بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الإمبراطورية البريطانية تتصدع، فقد شهد الوضع السياسي العالمي تغييرا كبيرا، ففي دولة مالايا الصغيرة جنوب شرق آسيا، كانت هنالك حرب على وشك أن يشتعل أوارها، ستعرف لاحقا باسم الطوارئ المالاوية.
كانت حالة الطوارئ هذه انتفاضة شيوعية، قَيَّدت حركة قوات “الكومنولث” على مدى عقد من الزمن، وكانت ستضع مالايا -لو أنها نجحت- في وضع مماثل لكوريا الشمالية، وتجعلها معقلا شيوعيا فقيرا في أقصى الشرق الرأسمالي النشط، لكن هذه الحرب أضيفت إلى قائمة الحروب القذرة المنسية التي شنتها بريطانيا.
وقد استمرت حالة الطوارئ 12 عاما، وقُتل فيها 1500 من قوات الكومنولث، وأكثر من 10 آلاف شخص من القوات الشيوعية والمالاويين المدنيين، ووُضع أكثر من 400 ألف شخص في معسكرات الاعتقال، في محاولة لقمع التمرد، وبات يشار إلى حالة الطوارئ المالاوية بأنها فيتنام البريطانية.
الطوارئ المالاوية.. عنوان زائف لحرب دموية قذرة
كانت مالايا تحت الاحتلال البريطاني حتى خمسينيات القرن الماضي، وكان يحكمها نظام رأسمالي أدى إلى نشوء ثورة شيوعية، اشتعلت في قلب الأدغال الحارة، ولم تشهد لها القوات البريطانية مثيلا من قبل، فالرطوبة كثيفة والأمطار غزيرة والحرارة مرتفعة، ناهيك عن ظلمة المكان والوحل، وانتشار الزواحف السامة والحيوانات المفترسة والحشرات الضارة.
وقد استفاد الشيوعيون كثيرا من طبيعة المكان التي اعتادوا عليها، أما القوات البريطانية ذات التدريب العسكري التقليدي، فلم تكن على دراية بهذه البيئة الصعبة، ولا على كيفية خوض حروب عصابات في قلب الأدغال المظلمة، ولا على مواجهة أشباح يظهرون ويختفون فجأة.
وقد تلاشت الطوارئ المالاوية من الوعي العام لدى كثيرين، فلم تكن حربا في سبيل البقاء الوطني، بل كانت تهدف إلى حماية إمبراطورية تواجه انهيارا بطيئا، ولذلك قُلّل من شأنها لتصبح مجرد مناوشة ضد بعض السكان المحليين المزعجين، ولكن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير.
تقول البروفيسورة “راتشيل ليو” من جامعة كامبردج: يدرس أطفال المدارس البريطانية والماليزية حالة الطوارئ، ولكنهم لا يعدونها حربا أهلية، والحق أنها كانت حربا أهلية، وهذا دليل على فقدان الذاكرة التاريخية بشأنها، كما أنهم لا يرون أنها ثورة، وهي ثورة حقا، فكلمة “طوارئ” تحجب كل ذلك وتسمح لنا بتعليق حكمنا الأخلاقي عليها.
نهاية الحرب العالمية.. عودة الإنجليز إلى نهب الثروة المالاوية
كانت مالايا (ماليزيا الآن) موطنا لسكانها الأصليين المالاويين، ومعهم مجتمعات هندية وصينية كبيرة، وكان يحكمها التاج البريطاني منذ القرن الـ19. وفي الحرب العالمية الثانية غزتها اليابان، فتصدت لها بريطانيا، وسيطرت على البلاد في فبراير/ شباط 1942، ووضعت الشعب المالاوي بجميع فئاته تحت إدارة عسكرية صارمة.
يقول المؤلف “كريستوفر هيل”: في البداية لم يهتم البريطانيون بشبه جزيرة مالايا، ولكن في منتصف القرن الـ19 اكتسحت سلعتان الأسواق العالمية، وهما القصدير والمطاط، فأصبحت بريطانيا مهتمة جدا بمالايا، حتى أنها خاضت حروبا للسيطرة على مناجم القصدير، فالأمر كله متعلق بالمال في عقيدة الإمبراطورية.
وبنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، سلّمت اليابان السلطة إلى البريطانيين في مالايا، وأقيم حفل في فبراير/ شباط 1946، وهكذا أعادت بريطانيا سيطرتها على المنطقة والسلع المربحة فيها، وبعد الحرب تخلت بريطانيا عن الهند وبورما، فغربت شمس الإمبراطورية، ولكنها لم تتخل عن مالايا والمطاط والقصدير، لأنها كانت قد أشرفت على الإفلاس بعد الحرب.
وقد ترك النظام الياباني مالايا في حالة اضطراب اقتصادي، والصينيون المالاويون الذين قاتلوا اليابان كانوا قد فضلوا الشيوعية على الرأسمالية البريطانيا، واتخذوها وسيلة للخروج من الفقر. يقول المؤرخ “كيفن رون”: أرادت بريطانيا من حلفائها الشيوعيين أن يتركوا السلاح، ويستكملوا الحياة الاستعمارية الطبيعية التي ترغب بها بريطانيا، ولكن الشيوعيين لم يكونوا مستعدين لذلك.
أدت صناعة القصدير والمطاط المزدهرة إلى زيادة ثراء البريطانيين، وأما العمال فقد عانوا من انخفاض الأجور والبطالة، ولذلك قررت النقابات العمالية بقيادة الشيوعيين التمرد، فحصلت بين 1945-1948 إضرابات عمالية نظمها الشيوعيون المالاويون، وحدثت إضرابات في مزارع المطاط ومناجم القصدير، فغضبت النخب الاقتصادية البريطانية من فشل السلطات الاستعمارية في قمع هذه الإضرابات.
انطلاق الشرارة.. تسميات خداعة لتبرير جرائم الحرب
شعر الصينيون المالاويون بتعرضهم لسوء المعاملة والخيانة باستمرار من قبل البريطانيين، فقرروا القتال، وبحلول صيف 1948 وصلت الاضطرابات حد الغليان، وفي 16 يونيو/ حزيران أطلق مسلحون صينيون النار على 3 عمال مزارع بريطانيين، فماتوا على الفور، وكان ذلك الهجوم مخططا له.
وربما يكون مقتل هؤلاء الثلاثة “آرثر ووكر” و”جون أليسون” و”إيان كريستيان” إعداما مخططا له، ولكن زعيم الشيوعية آنذاك “تشين بينغ” قال فيما بعد إنه لم يكن على علم بالأمر. وقد ردت بريطانيا على مقتل 3 أفراد بإرسال 40 ألف مجند بريطاني من قوات الكومنولث، و250 ألفا من الحرس الوطني، و67 ألف شرطي من القوات الخاصة.
ثم حظرت الحزب الشيوعي ومجموعة من المنظمات المالاوية اليسارية، وأجبرتهم على العمل تحت الأرض، في حرب سُميت حالة طوارئ، لكي تكون وسيلة تبرير أخلاقية لبعض الأفعال التي لا يمكن فعلها في أوقات أخرى، ولأن بريطانيا لم تكن تستطيع تسميتها بالحرب لأسباب مالية.
ولم تُسمّ بريطانيا التمرد حربا أو صراعا، حتى لا تعطي الشرعية للعدو بردود فعله، بل سمَّتهم قطّاع طرق ولصوص، حتى تطاردهم وتعدمهم وتعاملهم معاملة مجرمين. وخلال فترة الطوارئ اتخذت القوات البريطانية والحكومة المحلية إجراءات إرهابية صارمة باسم مكافحة التمرد، وحدثت اعتقالات واسعة بلا محاكمة، وعمليات تفتيش بلا إذن قضائي، وحظر تجول صارم.
وكان أغلب من أرسلتهم بريطانيا شبابا وطنيين، طُلب منهم مغادرة قواعد تدريبهم والإبحار مسافة 10 آلاف كيلومتر حول العالم، واستغرقت الرحلة شهرا للوصول إلى المالايا، وفي تلك الأثناء كانوا يتدربون على الرماية والأعمال القتالية، وحين وصلت القوات وجدت دولة غارقة في الفوضى.
