في رحلة الاستطراد الفكري والبحث عن معان للوجود، يتجلّى عدد من الأفكار والحجج التي تتراص فوق بعضها على هيئة بنيان مرصوص يُعرف بالمنطق، فتتشكّل مجموعة من البديهيات والحجج العقلية، فنقول مثلا إنّ “الكل أكبر من الجزء”، أو أن تتشكّل مسلّمات رياضية، فنقول إنّ جميع الزوايا القائمة مساوية لبعضها، أو أنّ أيّ خطين متوازيين لا يلتقيان، وعليه يبني الإنسان اقتراناته في الحياة، فلا يحيد عمّا يخالف تلك البديهيات.
لكن في غياهب المناورات العقلية وفي قعر تحديات المنطق، يفلت أحيانا ما يعجز المرء عن إدراكه، بسبب ما تحمله بعض العبارات من تناقضات، يُطلق عليها اصطلاحا “المفارقات” (Contradictions)، أو المعضلات المنطقية إن صح التعبير، وهي مجموعة من الكلمات أو العبارات، تحمل وجهين متضادين معا في آن واحد، ولا تحتمل إجابة واحدة صريحة.
فنقول مثلا “أنا الآن أكذب”، ولو افترضنا أنني أقول الحقيقة، فهذا يعني أنّ الجملة السابقة صحيحة، وهو يناقض مضمونها بأنني “كاذب”، ولو افترضنا أنّني لا أقول الحقيقة فهذا يعني أنني “صادق”، وهو ما يخالف أيضا مضمون الجملة بأنني الآن أكذب.
وقد عُرِفت هذه المفارقات منذ قدم الحضارات البشرية التي نشأت في بلاد ما بين النهرين وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، واشتهرت بين الرياضيين والفلاسفة، كما كان عند الإغريق القدامى، فقد ظهرت شخصيات بارزة من عصر ما قبل سقراط، منهم زينون الإيلي وهيراقليطس، فطرحوا مفارقات عدّة تتحدى أسس المنطق والعقل. فكانت مفارقات “زينون” في الحركة أقدم ما وصل إلينا من تلك الحقبة، وهي ما جعلته مؤسس علم الجدل، وفقا للفيلسوف الإغريقي أرسطو.1
ومع ظهور الحضارة الإسلامية وبلوغ العصر الذهبي ذروته، انخرط مفكرون مسلمون -منهم العالم أبو حامد الغزالي- في معالجة بعض المفارقات والإشكاليات، ثمّ ظهرت في أوروبا في العصور الوسطى مجموعة من الفلاسفة، حاولوا تناول المفارقات على نهج لاهوتي، لتفسير القدرة والاستطاعة، وكان أبرز أولئك المفكرين “رينيه ديكارت” و”إيمانويل كانت”. واستمرت تلك المفارقات بالظهور، ولم تقتصر على مجال واحد فحسب، فظهرت في الفلسفة والرياضيات والفلك.
مفارقة أخيل والسلحفاة
تعد مفارقة أخيل والسلحفاة من أقدم المعضلات الرياضية المعروفة، وقد ابتكرها الفيلسوف اليوناني زينون، وقدمها ضمن مجموعة واسعة من المفارقات التي تتعلّق بالحركة، فيرى زينون أنّ الحركة لا تخضع للقياس الحسّي، وإنما هي مجرّد وهم.
وتطرح مفارقة أخيل والسلحفاة مشكلة فلسفية تسلّط الضوء على مسألة قابلية القسمة غير النهائية، فيقول زينون إنّ المسافة (أو الحركة) يمكن تقسيمها إلى عدد لا نهائي من الخطوات.
فيقول إنّ رجلا يُدعى أخيل أراد السباق مع سلحفاة، ولكي يكون منصفا، تبرّع الرجل بالوقوف على مسافة 100 متر خلف موقع السلحفاة الأوّل. فلنفترض مثلا أنّ كليهما شرعا بالجري بسرعات ثابتة، على أن يكون أخيل أسرع من السلحفاة بطبيعة الحال.
وبعد فترة معينة من الزمن، سيكون أخيل قد وصل إلى النقطة التي بدأت منها السلحفاة، وخلال هذا الوقت ستكون السلحفاة قد قطعت مسافة معينة، ولنفترض أنها 4 أمتار. ثمّ لاحقا بحلول الوقت الذي يصل فيه أخيل إلى النقطة التالية، ستكون السلحفاة قد تحركت إلى الأمام قليلا.
