الرحى- نجا من الزلزال لكنه لم ينج من تداعياته، تبدو هذه حالة البائع الجائل سي محمد، الرجل الستيني الذي يضطر إلى النزول كل يوم من مسكنه بالجبل إلى منطقة “الرحى” على الطريق لبيع عقود زينة مكونة من أحجار جبلية مزركشة.
دلفنا إلى أحد مقاهي “الرحى” التي تقع بين بلدتي تحناوت وأسني (جنوبي مراكش) لنرتاح من تعب الرحلة الطويلة بجبال الحوز، فلحق بنا سي محمد يعرض بضاعته، مستعملا كل أساليب الإقناع الهادئة التي تعلمها في مدرسة الجبل المناقضة لتلك التي تدرّس في أحدث معاهد الدعاية الاستهلاكية.
قبل زلزال العام الماضي، كانت منطقة “الرحى” تغصّ بالسياح الآتين من داخل المغرب ومن خارجه، لوقوعها على الطريق الصغير الذي يربط مراكش بقرى جبال الحوز الشاهقة وبلداتها التي تجذب مئات آلاف السياح، أما الآن فتتكون “الرحى” من 9 مطاعم فقط كلها تقدم طواجن اللحم والشاي.
وبازدهار تجارة “الرحى”، تزدهر تجارة سي محمد وأمثاله من الباعة الجائلين، فقد كان السياح والزوار يقبلون على شراء تلك العقود الحجرية التي لم تختلط بحضارة الكيمياء بعد، وبأسعار ترضي المشتري وكذلك البائع الذي يفوز بدراهم ينفقها على أهله.
على غير ما يرام
أما الآن، فأوضاع “الرحى” ليست على ما يرام، ونسبة السياح وزوار المنطقة ما زالت ترتفع ببطء، وسينتظر أصحاب مطاعم “الرحى” -ومعهم سي محمد ومن معه- بعض الوقت قبل أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل زلزال الثامن من سبتمبر/أيلول 2023.
كان صوت سي محمد وهو يعرض علينا بضاعته هادئا خافتا بعكس ما يعتاده المرء في مثل هذه المواقف من الباعة اللحوحين ذوي الأصوات العالية، وبدا وجهه متعبا قد ارتسمت على جبهته تجاعيد العمر ومشاقّ الحياة الجبلية.
كان هذا البائع يتحرك بهدوء وبطء مفضلا الوقوف خلال حديثه إلينا قبل أن نجبره على الجلوس إجبارا، خاصة عندما علمنا أن يعاني من مرض بكليته.
تحدث عن هذه المهنة التي يمارسها والتي تبدو كأنها مجرد نوع من الهرب من البطالة، ووسيلة ضرورية للمساعدة على مواجهة متطلبات الحياة خاصة بعد أن دُمّر كل شيء على إثر الزلزال.
وكان يغرق في أحاديث متنوعة ثم ينتفض كأنه انتبه إلى أن عليه أن يقنع من يستمع إليه بشراء ما تيسّر من بضاعته، فلا تنقضي الجلسة بمجرد أحاديث لا تسمن ولا تغني من جوع.
عقود صحية
“إنها عقود صحية”، يبتدرنا محدثنا مشيرا إلى تلك العقود والأساور الحجرية المرصوصة على ساعده بأحجام مختلفة، مضيفا أنها عقود “صديقة” لجسم الإنسان، فلا تصيبه بأي ضرر بعكس العقود المصنوعة من البلاستيك التي تتسبب في تهيج الجلد من الحساسية.
ويزيد سي محمد أن قطع الأحجار الصغيرة تلك هي حجارة “طاقية مهدئة”، ووضعها على العنق أو في المعصم له فوائد، ولا أضرار جانبية لها.
لم يبد على سي محمد أنه مقتنع بكل ما قاله، وخاصة موضوع الطاقة الذي فضل أن يمر عليه مرور الكرام، لكن ما العمل ومهمة إقناع الزبائن بالشراء مهمة عسيرة خاصة في هذه الظروف، ولا بد من اللجوء إلى أي فكرة للترويج للبضاعة.
