قبل أكثر من 30 عاما، عُثر على جثة الصحفي الاستقصائي الأمريكي “داني كاسولارو” داخل غرفة فندق في فيرجينيا الغربية، وكانت على معصميه جروح عميقة، وآثار نزيف حاد في كل مكان، وقد اعتبرت السلطات الحادث انتحارا.
لكن الشواهد أشارت إلى احتمال أن تكون جهة ما، قد اغتالته لمنعه من إيجاد أدلة تدين عددا من كبار المسؤولين في المخابرات المركزية ووزارة العدل والنيابة العامة ووزارة الدفاع وغيرها.
هذا هو مدخلنا إلى المسلسل الوثائقي القصير (4 حلقات) الذي يحمل عنوان “مؤامرة أمريكية.. جرائم الأخطبوط” (American Conspiracy: The Octopus Murders)، وقد أخرجه “زكاري ترايتز”، وبدأت عروضه على شبكة نتفليكس في أواخر فبراير/ شباط 2024.
“داني كاسولارو”.. صحفي أزعج رجال الظل في عامه الأخير
كان الصحفي “داني كاسولارو” -الذي انتهت حياته وهو ابن 44 عاما- يسعى خلال 12 شهرا قبل موته، إلى الكشف عن خيوط يمكن أن توصله للذين يشكلون تلك الحلقة الجهنمية التي أطلق عليها “الأخطبوط”، وقد حددهم في ثمانية أشخاص، واختار كلمة جرائم الأخطبوط عنوانا لكتابه الذي كان يأمل نشره قريبا بعد أن تكتمل حلقات السلسلة.
كانت هذه الشخصيات تمارس نشاطا سريا بعيدا عن أعين القانون، تمتد من الولايات المتحدة إلى إيران ومصر وإسرائيل ولبنان وعدد من بلدان أمريكا اللاتينية، ومن أروقة أجهزة المخابرات، إلى أوكار عصابات الاتجار في المخدرات لتمويل العمليات السرية للمخابرات الأمريكية (سي أي إيه)، وهي العمليات التي لا يمكن أن يمررها الكونغرس الأمريكي.
ومنها – حسب ما يخبرنا الفيلم- بيع صواريخ لإيران، واستخدام الأموال التي جاءت من الصفقة لتمويل شراء أسلحة، ثم إرسالها إلى جماعات “الكونترا” المسلحة التي كانت تسعى لقلب النظام الماركسي في نيكاراغوا.
جرائم الأخطبوط.. سير حثيث على خطوات الصحفي الراحل
قضى فريق المخرج “زكاري رايتز” سنوات في تتبع واقتفاء آثار الشخصيات التي كان “كاسولارو” قد أقام معها بعض الصلات. وكان رفيقه الأول الصحفي الاستقصائي “كريستيان هانسن”، الذي يحاول فك ألغاز جرائم “الأخطبوط” التي كان “كاسولارو” يظن أنه عندما يكشف عنها، سيعيد كتابة التاريخ الأمريكي خلال الخمسين عاما السابقة على موته في 1991. ولكن ما الذي حدث؟
يبدأ الفيلم من نقطة محددة هي موت “كاسولارو” الغامض، وسيظل يرتد إلى هذه النقطة المفصلية باستمرار مع كل ما يكشف عنه البحث من تفاصيل، وظهور شخصيات جديدة ودخولها إلى المشهد، وهي في الحقيقة، شخصيات “قديمة”، ولكن “هانسن” يكتشف وجودها بين ثنايا قصة “كاسولارو”.
وكان “كاسولارو” قد أطلعه قبيل وفاته على كثير من التفاصيل، ومنحه أيضا آلاف الوثائق والتسجيلات الهاتفية الصوتية التي جرت بينه وبين كثير من هذه الشخصيات، وسيعود “هانسن” نفسه للاتصال بها واستجوابها، محاوِلا التوصل إلى السبب الحقيقي وراء اغتيال “كاسولارو”.
