لا يستطيع سعيد (اسم مستعار) أن يفهم لماذا يقبع في سجن أفلونا -مركز احتجاز شمال شرق العاصمة اليونانية أثينا- منذ شهور طويلة.
“حين يسألني أحدهم لماذا أنت في السجن، أجيب بأنني لا أعلم”، يقول الشاب المصري البالغ من العمر 21 عامًا.
“نحن صغار في العمر، ونشعر بالرعب.. يُقال لنا إننا سنُحكم بالسجن لمدة 400 عام أو ألف عام.. وفي كل مرة يقولون لنا ذلك، نموت.”
وسعيد هو واحد من 9 مصريين في الحبس الاحتياطي (وهم الوحيدون المحتجزون على ذمة الحادثة) متهمين بالمسؤولية الجنائية عن غرق سفينة قبالة جزيرة بيلوس العام الماضي، مما أدى لمقتل مئات الأشخاص الذين كانوا يحاولون الوصول إلى أوروبا.
“مش همشي إلا لما آخذ جثة أخي”.. مصري يتهم فرق الإنقاذ اليونانية بإغراق مركب اللاجئين pic.twitter.com/3d8WdQcxCK
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) June 17, 2023
يُتهم الفريق -بموجب القانون اليوناني- بتشكيل منظمة إجرامية، وتسهيل الدخول غير الشرعي للبلاد، والتسبب في غرق سفينة.
من جهتهما، قال مراسلا الجزيرة الإنجليزية الصحفية مويرا لافيا المقيمة بأثينا والمختصة بقضايا الهجرة وزميلها ودات يلار -بالشراكة مع كل من قناة أومنيا (وهي قناة وراديو يوناني غير هادف للربح)، وصحيفة إيفيميريدا تون سينتاكتون اليونانية اليومية- إن جميع المتهمين التسعة كشفوا لهم أنهم لم يكونوا من بين المهربين الذين نظموا الرحلة أو استفادوا منها.
في المقابل، قال الأشخاص التسعة إنهم كانوا مجرد ركاب نجوا من الغرق، بل اتهموا خفر السواحل اليوناني بالتسبب في انقلاب القارب المكتظ.
وكان تحقيق استقصائي للجزيرة نت -نشر بعد قرابة 72 ساعة من تأكيد غرق القارب- أكد أن خفر السواحل اليوناني طلب من المركب أن يتبعه، وحينما تعطل محرك قارب اللاجئين سحبه خفر السواحل بحبل جرى ربطه بالقارب، مما أدى لتمايله بشدة قبل أن ينقلب ويغرق أغلب ركابه، وفق شهادات عديدة من الناجين وأقاربهم ونشطاء تواصلوا مع ركاب المركب عبر الأقمار الصناعية، بالإضافة لنشطاء مستقلين وخبراء قانون دولي كذّبوا رواية اليونان.
اعتراف تحت التهديد
في أثناء التحدث عبر الهاتف من الاحتجاز، أخبر المتهمون مراسلي الجزيرة وشركاءهم أن الادعاء اليوناني لم يأخذ شهاداتهم بدقة واهتمام، وأنهم وقعوا على أوراق لم يفهموها تحت الضغط بالعنف أو تحت تهديدات باستخدام العنف.
من ناحيتهما، قال ناجيان آخران أيضًا -بخلاف المتهمين التسعة- إن تسعة المتهمين ليسوا مذنبين، محملين خفر السواحل اليوناني المسؤولية.
خوفًا من الانتقام من طرف أجهزة الدولة اليونانية، طلب جميع المصادر الـ11 من الجزيرة إخفاء هوياتهم واستخدام أسماء مستعارة لهذا التقرير.
وقال المتهمون -وبينهم آباء وعمال وطلاب- إنهم دفعوا ما بين 140 إلى 150 ألف جنيه مصري (4500 إلى 4900 دولار تقريبا) إلى مهرب أو وسيط للصعود على متن القارب الغارق.
“سأخبرك بما جرى، أنا شخص دفع 140 ألف جنيه مصري”، يقول مجدي (اسم مستعار) وهو متهم آخر بالقضية.
“إذا كنت الشخص الذي يضع هؤلاء الأشخاص على متن القارب، فبالتأكيد أمتلك من المال -على الأقل- 7 أو 8 أو 9 آلاف يورو.. حتى 20 ألف يورو. فلماذا قد أقبل أن أصعد على قارب مثل هذا؟”
وفي عام 2022، قال مهرب لصحيفة غارديان البريطانية إنه يتقاضى من المصريين حوالي 120 ألف جنيه مصري (3900 دولار). وتفيد تقارير صحفية حديثة بأن الذين يهاجرون من سوريا غالبًا ما يدفعون حوالي 6 آلاف يورو (حوالي 6500 دولار) لمثل هذه الرحلة.
وقال ناجيان سوريان آخران إنهما دفعا المال لأشخاص، ليس من بينهم المصريون المتهمون التسعة، وأضافا أن المحتجزين التسعة لم يشاركوا في التهريب.
