادرة ممتلكاتها، لم تعدم السيدة الحرة الدهاء في تقدير الملاذ الأسلم، حيث اختارت المكوث في شفشاون بدل الالتحاق بعاصمة حكم زوجها السلطان الوطاسي، ليقينها أن عهده إلى أفول، وأن السعديين يوشكون على بسط سيطرتهم الكاملة على المغرب، لكن حتى وهي تعيش آخر أيامها في شفشاون، فقد أسست رباطا صوفيا ومكنته من ذراع عسكري موجه أساسا ضد التوغلات الأوروبية، إلى أن توفيت عام 1562 لتدفن في مقر الزاوية الريسونية، وهو المكان الذي يعتبر مزارا دينيا حتى الآن.[25]
تصوف الست الحرة لم يكن صدفة أو انعطافة في حياتها، بل كان خاصية راسخة في شخصيتها، حيث توصف بأنها كانت تعتنق التصوف السنّي، أي التصوف الذي يستند إلى الشريعة الإسلامية وليس إلى شيء آخر من فلسفة أو أدب أو غيرهما، كما يوضح المتخصص في هذا الموضوع علي الريسوني.[26]
المصادر
[1] https://www.yabiladi.com/articles/details/74893/histoire-sayyida-al-horra-corsaire-tetouan.html
[2] https://www.parlement-ecrivaines-francophones.org/portrait-de-femme-sayyida-al-horra-la-sultane-guerriere-par-anissa-bellefqih/
[3] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5034
[4] https://www.youtube.com/watch?v=NIctU9-Lwh4
[5] https://www.parlement-ecrivaines-francophones.org/portrait-de-femme-sayyida-al-horra-la-sultane-guerriere-par-anissa-bellefqih/
[6] Maziane, Leila, Sit Al-Horra, gouvernante de Tétouan et armatrice de navires corsaires au XVIe siècle, 2019 – ISEM – Istituto di Storia dell’Europa Mediterranea
[7] https://www.yabiladi.com/articles/details/74893/histoire-sayyida-al-horra-corsaire-tetouan.html
[8] https://www.youtube.com/watch?v=C8Ozy2zLNHk
[9] https://www.yabiladi.com/articles/details/74893/histoire-sayyida-al-horra-corsaire-tetouan.html
[10] المجلد الأول من الوثائق الملكية تقديم وتنسيق الأستاذ عبد الوهاب بن منصور، الوثيقة 115.
[11] Fatima Mernissi, Sultanes oubliées, femmes chef d’état en Islam, ALBIN MICHEL 1990
[12] https://www.youtube.com/watch?v=NIctU9-Lwh4
[13] https://www.parlement-ecrivaines-francophones.org/portrait-de-femme-sayyida-al-horra-la-sultane-guerriere-par-anissa-bellefqih/
[14] Maziane, Leila, Sit Al-Horra, gouvernante de Tétouan et armatrice de navires corsaires au XVIe siècle
2019 – ISEM – Istituto di Storia dell’Europa Mediterranea
[15] https://www.youtube.com/watch?v=NIctU9-Lwh4
[16] Fatima Mernissi, Sultanes oubliées, femmes chef d’état en Islam, ALBIN MICHEL 1990
[17] https://www.youtube.com/watch?v=NIctU9-Lwh4
[18] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5034
[19] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5034
[20] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5034
[21] https://www.aljazeera.net/news/women/2020/8/12/السيدة-الحرة-حاكمة-تطوان-المغربية
[22] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5034
[23] Maziane Leila, Sit Al-Horra, gouvernante de Tétouan et armatrice de navires corsaires au XVIe siècle,2019 – ISEM – Istituto di Storia dell’Europa Mediterranea
[24] https://www.parlement-ecrivaines-francophones.org/portrait-de-femme-sayyida-al-horra-la-sultane-guerriere-par-anissa-bellefqih/
[25] https://www.parlement-ecrivaines-francophones.org/portrait-de-femme-sayyida-al-horra-la-sultane-guerriere-par-anissa-bellefqih/
[26] https://www.youtube.com/watch?v=NIctU9-Lwh4