قد تتساءل وأنت تقرأ: هل نحن أمام قصة تقوم على “نظرية المؤامرة؟” والحقيقة أنه ليس سهلا القطع بهذا، ففي سياق هذا الفيلم المثير حقائق كثيرة تبدو أقرب إلى الخيال، وهو ما يدفع المخرج إلى الظهور كثيرا بنفسه في فيلمه، يناقش ويستجوب ويحقق، وقد يبدي أيضا تشككه في كثير من النقاط الغامضة، ويسلط الضوء على ما قد يكون أكبر عملية تستر من قبل أجهزة عدة نافذة في أعلى سلم الإدارة الأمريكية.
يميل المخرج إلى التشكك وتقليب الأمور من كافة جوانبها، نتيجة لكل هذا الالتباس والتستر، والنهايات المفاجئة، والظلال الشائكة التي تحيط بمعظم الشخصيات التي نراها في الفيلم تدعي البراءة والصدق والرغبة في المساعدة في الوصول إلى الحقيقة، في حين أنها قد يكون ما تخفيه أكبر وأخطر مما يوحي مظهرها.
قطع الشرايين والأوتار وتلويث الجدران.. انتحار مريب
يبدأ الفيلم من موت “كاسولارو” في أغسطس/ آب عام 1991 بعد العثور على جثته في حمام الغرفة رقم 517 في فندق شيراتون بمدينة مارتنسبرغ في ولاية فيرجينيا الغربية.
وقد قيدت الشرطة الحادث على أنه “انتحار”، مع أنه من المريب أن ينتحر إنسان بقطع شرايين وأوتار معصمه الأيمن ثماني قطعات، ثم يقطع شرايين معصمه الأيسر أربع قطعات، لكن الشرطة وجدت رسالة يفترض أنها بخط يده، تركها وراءه لابنه وأقاربه يطلب منهم أن يسامحوه.
ما حقيقة هذه الرسالة، وما الذي يدفع رجلا ينتحر في حوض الاستحمام إلى النهوض بعد أن يقطع شرايين يديه ويلوث الجدران بالدماء بيده، وكيف يمكن أن تصل الجروح القطعية في اليدين إلى مثل هذا العمق بحيث تتقطع الشرايين والأوتار أيضا، وهو ما لا يحدث عادة في حالات الانتحار؟ كلها أسئلة كانت تقتضي مزيدا من البحث.
وطأة الديون وإحباط التحقيقات.. مزاعم الرواية الرسمية
تقول الرواية الرسمية إن “كاسولارو” أصيب بالإحباط لعدم توصله إلى ما كان يسعى إليه خلال تحقيقه في هذه القضية المستعصية، كما أنه شعر بوطأة الديون التي تراكمت عليه، فقرر التخلص من حياته.
لكن هناك جوانب أخرى يتبناها كثيرون في خضم التحقيق الذي يجريه “كريستيان هانسن”، منها أن “كاسولارو” أصبح يعرف أكثر مما ينبغي، وأنه تجاوز الخط الأحمر، ولم يستمع إلى النصائح الكثيرة التي وجهت إليه، لا سيما أن أخاه “توني” يروي أنه كان قبيل موته، يتلقى تهديدات كثيرة عبر الهاتف، ويذكر أنه أخبره في آخر لقاء لهما، إنه إذا وقع له “حادث” فلن يكون حادثا.
تظهر في الفيلم عشرات الشخصيات، وتتردد أسماء عدة، ويكشف المخرج بمساعدة “كريستيان هانسن” كثيرا من الأوراق والوثائق، منها ما هو بخط يد “كاسولارو” نفسه، ويستخدم المخرج أيضا مقاطع عدة من شرائط الفيديو المنزلية، يظهر فيها “كاسولارو” شابا جميلا منطلقا محبا للحياة، يلهو ويضحك دائما.
ويروي أخوه أنه لم يكن ذا اهتمام سياسي من قبل، وكان يكتب القصص المثيرة، قبل أن يجد نفسه متورطا في متابعة هذه القضية، وخلال ذلك التقى بشخصيات عدة وصفت بأنها “خطيرة”.
“كريستيان هانسن”.. صديق الطفولة يعيد استكشاف طريق البحث
“كريستيان هانسن” الذي يقود البحث في الفيلم، ويعد بمثابة “عين المشاهد” طوال الفيلم، هو صديق طفولة “داني كاسولارو”، وهو لا يكتفي بكشف الوثائق والأوراق الشخصية لصديقه الراحل، والاستماع إلى عشرات التسجيلات الصوتية، بل يمضي أبعد من ذلك.