وستتكرر هذه العملية إلى ما لا نهاية، ففي كلّ مرة يصل فيها أخيل إلى النقطة التي كانت فيها السلحفاة، ستكون السلحفاة قد تحركت للأمام قليلا، وعلى هذا الحال فلن يمسك أخيل بالسلحفاة أبدا، مع أنّه أسرع منها بمراحل.2
مفارقة الجدّ.. لعبة السفر عبر الزمن لوأد الأحداث
تعد مفارقة الجدّ إحدى المفارقات الحديثة نسبيا، نظرا إلى أنّها نشأت مع نشوء فكرة السفر عبر الزمن وتأثيره على السببية، والسببية (أو العلّية) موضوع فلسفي يُعنى بالعلاقة بين حدث يسمى السبب، وحدث آخر يسمى الأثر. والمفارقة تفترض أنّ التأثير نفسه يتخلّص من مسبّبه بشكل ما، وبذلك يمنع سبب حدوث التأثير، وتصبح سببية عكسية.
وعند طرح المثال يتضح المقال، وبالتشبيه الكلاسيكي لهذه المفارقة التي تعزى إليها تسميتها، أي مفارقة الجد؛ يسافر أحدهم عبر الزمن إلى الماضي ليقتل جدّه قبل أن يلد أي أطفال، وهذا يعني أنّ المسافة عبر الزمن لا يمكن أن توجد من الأساس، ونتيجة لذلك لا يمكنه السفر عبر الزمن، وبناء عليه لا يمكنه قتل جدّه.
فإذا كان لا يستطيع قتل جدّه، فهذا يعني أنّ أباه سيُولد، وبعد ذلك سيتمكّن هذا الحفيد من العودة بالزمن إلى الوراء لقتل جدّه، وهكذا دواليك تنشأ المفارقة، وتستمر بلا نتيجة حقيقية.3
تُطرح مفارقة الجدّ ضمن سياق الخيال العلمي، وقد ظهرت في إحدى قصص الروائي الشهير “راي برادبري”، وهي قصته القصيرة “صوت الرعد”، وفي عدد من الأعمال الأخرى أيضا.
ويرى بعض العلماء أنّ هذه المفارقة يمكن تناولها في السياق الفلسفي والفيزيائي، للاستدلال على عدد من المسائل، أبرزها مسألة إمكانية السفر عبر الزمن والتنقل فيه، فيقول بعض الفيزيائيين إنه بسبب هذه المفارقة، يمكن السفر عبر الزمن إلى المستقبل فقط، ولا يمكن الرجوع إلى الماضي بأيّ شكل من الأشكال، حفاظا على وحدة الزمكان من وقوع أيّ اختلال في جريان الأحداث.
والزمكان هو النسيج الكوني الذي افترضه العالم الألماني “ألبرت أينشتاين” في نظريته النسبية، إذ قال إنّ الكون يتألف من 3 أبعاد مكانية وبُعد آخر رابع يتعلّق بالزمان، وأنّ الزمن نسبي، وإذا كان ممكنا التحرّك بالأبعاد الثلاثة المكانية بطلاقة، فما المانع من الحركة بالبعد الزماني؟ على هذا النحو طُرِح تساؤل إمكانية السفر عبر الزمن.
سفينة ثيسيوس.. هوية تجدد نفسها حتى لا يبقى من أصلها شيء
ترتبط مفارقة سفينة “ثيسيوس” بطبيعة الهويّة للشيء، والتغير الذي يطرأ عليه مع مرور الوقت، وتفترض المفارقة أنّ سفينة قد أبحرت في عرض البحر، وأنّها مع مرور الوقت تتعرّض أجزاء منها للتآكل، وعليه تُبدّل الأجزاء المتآكلة بقطع جديدة، إلى أن تستبدل جميع القطع في السفينة بقطع جديدة، فيطرح السؤال نفسه: هل السفينة الموجودة الآن هي نفس سفينة ثيسيوس التي أبحرت في بداية الرحلة؟
وتثير هذه المفارقة أسئلة عدّة عميقة حول الهويّة والاستمرارية، فمن ناحية قد نقول إن السفينة لا تزال كما هي، لأنها حافظت على هيكلها العام، والهدف الأساسي من وجودها بوصفها “سفينة”، في حين أنها لم تعد ذات السفينة القديمة، نظرا لما وقع من استبدال جديدها بقديمها.