سياسة الأرض المحروقة.. تخبط الإنجليز في أرضية لا يعرفونها
توجهت قوات الحزب الشيوعي إلى الغابات، وأعادت ترتيب صفوفها تحت قيادة “تشين بينغ” المولود عام 1923، وهو أصغر أمين عام للحزب الشيوعي في 1947، وكان مقاتلا شرسا ومفكرا إستراتيجيا وقدوة لأبناء وطنه، فشكلوا جيش التحرير المالاوي لطرد البريطانيين من المالايا، وكان صعبا على البريطانيين التعرف على أفراد الحزب الشيوعي ومن يقف إلى جانبهم من المالاويين العاديين.
وقد كان البريطانيون عديمي الخبرة في قتال الأدغال، ويواجهون صعوبة في التصدي للضربات المفاجئة من الشيوعيين الذين يخرجون لهم من بين الأشجار الكثيفة التي لا نهاية لها، والحشرات والزواحف الخطرة والأشواك المؤذية والأمطار الكثيفة يوميا والأرض الموحلة، وفي الليل يزداد نشاط الحيوانات والزواحف في الغابة، وتصبح الظروف موحشة ومخيفة جدا لدى الجنود البريطانيين.
ولكنهم كانوا يدمرون كل شيء يشتبهون في أنه معسكر للشيوعيين، ويتبعون سياسة الأرض المحروقة، ويدمرون المستوطنات القروية التي يشتبهون في إيوائها لبعض المتمردين، كما فرضوا سياسة التجويع، وتقنين المياه، واستخدام المبيدات لتدمير المحاصيل الزراعية، من أجل الضغط على القرويين لتوفير معلومات عن الشيوعيين وأماكن اختبائهم وكيفية حصولهم على الإمدادات.
مزرعة المطاط.. مذبحة مروعة ارتكبتها كتيبة أسكتلندية
في مقابل عبث الإنجليز، كان الشيوعيون يحاولون إعاقة عمل جامعي المطاط، ويقطعون الأشجار للحيلولة دون وصول هذه الثروة لأيدي البريطانيين. وفي 1948 اندلعت معارك الاستقلال في جنوب شرق آسيا، وسلّح الشيوعيون في مالايا أنفسهم لشن حرب ضد البريطانيين، فتفاجأوا بهم بسبب نقص المعلومات الاستخبارية، وبهذا كانت حماية المدنيين التي يزعمونها صعبة بل مستحيلة، وانتهى الأمر بمهاجمة كل من يشتبه بتعاونه مع المتمردين.
وكانت خطوتهم التالية شديدة الهمجية، ففي 12 ديسمبر/ كانون الأول 1948 هاجمت كتيبة أسكتلندية مزرعة للمطاط قرب نهر باتانغ كالي، وفُصل العمال الصينيون عن عائلاتهم، واستُجوبوا بقسوة وذُبحوا بوحشية، وقد قتل البريطانيون يومها 24 قرويا، ولم ينجُ إلا واحد ولّى هاربا. وعاد الجنود إلى ثكنتهم وأقسموا أن لا يرووا ما حدث، فقتل المدنيين محرم في كل حالات الطوارئ والحروب.
وصلت أخبار المذبحة إلى قنصل الصين في كوالامبور، فانزعج مما حدث، مما اضطر البريطانيين لإرسال فريق تحقيق للتأكد مما حدث، لكن التحقيق كان للنسيان فقط وليس لكشف الحقيقة، وذهبت هذه المذابح طي النسيان عدة عقود.
القرى الجديدة.. لعبة تخنق جيش التحرير المالاوي
في محاولة لوضع حد لإراقة الدماء، عُيّن السير “هارولد بريغز” مديرا للعمليات، فجاء بإستراتيجية إعادة التوطين، لوضع حد لانتشار الفكر الشيوعي في المالايا، فعزل العائلات في قرى مسيجة، بعيدا عن الصينيين المثيرين للمشاكل، وأسماها القرى الجديدة.
وقد روج البريطانيون أن هذه القرى تحتوي وسائل الراحة والمياه العذبة والمنازل النظيفة، محاولين إخفاء الهدف الحقيقي من إنشائها، وهو منع سكانها من دعم المتمردين بالسلاح والمعلومات، وكانت حراسة هذه القرى ومراقبة الدخول والخروج وإغلاق بواباتها في السادسة مساء جزءا من العمليات العسكرية للقوات البريطانية.