“لا. لم يكونوا مذنبين بأي شيء”، يقول أحمد (وهو اسم مستعار لأحد الناجين السوريين).
من أغرق القارب؟
في ذلك اليوم الدامي 14 يونيو/حزيران 2023، انقلبت السفينة المحملة بنحو 750 شخصًا، بينهم مهاجرون مصريون وسوريون وباكستانيون وأفغان وفلسطينيون، ومن بينهم أطفال ونساء. وكان قارب الصيد الأزرق المتهالك قد أبحر من سواحل ليبيا قبل 5 أيام من حادث الغرق.
تم انتشال 84 جثة فقط وتم إنقاذ 104 من ركاب القارب، مما يعني أن المئات ماتوا في واحدة من أسوأ كوارث قوارب اللاجئين المسجلة في البحر الأبيض المتوسط على الإطلاق.
وتقول مجموعات حقوقية ونشطاء وبعض الناجين أن مسؤولي خفر السواحل اليوناني فشلوا في واجبهم -وفق القانون الدولي- بإنقاذ الأرواح في البحر.
وقال أحمد (أحد الناجين) إنه رأى المتهمين التسعة في أثناء الفوضى عندما بدا أن السفينة على وشك الانقلاب، وبدأ الركاب في الذعر والركض حولها.
“كانوا يوجهون الناس فقط عندما بدأت سفينتنا في الميل.. كانوا يصرخون في الناس في محاولة لتثبيت السفينة المائلة”، يضيف أحمد.
صرح 7 من المتهمين بأنهم رأوا قارب دورية خفر السواحل اليوناني يربط حبلاً بالسفينة قبل غرقها، وسحب الضباط اليونانيون القارب فجأة مرة واحدة، ثم مرتين بعدها، مما تسبب في انقلاب القارب وغرقه في البحر المتوسط، كما يقولون.
“رأيت القارب اليوناني وقد ربط حبلًا أزرقا سميكًا، حبلًا واحدًا، بوسط القارب”، قال فتحي (اسم مستعار لأحد الرجال المتهمين)، “سحبوا القارب، ثم مال جانبًا، ورأوا أنه يميل، وواصلوا السحب، فتم قلب القارب رأسًا على عقب”.
“قارب يوناني، جرّنا وأغرقنا، وقتل إخواننا وأصدقائنا، والآن انظر إلي وقد أصبحت في السجن”.
صرح اثنان من المتهمين بأنهما كانا محتجزين ولم يفهما ما حدث حتى بعد وقوع الكارثة، عندما كانا على متن قارب خفر السواحل اليوناني.
وقال الناجيان السوريان للجزيرة إنهما شاهدا خفر السواحل اليوناني يجر قارب اللاجئين.
من جهته، قال محمد (اسم مستعار) عن المصريين المحتجزين التسعة “لم تكن لهم علاقة بغرق القارب. هذا واضح”.
“عليك أن تفكر بطريقة منطقية. كان المركب الغارق قاربًا كبيرًا ولم يكن ليغرق لو لم يتدخل أحد. كان المحرك معطلاً لكنه كان يمكن أن يظل طافيًا. خفر السواحل اليوناني هو المسؤول بالفعل عن الغرق (المتعمد).”
من ناحيته، نفى خفر السواحل اليوناني الاتهامات، قائلاً إن لديه “احترامًا مطلقًا للحياة البشرية وحقوق الإنسان”.
“ومع ذلك، بالتعاون مع السلطات القانونية والهيئات ذات الصلة الأخرى، يجب وضع آليات تحكم مناسبة عند الضرورة”، حسب تصريحه للجزيرة.
روايات اليونان المتضاربة
في البداية، لم يشر خفر السواحل إلى أي حادث متعلق بالحبل في بياناته الرسمية ونفى المتحدث الرسمي نيكوس أليكسيو تقارير تتناول قصة الحبل.
ومع ذلك، قال أليكسيو -في ما بعد- إن القاربين كانا “مربوطين بحبال لمنعهما من الانجراف”، وجاء ذلك في بيان وسط شهادات من الناجين تكذب رواية اليونان.
تهدف تحقيقات جارية في المحكمة البحرية بكالاماتا (جنوب اليونان) إلى تحديد إذا ما كان خفر السواحل اليوناني قد أدى عمليات البحث والإنقاذ بشكل صحيح.
في الأثناء، أفاد تقرير حادث فرونتكس (وكالة الحدود الأوروبية) الأخير عن غرق القارب قبالة سواحل بيلوس بأن “السلطات اليونانية فشلت في إطلاق مهمة البحث والإنقاذ في الوقت المناسب ونشر عدد كافٍ من الأصول المناسبة في الوقت المناسب لإنقاذ المهاجرين”.
ولم يتم تحديد موعد بدء محاكمة التسعة المتهمين، على الرغم من أن القانون اليوناني ينص على أنه يجب أن تبدأ في غضون 18 شهرًا من توقيفهم لأول مرة. وإذا تمت إدانة الرجال المتهمين، فقد يواجهون عقودًا في السجن.