ويستخدم الفلاسفة مفارقة سفينة ثيسيوس للسبر في مفاهيم فلسفية مختلفة، منها الهوية الشخصية وتغيرها بالمحيط، وطبيعة الأشياء المادية، وهذا يفتح بابا آخر للتساؤل عن ماهية الأشياء وارتباطها بالاستمرارية المادية، أو تعلّقها بتاريخها وغرضها.
ويمكن تطبيق هذه المفارقة على عدد من الأمثلة، مثل لوحة فنيّة تُرمم كلّما تعرضت للتآكل، أو على الإنسان نفسه حينما تتغيّر شخصيته وطباعه وعاداته وينتقل من بيئة إلى أخرى.4
مفارقة الكاذب.. جدلية تناقض الألفاظ التي تكذبها معانيها
تشبه مفارقة الكاذب المثال الأوّل الذي طرح في مطلع المقال، وهي مفارقة منطقية كلاسيكية قديمة، وتنشأ عند التعامل مع عبارة تثبت على نفسها عدم صحتها، ومن أشهر الأمثلة عليها جملة “هذه العبارة خطأ”.
فإذا افترضنا أن هذه العبارة صحيحة، فلا بد أن تكون خطأ بحسب زعمها الأوّل، ولكن إذا كانت خطأ، فإن ما ترمي إليها العبارة يجب أن يكون صحيحا، فتكون بذلك عبارة صحيحة، وهنا نعود إلى الاحتمال الأوّل. وعلى هذا النحو تنتج عن ذلك حلقة مفرغة ليست فيها عبارة صحيحة ولا خطأ بشكل قاطع.
وتصّور مفارقة الكاذب العلاقة بين “المرجعية الذاتية” والتناقض الذي يمكن أن ينشأ في اللغة والمنطق، وقد بُذِلت محاولات عدّة لحلّ هذا المفارقة، باستخدام أساليب منطقية وأخرى نظريات دلالية، وكان بعض الحلول يتضمّن تعديل بعض قواعد المنطق، لكي تتوافق مع المرجعية الذاتية.
والمرجعية الذاتية موضوع فلسفي يتضمّن الإشارة بالكلام إلى الذات أو سماتها أو خصائصها أو الأفعال الخاصة التي تتعلّق بالفرد، فنقول مثلا أنا طيّار أو أنا رسّام.
كما أنّ هناك عددا من الصور لمفارقة الكاذب، وأشهرها مفارقة “بينوكيو”، وهو دمية الخشب الشهير الذي يشتهر بنمو أنفه حين يكذب، فلو افترضنا أنّ “بينوكيو” يقول “أنفي ينمو الآن”، فإنّ العبارة تحتمل نتيجتين تناقضان بعضهما.5
“مفارقة هيلبرت للفندق الكبير”.. حل سحري
تعد “مفارقة هيلبرت للفندق الكبير” تجربة فكرية اقترحها عالم الرياضيات “دافيد هيلبرت”، وتتناول بعض المفاهيم المتناقضة في نظرية المجموعات واللانهاية.
ونص المفارقة كالآتي: لو افترضنا أن فندقا كبيرا يحتوي على عدد غير نهائي من الغرف، وتُرقّم الغرف بترتيب متتالٍ: الغرفة 1، الغرفة 2، الغرفة 3 وهكذا يستمر الترقيم إلى ما لا نهاية.
فلو افترضنا الآن أن الفندق حُجِزت جميع غرفه، وأنّ كلّ نزيل نزل في غرفته، ثم حلّ ضيفٌ جديد فجأة، وطلب لنفسه غرفة، ففي الحالة العادية سيعجز أيّ فندق ذي غرف محدودة عن إيجاد غرفة جديدة، لكن في سياق الفندق الكبير، فإنّ مدير الفندق يستطيع استيعاب النزيل الجديد، ولا يرفض أيّ شخص.
وكان حلّ المشكلة أن ينقل المدير نزيل الغرفة 1 إلى الغرفة 2، ونزيل الغرفة 2 إلى الغرفة 3، وهكذا حتى آخر ضيف. وهذا يعني أنّ العملية تشمل نقل كلّ نزيل إلى الغرفة التالية، فتصبح بذلك الغرفة 1 شاغرة، وتُمنح للنزيل الجديد.