يتصل “داني” بشخصيات كثيرة ممن وردت أسماؤهم في تحقيقات الصحفي القتيل، ويستجوبهم ويسجل شهاداتهم بالصوت والصورة، ومنهم عملاء سابقون في مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومحامون، وأشخاص يشك في صلتهم بالمخابرات، اتُّهموا في جرائم قتل سرعان ما جرى التستر عليها وأُطلق سراحهم، وضباط شرطة ممن تولوا التحقيق في مصرع “كاسولارو” الغامض وغير ذلك من الجرائم المشار إليها.
كما تتحدث في الفيلم امرأة كانت على علاقة بـ”كاسولارو”، وصديقته الصحفية الاستقصائية التي اطلعت على ما كان يقوم به، وكذلك أخوه “توني” الذي تحتل شهادته حيزا لا بأس به من الفيلم.
برنامج تتبع المجرمين.. منتَج سرقته وزارة العدل وباعته للمخابرات
اشتعلت شرارة البداية حين تعرّف “كاسولارو” على مؤسس ومدير شركة “إنسلو” (Inslaw)، وهي من أولى الشركات التي تخصصت في صناعة أجهزة وبرمجيات الحاسوب، وكانت قد رفعت في ذلك الوقت قضية ضد وزارة العدل الأمريكية، تتهمها بسرقة برنامج للشركة يتيح تتبع المجرمين.
يسمى هذا البرنامج “بروميس”، وسنعرف فيما بعد مع ظهور شخصية رجل يدعى “مايكل ريكونوشوتو” وهو أحد عباقرة عالم الحاسوب، أنه كان وراء القيام بتعديل تقني في هذا البرنامج لحساب وكالة المخابرات المركزية، يتيح للوكالة التجسس على أجهزة المخابرات التي باعت لها البرنامج في بلدان كثيرة من العالم، منها دول “صديقة”.
يتبع الفيلمُ -بمونتاجه الذكي وانتقالاته المحسوبة بدقة بين المقاطع المختلفة- أسلوبَ التحقيق الذي يكشف حلقة بعد أخرى تدريجيا، ولا يتبنى القصة التي تشكك في الرواية الرسمية بشكل مطلق، بل يبدي أيضا بعض التشكك في مدى صحتها، وهو بذلك يقف على مسافة ما، ليترك المجال أمام المشاهدين للتوصل إلى استنتاجاتهم بأنفسهم.
أصدرت المحكمة حكما لصالح شركة “إنسلو”، وحكمت بتعويضها بعدة ملايين من الدولارات من أموال وزارة العدل التي اتُّهمت ببيع البرنامج لوكالة المخابرات، لكن في الاستئناف رُفضت القضية، غير أنها كانت قد أصبحت قضية رأي عام في عموم الولايات المتحدة.
هذا الموضوع المتعلق بصراع شركة “إنسلو” مع وزارة العدل، هو الذي سيشغل اهتمام “داني كاسولارو”، ومنه سيتفرع البحث ويتخذ مسارات أخرى متعددة، مع الكشف عن علاقة بين جماعات الجريمة المنظمة والمخابرات الأمريكية، ومع ظهور شخصيات تنتمي إلى عالم الإجرام، لكنها تعمل أيضا لحساب المخابرات.
كما سيمس شخصيات كبيرة منها الرئيسان “رونالد ريغان” و”جورج بوش الأب” وغيرهما. وكذلك العميل الإسرائيلي المشهور “آري بن مناشه” الذي اتُهم بمحاولة بيع 3 طائرات لإيران عام 1989 وقضى عاما في السجن ثم أفرج عنه، كما اعترف أنه كان ضمن الضالعين في عملية “إيران- كونترا” التي ذكرنا سابقا.
انتحار لا جريمة.. قضية مغلقة بقرار السلطات العليا
تنفجر قضية “كاسولارو” بعد موته الغامض، وتصبح حديث أجهزة الصحافة والإعلام، وتحتل مساحات في نشرات الأخبار، بعد أن ترفض عائلته وأصدقاؤه قبول القصة الرسمية التي تُرجع موته إلى الانتحار، وتصر على أنه نتيجة جريمة قتل.