ثم ضاعفت بريطانيا وجودها العسكري، فاستقدمت جنودا من دول الكومنولث، للتفوق على أعداد الجيش الوطني لتحرير مالايا، واستخدمت المالاويين مرشدين في الأدغال، وللإبلاغ عن أماكن وجود الشيوعيين، فطاردتهم وقتلتهم في الأدغال وجلبت رؤوسهم فقط للاستدلال عليها.
وبحلول خريف 1951 كانت حالة الطوارئ في عامها الثالث، وقد بدأ جيش التحرير المالاوي ينهار نتيجة خسائره الفادحة بالأرواح، لكنه ما يزال يقاوم في الرمق الأخير، وكان صيده هذه المرة سمينا، فقد اغتال المفوض السامي البريطاني السير “هنري غورني”، أثناء تنزهه على تلال الثلج.
“نمر المالايو”.. جنرال بريطاني ذكي يقلب الطاولة
بعد اغتيال السير “غورني”، خسر الشيوعيون تعاطف المالاويين، وكانت لهذه الحادثة نتائج عكسية، شكّلت بداية النهاية لجيش التحرير الوطني المالاوي.
أرسل البريطانيون الجنرال “جيرالد تمبلر” المعروف بـ”نمر المالايو”، فوضع برنامجا لكسب قلوب المالاويين وعقولهم، واسترضى المالاويين الصينيين، ومنحهم الحقوق والمميزات التي تتمتع بها المكونات الأخرى من الهنود والمالاويين وغيرهم، وألقى منشورات بالطائرات في جميع أنحاء الغابات تدعو المتمردين للاستسلام، وأحضر عائلاتهم ومنحهم الوظائف والمنازل ومبالغ مقطوعة من المال، وهكذا أصبحت العائلات تضغط على المقاتلين ليستسلموا.
لكنهم لم يستسلموا بعد، فقام سلاح الجو البريطاني باختبار كل ما لديه من أنواع القنابل المدمرة، وأحرق مساحات شاسعة من الغابات، وقتل كثيرا من أفراد الجيش الوطني، ودفع من بقي منهم إلى مناطق أكثر ضيقا في الأدغال، ثم اضطروا إلى مغادرة الأدغال باتجاه شبه الجزيرة تحت وابل من النيران البريطانية، وقتل خلق كثير منهم واستسلم كثير.
وحينها أدرك الشيوعيون أنهم مهزومون، لا سيما بعد أن انقطعت عنهم كل أشكال المساعدات المحلية، ولم يحصلوا على ما كان متوقعا من دعم الحزب الشيوعي الصيني لهم، وهكذا نجحت خطة “تمبلر” نجاحا باهرا، باستمرارها في دعم العائلات الصينية، بالتوازي مع قتل وتحييد أفراد الجيش الوطني من الشيوعيين.
استقلال المالايا.. غروب شمس الإمبراطورية من الشرق
بحلول 1955، كان البريطانيون قد قمعوا التمرد الشيوعي تماما، وأوجدوا قاعدة اجتماعية من مجموع المكونات السكانية المالاوية، قادرة على نيل استقلالها مع بقائها صديقة مستقبلية ودائمة لبريطانيا، وضمان أن الأمة المالاوية الجديدة والموحدة غير متعاطفة بتاتا مع الشيوعيين.
وفي 31 أغسطس/ آب 1957، وفي ملعب “مرديكا” في كوالالمبور، أشرف مندوبون من البريطانيين والمالاويين على مراسيم إعلان استقلال المالايا، وتحررت المالايا من الشيوعية والاحتلال البريطاني كليهما، وسمح الاستقلال لمالايا بالنهوض من مستنقع التوحش والهمجية.
لكن هذا لم يُنسِ المالاويين قذارة حالة الطوارئ والتجاوزات الهمجية المروعة التي ارتكبتها القوات البريطانية خلالها، والفوضى الأخلاقية التي لا يمكن أن تغتفر للإمبراطورية التي غابت شمسها، وتشير بوضوح إلى أن أقذر حروب بريطانيا هي تلك التي تحاول مسحها من الذاكرة الإنسانية.
واليوم وبعد مرور حوالي 70 عاما على الفترة سيئة الذكر، أصبحت ماليزيا مزدهرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ولكن من يدري، فلعله لو لم تكن هنالك حالة الطوارئ تلك، لتغيَّر اتجاه أولئك المتمردين في الغابة، ولكانت ماليزيا ازدهرت بفضل أبنائها لا بفضل الغرباء.