“بعد أن وقعت على الأوراق، ضربوني”
يقول تسعة الرجال إنهم قدموا تحت الضغط شهاداتهم في مركز شرطة كالاماتا في اليوم التالي للغرق؛ إذ تم الضغط عليهم لتوقيع وثائق باللغة اليونانية التي لم يتمكنوا من فهمها، حسبما قالوا.
وقال اثنان إن ضباط الشرطة والمترجمين الحاضرين في أثناء الاستجواب ضربوهم أو ركلوهم.
قال صابر (اسم مستعار) إنه تم تسليمه أوراقًا باللغة اليونانية وأعرب عن عدم رغبته في التوقيع عليها. وأضاف “قال لي (المترجم) إنه سيوقع بجانب توقيعي. كما لو أن شيئًا لم يحدث”، وتابع قائلا “بعد أن وقعت (على الأوراق)، ضربني”.
قال صابر إنه رأى الشرطة تركل متهما آخر في صدره.
ولم ترد الشرطة اليونانية على طلبات التعليق على هذه الاتهامات.
“تجريم اللاجئين”
لطالما اتهمت اليونان -من قبل مجموعات حقوقية- باتهام أشخاص أبرياء وضحايا بالتهريب، وجرى الحكم عليهم من قبل السلطات القضائية المحلية بالبلاد.
يرى ديميتريس شوليس، محامي الدفاع الذي قضى سنوات في العمل على قضايا مماثلة مع “مشروع ساموس لحقوق الإنسان القانونية”، أن هذه الحادثة مثال آخر على “تجريم اللاجئين”.
“نرى السلوك نفسه، وعدم الرغبة نفسها من السلطات في التحقيق الفعلي في ما حدث”، قال شوليس للجزيرة.
ووجد تقرير عام 2021 من قبل الجمعية الخيرية الألمانية لمراقبة الحدود أن هناك ما لا يقل عن 48 حالة على جزر خيوس وليسبوس اليونانيتين وحدهما لأشخاص يقضون عقوبة السجن، ويؤكدون أنهم “لم يستفيدوا بأي شكل من الأشكال من عملية التهريب”.
قال شوليس إن محاكمات التهريب كانت تستمر لمدة 20 دقيقة فقط وتصدر في أعقابها أحكام بالسجن لمدة 50 عامًا.
ويتماشى ذلك مع تقارير من مجموعات الرقابة مثل “بوردر لاين أوروبا” التي تقول إن محاكمات التهريب في اليونان تُجرى على عجل و”تصدر أحكاما على أساس أدلة محدودة ومشكوك فيها”.
من جهته، اشتكى مركز ليسبوس القانوني، الذي يعمل أيضًا على الدفاع عن المصريين التسعة، من نقص شديد في الأدلة، قائلا إن ملف التحقيق يعتمد “بشكل شبه حصري” على عدد قليل من الشهادات التي أُخذت في “ظروف مشكوك فيها”.
بالإضافة إلى ذلك، استعرضت الجزيرة وثائق مسربة من قضية المحكمة، بما في ذلك شكوى قدمها محامو الدفاع تفيد بأن تقرير خبير كتبه مهندس بحري ومهندس ميكانيكي بحري -أفاد كجزء من التحقيق- استخدم أدلة ضئيلة: 3 صور، ومقطعي فيديو، وبريدا إلكترونيا واحدا. ولم يأخذ التقرير في الاعتبار انقلاب السفينة وغرقها، كما ادعت الشكوى.
وتساءل الدفاع أيضًا عن حياد الخبراء المعينين وذكر أن الإجراءات المتعلقة بكيفية إخطار المتهمين بتقرير الخبير لم يتم اتباعها.
“أعتقد بشدة أن خفر السواحل اليوناني تسبب في الغرق”، قال شوليس، مضيفا أن “خفر السواحل اليوناني أجرى كل التحقيق الأولي في هذه القضية، وأمروا المهندس البحري بإجراء التحليل، أعتقد أن المشكلة واضحة هنا”.
قال 4 من الرجال المتهمين إنهم قدموا الماء للأشخاص الجالسين بجانبهم، ويشرح شوليس أنه في حالات التهريب السابقة كان تقديم الماء يُعتبر تهريبًا.
“لقد رأينا السلطات تتهم الأشخاص، وفي بيلوس كذلك، بناء على أفعال مثل تقديم الماء، وتوزيع الطعام، وامتلاك هاتف، وتصوير فيديوهات، والنظر إلى نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)، والاتصال بالسلطات، وربط حبل لجر قاربهم ليتم إنقاذهم.. إلخ”.
لا يستطيع جمال (أحد المتهمين التسعة) أن يفهم كيف يُعتبر تقديم الماء لشخص ما تهريبًا.
“بالطبع، إذا كانت لديك زجاجة ماء في يدك وشخص بجانبك يموت من العطش، ألا تعطيه الماء؟” تحدث من السجن، وأضاف “لا.. لكن هنا، يُعتبر هذا تهريبًا للبشر”.