وكلما مضى الأمر نحو إكمال التحقيق في الجريمة، تُغلق القضية بقرار من السلطات العليا، وقد تعرض أحد الذين أدلوا ببعض المعلومات حول الموضوع -وهو “مايكل ريكونوشوتو”- للاعتقال والسجن مدة 26 عاما، ويذكر الفيلم أنها عقوبة له على ما كشفه من أسرار لـ”كاسولارو”، للحيلولة بينه وبين كشف المزيد منها.
وسنرى مخرج فيلمنا هذا “زكاري ترايتز” مع الباحث الشاب “كريستيان هانسن”، ينتظران “ريكونوشوتو” أمام بوابة السجن عند الإفراج عنه، ثم يصحبانه في السيارة ويطرح “هانسن” أسئلة كثيرة عليه، ويدلي بمعلومات دامغة.
أزمة الرهائن.. معلومات خطيرة تكشف تورط الرئيس
من أهم المعلومات التي أدلى “ريكونوشوتو” ما يتعلق بدور “رونالد ريغان” في تعطيل صفقة إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران، وتأجيلها إلى ما بعد الانتخابات، لكي يعلنها “ريغان” بنفسه ويكتسب شعبية كبيرة، بعد حرمان خصمه “جيمي كارتر” منها، بسبب إخفاء الأمر عنه بمساعدة عصابة الأشخاص الثمانية النافذين الذين أطلق عليهم “كاسولارو” لقب “الأخطبوط”، وكان يرى أنهم يديرون العالم بالتآمر.
“ريكونوشوتو” هذا هو من أكثر الشخصيات التي نراها في الفيلم غرابة، ويلقي “هانسن” كثيرا من الشكوك عليه، فلا نعرف هل كان ما يرويه حقيقة أم خيالا، أم مزيجا من الحقيقة والخيال. والغريب أنه بعد جلسته في السيارة مع “ترايتز” و”هانسن” اعتُقل في نفس الليلة مجددا، ولكن فترة وجيزة، وكأنه نوع من الإنذار له.
وعندما يوشك ضابط في وكالة التحقيقات الفيدرالية على إضافة معلومات مهمة في حديثه الهاتفي مع “هانسن”، يتوقف فجأة ويعتذر بضرورة قطع المكالمة، على أن يعاود الاتصال لاحقا، وقد زعم أنه تلقى اتصالا آخر. وما يستنتجه المشاهدون هو أن هناك من كانوا يتنصتون ويستمعون، وقد أسرعوا إلى الاتصال به في الوقت المناسب وتحذيره، قبل أن يسر بما كان على وشك الإدلاء به، لا سيما أنه لم يعاود الاتصال قد وعد.
“جوزيف كيولار”.. ضابط المخابرات العسكرية المثير للريبة
من أخطر ما يكشف عنه الفيلم شخصية ضابط في المخابرات العسكرية الأمريكية يدعى “جوزيف كيولار” ثبت أنه التقى “داني كاسولارو” في حانة، وقد بدا الأمر كأنه “مصادفة”، ثم ثبت أنه كان يعرف كل ما يفعله “داني”، وأخذ يضيف إليه بعض المعلومات ليعرف إلى أي مدى كان مطلعا على الأسرار العليا.
وسوف يتوصل المخرج مع “هانسن” عند الرجوع لسجلات الشرطة التي حققت في مصرع “كاسولارو”، إلى دخول شخص إلى غرفته بالفندق قبيل موته مباشرة، وأن الشرطة أغفلت تماما التحقيق في هذا الأمر، وأن الرسم الافتراضي الذي صممته الشرطة بناء على شاهدة في الفندق، يشبه كثيرا ملامح “كيولار” نفسه.
أصبح “كريستيان هانسن” مهوسا -كما كان “داني كاسولارو”- بالتحقيق في الموضوع، فكل من يقترب من ملف أخطبوطي كهذا “لا بد أن يصبح مهوسا به” كما تقول الصحفية الاستقصائية “شيري سيمور” في الفيلم، وبذلك أصبح “هانسن” عرضة للتهديد والخطر، فالقضية أكبر منه ومن أي عمل فردي. وهنا كان لا بد أن ينتهي الفيلم.