في حوار أجري مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون في 11 أبريل/نيسان عام 2001، وجه له السؤال التالي: هل ستكون مستعدا في إطار اتفاق عدم اعتداء، لأن تخلي مستوطنات غزة؟
فكانت إجابته: لا، ولا بأي شكل من الأشكال.
بعد هذا الحوار بـ4 سنوات، وتحديدا في 12 سبتمبر/أيلول عام 2005، اتخذ شارون بنفسه قرار تفكيك 25 مستوطنة كانت في قطاع غزة، بعد فعل مقاوم متواصل في القطاع خلال سنوات الانتفاضة الثانية.
ووفق مراقبين فقد تكفّلت المقاومة بعملية كي وعي معاكس للعقل الإسرائيلي، الذي وجد في الانسحاب كلفة أقل من البقاء في غزة.
لكن المستوطنات تحمل أهمية إستراتيجية بالنسبة لنظرية الدفاع في إسرائيل، التي لا تمتلك عمقا دفاعيا، ووجود المستوطنات في قلب غزة كان يضمن لها التصدي لأي هجوم قبل أن يصل إلى عمقها، إضافة لعزلها المدن بعضها عن بعض، كما عزلت مستوطنة “نتساريم” بين خان يونس وغزة قبل تفكيكها.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، ذهبت النظرية الأمنية نحو خنق القطاع عبر إحاطته بطوق كثيف من المستوطنات والقواعد العسكرية وعشرات المواقع الأمنية، بالإضافة لبناء جدار أمني وصف بـ”الذكي” لشدة تطوره.
وقبل هجوم كتائب “الشهيد عز الدين القسام”، الجناح العسكري لحركة “حماس”، بيوم واحدٍ على مستوطنات الغلاف في المعركة التي أطلق عليها اسم “طوفان الأقصى”، كان يبدو أن النظرية الأمنية الإسرائيليّة عن القطاع شديدة التماسك، ولا يعكر صفوها سوى الصواريخ التي تنطلق في كل جولة تصعيد.
لكن بعد الهجوم بساعات، كانت المنظومة الأمنية كلها تقف مشدوهة أمام انهيار ما بنته على مدار السنوات، وهو يتهاوى أمام عناصر القسام، وهم يخرقون الجدار والسياج ويقتحمون المواقع والمستوطنات ويسيطرون عليها.
ولكي نفهم حجم ما بنته إسرائيل اتقاء هذه اللحظة، ولكي ندرك عمق العمل المقاوم وعبقريته، سنحاول في هذه التقرير التطرق لبعض ملامح النظرية الأمنية التي شيدتها دولة الاحتلال حول قطاع غزة.
لم يعد ذكيا
في مطلع ديسمبر/كانون الأول عام 2021، كان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، يقف متفاخرا أمام جمهور عريض من المحتفلين بتدشين الجدار الأمني “الذكي” الخاص بقطاع غزة.
وأمام رؤساء المجالس المحلية للبلدات الإسرائيلية المحيطة بغزة، خطب غانتس بكل ثقة عن أن الجدار هو مشروع تكنولوجي من شأنه أن يحرم “حماس” من إحدى القدرات التي كانت تحاول تطويرها، ألا وهي الأنفاق الهجومية. وأضاف: “يهدف الجدار إلى وضع حاجز حديدي وخرساني وأجهزة استشعار بين حماس وسكان الجنوب”.
بعد عامين من هذا الزهو، وفي 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان الجدار يشهد مرور سيارات الدفع الرباعي والدراجات النارية والجرافات التابعة للمقاومة الفلسطينية في غزة، تاركين خلفهم حوالي 10 اختراقات في الجدار “الذكي”، واختراقا أكبر منه في الكبرياء الإسرائيلي.
عشرات أبراج المراقبة، ومئات الكاميرات، بالإضافة إلى وسائل إنذار مسبق، ومجسّات حساسة، جميعها كانت في سُبات عميق.
استغرق بناء الجدار 5 سنوات، وانتهى في 7 ديسمبر/كانون الأول 2021، واستُخدم فيه 220 ألف شاحنة خرسانة، و140 ألف طن من الحديد، حتّى بات يحيط بقطاع غزة من الشرق والشمال بطول قرابة 65 كيلو مترا، ويصل إلى عمق 25 مترا تحت سطح الأرض في جزئه المخصص لمقاومة الأنفاق الهجومية.
وُصف هذا الجدار بـ “الذكي” لكونه يحتوي على أجهزة استشعار للكشف عن محاولات اختراقه أو الحفر أسفل منه، كما جهّز بكاميرات ورادارات، فضلًا عن غرفة للقيادة والتحكم. لقد كلّفهم ذلك مليارات الدولارات، صارت في لحظة هباء منثورا.
تكتيك الاختراق
في الواقع لا نملك معرفة تامة بالكيفيّة التي تمكنت بها المقاومة الفلسطينية من تجاوز الجدار الأمني، إلا أنه يمكن تشخيص الفشل الأمني الإسرائيلي في المقاوم الأول في تركيز النظرية الأمنية على منع الأنفاق الهجومية، التي شكلت مصدر تهديد حقيقي بالنسبة لإسرائيل، خصوصا بعد اكتشاف أنفاق هجومية سابقا.