فمع أنّ الفندق كان ممتلئا، فإنّه ما زال يستوعب ضيفا جديدا. ثم لو افترضنا مرة أخرى أن حافلة قد امتلأت بضيوف عددهم لا نهائي أرادوا الإقامة في الفندق الكبير، فإنّ ما سيفعله مدير الفندق هو تكرار العملية السابقة، وهي نقل نزيل الغرفة 1 إلى الغرفة 2، وهكذا.
وتوضّح المفارقة أنّ الفندق الكبير الذي يحوي عددا لا نهائيا من الغرف المحجوزة، يستطيع استيعاب مزيد من النزلاء، وإن كان عددهم لا ينتهي، وحتى عملية استيعاب أفواج من النزلاء يمكن أن تتكرر بعدد غير نهائي من المرّات. وهذه المفارقة تسلّط الضوء على الخصائص الغريبة لنظرية اللانهائية، والخصائص المتناقضة للمجموعات اللانهائية في الرياضيات.
مفارقة الأرقام المثيرة للاهتمام
في عام 1918، ركب عالم الرياضيات “غودفري هارولد هاردي” سيارة أجرة في لندن، متجها نحو أحد مستشفيات المدينة، وقد لفتت انتباهه لوحة السيارة التي حملت (1729)، وبحكم مجال عمله، فإنّ هذا العدد لا يرمز لأيّ شيء خاص، فليس عددا أوّليا، ولا مربّعا لعدد آخر.
وهذا على نقيض الأعداد الأخرى، فمثلا الرقم 1 هو بداية الأعداد الطبيعية، والرقم 2 هو أوّل عدد زوجي، والرقم 3 هو العدد الوحيد الذي يساوي مجموع الرقمين اللذين قبله، والأمر يستمر على هذا النحو مع بقيّة الأعداد المميّزة.
وحينما وصل “هاردي” إلى زميله المريض “سرينفاسا رامانوغان”، ذكر له قصّة العدد الذي رآه آنفا، ووصفه بأنّه عدد (مُمِل) لا يحمل أيّ سمة مميزة فيه، وأنّه يأمل بأن لا يكون هذا العدد نذير شؤم. لكن زميله “رامانوغان” خالفه الرأي معه، فقال إن 1729 عدد مثير للاهتمام للغاية؛ لأنه أصغر عدد يمكن التعبير عنه بمجموع مكعبين بطريقتين مختلفتين.
يمكن وصف هذا العدد رياضيا بأنّه مجموع تكعيب 1 وتكعيب 12 (1728 +1)، وبطريقة أخرى يساوي أيضا مجموع تكعيب 9 وتكعيب 10 (729+ 1000)، فهذا يجعل العدد مميزا للغاية.6
وهنا يلوح سؤال مثير: هل ثمّة أي عدد غير مميّز بأيّ شكل من الأشكال؟ وهذا السؤال بحد ذاته يشكّل مفارقة. فلو افترضنا أنّ جميع الأعداد ذات خصائص مميّزة باستثناء عدد واحد، وهو عدد لا يتسم بأيّ ميزة مثيرة، فإن هذا بحد ذاته ميزة تجعله مميّزا، وعليه فإنّه عدد مميز، لكن هذا سيلغي افتراضنا الأوّل، بأنّه عدد غير مميز بالأساس، فتسقط عنه ميزة التميّز، وهكذا ندخل في معضلة لا حلّ لها.
المصادر:
[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). زينون الإيلي. الاسترداد من: https://www.britannica.com/biography/Zeno-of-Elea
[2] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). مفارقة أخيل. الاسترداد من: https://www.britannica.com/topic/Achilles-paradox
[3] لي، روبرت (2022). ما هي مفارقة الجد؟. الاسترداد من: https://www.space.com/grandfather-paradox.html
[4] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). سفينة ثيسيوس. الاسترداد من: https://www.britannica.com/topic/ship-of-Theseus-philosophy
[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). مفارقة الكاذب. الاسترداد من: https://www.britannica.com/topic/liar-paradox
[6] بيشوف، مانون (2023). العدد الأكثر مللا في العالم هو. الاسترداد من: https://www.scientificamerican.com/article/the-most-boring-number-in-the-world-is/