أسعار
وسرعان ما انطلق البائع الهادئ يحدثنا عن ثمن كل عقد، فهذا بـ80 درهما فقط (8 دولارات)، وذلك بـ60 درهما (6 دولارات)، وتلك الأساور يراوح ثمنها بين 10 دراهم (دولار واحد) و50 درهما (5 دولارات).
وبعد أن يجادله أحد الجالسين في أسعار تبدو بعض المغالاة فيها، يشدد سي محمد على أن الظروف التي نشأت بعد الزلزال جعلته يخفض من أثمان عقوده الحجرية إلى تلك المبالغ بها التي تحدث عنها، مفصحا عن سر فضّل ألا يكشفه في البداية، ومضمونه أنه قد يصل بثمن العقد إلى نحو النصف فقط ليستطيع بيعه فلا يضيع تجوال اليوم هباء ويرجع إلى قريته بخفي حنين.
رحلة حجرية
ويتابع أن قصة تلك العقود والأساور الحجرية تبدأ مع تفتيت الحجارة ذات الحجم الكبير إلى قطع صغيرة بواسطة آلة خاصة، ثم يجلبها الحرفيون -وهو أحدهم- ويضعونها بأشكال متنوعة متناسقة على شكل عقود وأساور، ثم يبيعونها للسياح والزوار.
وبعض تلك الحجارة يجلب من جبل توبقال القريب -أعلى قمة في المغرب وسابع أعلى قمة في أفريقيا- وبعضها يجلب من جبال قريبة من الدار البيضاء، وأخرى من منطقة الريصاني (جنوب شرقي المغرب).
وعندما كان سي محمد يتحدث عن أماكن جلب تلك الحجارة، ارتسمت في أذهان السامعين لوحة جميلة لفكرة التزين بعقود من حجارة “عاشت” قرونا وهي مشتتة في أعالي جبال مختلفة متباعدة، ثم جاء هؤلاء الحرفيون البسطاء فجمعوها وصنعوا منها عقودا تختزل أزمنة وعصورا.
هي إذن صناعة صغيرة، تجمع بين من يبحثون عن الحجارة المميزة في الجبال المختلفة، ومن يقسمونها إلى قطع صغيرة، ومن يجلبونها ويصنعون منها عقودا وأساور ويتجولون بين المناطق السياحية لبيعها.
أمل بالدعم
وإذا كانت الحكومة تصرف منذ عام تقريبا دفعات دعم للأهالي وأصحاب المتاجر ومراكز الإيواء المتضررين من الزلزال، فإن هؤلاء الباعة الجائلين يأملون أن يُلتفت إليهم، حتى لا تتوقف هذه الصناعة البسيطة غير المؤطرة قانونيا والتي تشكل مصدر رزق لكثيرين منهم.
وبينهم أحد أقارب سي محمد، الذي بمجرد أن رأى أحد الجالسين يشتري بعضا من بضاعة محدثنا، حتى اقترب وبدأ يعرض بضاعته التي لا تختلف كثيرا عن بضاعة سي محمد، إلا أنه أضاف إليها أساور من فضة.
لم يجد البائع الجديد لبضاعته زبونا، فذهب وعاد ببضاعة أخرى هي عبارة عن أحجار بركانية غريبة الشكل، وحاول الإقناع بشتى الطرق وأقواها وآخرها تخفيض الثمن إلى النصف تقريبا، لكنه سرعان ما قفل راجعا وقد ارتسمت على وجهه علامات خيبة الأمل، بعد أن فشل في بيع ما كان بين يديه.
هؤلاء الباعة البسطاء يعيشون على بيع تلك العقود الحجرية، وتكاد تشكل مصدر دخلهم الوحيد، ولهذا ما لبث أن أخبرنا سي محمد، وقد رأى إلحاح رفيقه علينا في الشراء، أنهم يعيشون “بالبركة”، وأنهم مضطرون إلى استخدام كل وسائل الإقناع للترويج لبضاعتهم البسيطة، ولو بخفض السعر إلى النصف.
“المهم أن نبيع لنعيش”، كما يؤكد سي محمد الذي غادر المكان متوجها إلى ناصية الشارع وعينه إلى القادمين من كلا الاتجاهين لعله يظفر بزبون جديد يشتري منه عقدا من حجارة عاشت في قمم جبال الأطلس قرونًا لا يعلم عددها إلا الله.