وخلال تركيز التحليل الاستخباري على ما تحت الأرض، فاتها أن الهجوم قد يكون من فوق الأرض.
وفي سياق ذلك، كانت المقاومة قد أطلقت مسيرات شعبية ملاصقة للجدار قبل تنفيذ الهجوم بأسبوعين، يُعتقد أن من خلالها قد جددت فحصها لنقاط الضعف الكامنة في الجدار والسياج، فعملت على دراسته قبل اختراقه في الهجوم.
فيما كان المستوى الثاني من إخفاق الجدار، بأن وظيفته الأساسيّة في الإنذار، بما يحتويه من مئات المجسات الاستشعارية والتكنولوجيات التحذيرية، لم تعمل، أو على الأقل جرى الالتفاف حولها.
ومن الجدير بالذكر، أن هذا الإخفاق سينال من سمعة “إسرائيل” ومكانتها في اقتصاديات بناء الجُدر حول العالم، وهو ما سيترتب عليه خسائر مالية باهظة.
لقد شكلت “إسرائيل” سمعتها في صناعة الجدر من خلال بنائها للعديد من الجدران في تجربتها الاستعمارية: جدار الفصل في الضفة الغربية عام 2002، ثم جدار سيناء عام 2012، ثم جدار لبنان عام 2018، ثّم آخرها الجدار الأمني مع غزة.
ليست صناعة الجدران عملية بنائية محصورة بصب الإسمنت، بل تطورت لتصبح علما من العلوم الأمنية المتصلة بالقدرة على المراقبة واستخدام التكنولوجيا المتطورة في حماية الحدود، وهي صناعة تنشط فيها عشرات الشركات الإسرائيلية، التي تعمل في مجال البحث والتطوير في كل ما يتعلق بصناعة الجدران والحواجز والعوازل والبوابات الإلكترونية وأنظمة الرقابة المتعلقة بإدارة السكان، وكل هذه الصناعات تدخل في بناء الجدران العازلة.
كلّ هذه الخبرة، التي مارسوها على الفلسطينيين وصدّروها إلى العالم كبضاعة أمنية، جعلها كتائب القسّام على المحك.
الطوق الذي التف على عنق الاحتلال
بعد اختراق الجدار الأمني، كانت المقاومة تشق طريقها نحو عشرات المستوطنات والمواقع العسكرية، التي طالما وقفت تراقبها من بعيد وهي تختنق تحت وطأة الحصار. بل كان سكّان هذه المستوطنات المحاذية للقطاع، يجلسون بما يشبه السينما “يتفرّجون” من علٍ على مناظر القصف الإسرائيلي لقطاع غزة، مستمتعين.
هناك تماما، كانت أقدام المقاومين تهرول مجتاحة الموقع تلوَ الموقع، بطوفان مرعب التهم المستوطنات، ومعها حُراسها.
يُشكل جزء كبير من هذه المستوطنات التي انتظمت كطوق إثر الانسحاب من قطاع غزة، ما بات يعرف بـ “غلاف غزة”.
ويلعب هذا الغلاف من المستوطنات دورا مهما من الناحية الأمنية والإستراتيجية بالنسبة لـ “إسرائيل”:
- أولا: في كونه يُشكل خطوط دفاعٍ أمامية لصد المقاومة في غزة، فيُعالج بذلك معضلة غياب العمق الجغرافي للكيان من جهة القطاع تحديدا.
- ثانيا: يساهم في تطويق القطاع وخنقه، ويمنع تمدده جغرافيا، وبذلك هو جزء أساسي من تحويل القطاع لسجن كبير.
- ثالثا: يشكل حاجزا ديمغرافيا وجغرافيا يعزل القطاع عن الضفة الغربية، وبالتالي يقطع التواصل بين الفلسطينيين، ويعطل قيام أي اجتماع فلسطيني لغياب الأرض الواحدة.
وعلى هذا الأساس، جرى تطويق القطاع بنحو 50 مستوطنة، بعمق يبدأ من 7 كيلومترات، وعلى مسافة تبلغ نحو 40 كيلومترا. ثم أعطوا هذه المستوطنات تقسيمات داخلية، تضمن أداء وظيفتها بكفاءة، فوزعت على 3 مجالس محلية هي:
مجلس “أشكول”: يضم 32 مستوطنة، ويمتد على مساحة 380 كيلومترا مربعا. مجلس “أشكلون”: يضم 4 مستوطنات، ويمتد على مساحة 175 كيلومترا مربعا. مجلس “شاعر هنيغف”: يضم 11 مستوطنة، ويمتد على مساحة 180 كيلومترا مربعا.
أما أعداد المستوطنين في هذه المجالس، فتزايد على مدار سنوات ليصل إلى 55 ألف مستوطن، وهو ما يعكس حالة التحفيز التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في تشجيع الإسرائيليين على السكن فيها.
بالنسبة للكيان الإسرائيلي، تُشكّل منطقة غلاف غزة أهمية حيوية، فهي قريبة من الخطر، مما جعل سكانها يحظون بامتيازات تشجعهم على قصدها بغرض السكن والعمل والاستقرار.
يهود الشرق
ولأن هذه المستوطنات خطرة، فمعظم المستوطنين الذين يعيشون فيها هم من اليهود الشرقيين الذين يعتبرون “متطرفين يمينيين”، ومعظم هؤلاء كانوا يعيشون في المستوطنات التي فُككت داخل غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي، وعرقهم هذا، يفسر بشكل جزئي، لماذا بقيت شكواهم من صواريخ المقاومة المتكرّرة لا تُزعج سكان تل أبيب.
في المقابل، شكلت مستوطنات الغلاف التي تتفاوت أهميتها لدى الجيش الإسرائيلي هدفا قريبا وسهلا نسبيا لصواريخ المقاومة، التي كانت تستهدفها باستمرار في كل جولات التصعيد، حتى أصبحت قادرة لاحقا على تجاوزها بعد تطور قدراتها الصاروخية شيئا فشيئا.
فمستوطنة “سديروت” مثلا، تحولت إلى مدينة يسكنها أكثر من 19 ألف مستوطن، كذلك موقع “كرم أبو سالم”، والذي يوصف بأنه الموقع الأكثر تحصينا، هو بمثابة “كيبوتس” يبعد 300 متر فقط عن الحدود بين غزة وإسرائيل ومصر، ويشكل معبرا حدوديا إستراتيجيا للمناطق الثلاث.
ونتيجة للتمركز الكبير لجيش الاحتلال فيه شكل الموقع نقطة مواجهة مع المقاومة، واستغلت “إسرائيل” الموقع خلال السنوات السابقة للسيطرة على غزة، باعتباره أهم المعابر لإدخال الوقود والسلع إلى القطاع.
كما تشكل بعض المستوطنات أهمية بما تمثله من قاعدة إنتاجية، مثل مستوطنة “زيكيم”، واحدة من أبرز مستوطنات الغلاف، تقع على الحدود الشمالية للقطاع، وتضم قاعدة عسكرية مُطلّة على الشاطئ، وتعتبر من أكثر القواعد التي تتمتع بتحصينات أمنية مشددة، لاحتوائها على مصفاة للنفط ومحطة توليد تمد جنوب إسرائيل بالكهرباء.
وخلال عملية “طوفان الأقصى”، استطاعت المقاومة السيطرة بشكل كامل على الموقع، وغنمت منه آليات ومعدات عسكرية، ودارت حوله اشتباكات بين المقاومين والجنود الإسرائيليين الذين قُتل منهم عدد كبير.
أما قاعدة “رعيم” العسكرية، فتكتسب أهميتها من كونها مقر قيادة “فرقة غزة”، القوة العسكرية الكبيرة، المكونة من جميع التشكيلات العسكرية الإسرائيلية، والقريبة من قاعدة المدرعات، والتي مهمتها الأساسية تكمن في تأمين كل الحدود مع مصر من شرقي رفح إلى السودانية، وصولا إلى مستوطنة “زيكيم” داخل “إسرائيل”.
سيطرت المقاومة على هذا الموقع، وغنمت منه العديد من الآلات والوثائق المهمة، وقامت بتدمير الفرقة بالكامل، وهي الفرقة المسؤولة عن التعامل مع قطاع غزة وحماية غلافها.
فرقة غزة الإسرائيلية
أنشئت “فرقة غزّة” في أعقاب انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987، وحملت اسم “مجموعة ثعالب الجنوب”، وقسم عمل هذه الفرقة إلى ثلاث مناطق: شمال، ومركز (وسط)، وجنوب، بحيث تسيطر على المدن الفلسطينية المركزية في القطاع: غزة، وخان يونس، ورفح.
احتفظت الفرقة بتوجيهات القيادة العامة لأركان الجيش الإسرائيلي بالاستمرار في حراسة الحدود مع إسرائيل والإشراف على المعابر، وبناء على هذه التحولات، فُكّك القسم الأوسط من الفرقة، ودمج أفراده مع القسم الجنوبي.
وعقب إتمام الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في 2005، انسحبت الفرقة بكاملها وتمركزت على الحدود مع القطاع.
أما مستوطنة “عسقلان” فحازت لقب “نجمة الجنوب”، إذ شهدت بناء ونموا سكانيا قياسيا خلال السنوات الأخيرة جعلها تنافس مدن المركز الكبرى في تصنيف الجذب السكاني.
قبل أن يموت شارون، قطع على نفسه عهدا بأن لا تتحول عسقلان إلى مدينة على خط النار، في العاشر من أكتوبر، كانت المقاومة تُمطر عسقلان بوابل غير مسبوق من الصواريخ ردا على تهجير إسرائيل لسكان القطاع، لتحمل انهيارا متتاليا لأوهام النظرية الأمنية الإسرائيلية.