في عام 1958، نقلت السلطات اليوغوسلافية سرا 4 من العُلماء العاملين في معهد “فينتشا” للبحوث والتجارب النووية إلى مستشفى “كوري” في باريس، وذلك لتلقي العلاج فيه، بعد تعرض أجسامهم لجرعات كبيرة من الإشعاعات النووية الخطيرة، أثناء قيامهم بتجارب مختبرية لتخصيب اليورانيوم في بلدهم.
أحاطت السلطات اليوغوسلافية رحلة علمائها بالسرية التامة، خوفا من تسريب معلومات عن تجاربها النووية المتكتمة عليها أثناء فترة الحرب الباردة. وقد نُشرت حادثة المفاعل النووي وقصة علاجهم في رواية كتبها “غوران ميلاشينوفيتش” بعنوان “قضية فينتشا”. وفي عام 2023 جسّد المخرج “دراغان بيلوغرلِتش” وقائعها بفيلم روائي، حمل عنوان “حراس الوصفة” (Guardians of the Formula).
يتناول هذا الفيلم القصة الحقيقية من منظور إنساني، يبرز العلاقة الناشئة بين المرضى وبين طبيبهم الفرنسي الذي قام بعملية نقل وزرع نخاع العظام من متطوعين أصحاء إلى المرضى، مع تحفظه الأخلاقي على دور مرضاه في مشروع يهدف لصناعة قنبلة نووية تهدد الوجود البشري برمته.
علاج بصمت تام في مستشفى باريسي.. مصالح متبادلة للدولتين
يوزع النص السينمائي أحداث الفيلم بين يوغوسلافيا وفرنسا، فينقل المشهد الافتتاحي عملية نقل العلماء الأربعة جوا، ولحظة وصولهم إلى أحد مطارات العاصمة الفرنسية باريس ليلا. وقد نُقلوا من المطار إلى مشفى معهد “كوري” بسرية تامة، وأحيطوا بإجراءات أمنية مشددة، كي لا يكشف عن هوياتهم والغاية من وصولهم، لأن الجانبين الفرنسي واليوغوسلافي كانا يريدان الحفاظ على سرية العملية، لأغراض خاصة بكل واحد منهما.
كان الفرنسيون يريدون أن يعرفوا من خلال هؤلاء العلماء المزيد عن برنامج يوغوسلافيا النووي، ودور السوفيات في تطويره، وفي المقابل تريد يوغوسلافيا ضمان علاج علمائها، بسبب عدم توفر مستشفيات لعلاج الأمراض الناتجة عن التعرض للإشعاعات النووية.
وفي الوقت نفسه تحرص على عدم الكشف عن برنامجها النووي، أو تسريب أي معلومات حساسة عن تجاربها المختبرية لتخصيب اليورانيوم، أو دور العلماء السوفيات في مساعدتهم على بناء مفاعلات نووية قادرة على إنتاج قنبلة ذرية، تردع بقوتها التدميرية الدول الغربية، وتُبقي كفة الصراع -الحاصل إبان فترة الحرب الباردة- لصالح المعسكر الاشتراكي.
بين يدي طبيب مناهض للحرب وأسلحة الدمار
بوصول البروفيسور المصاب “دراغوسلاف بوبوفيتش” (الممثل راديفوي بوكفيتش) وثلاثة من طلابه المشتغلين معه في معهد “فينتشا” للبحوث الذرية من العاصمة بلغراد، إلى المشفى الاختصاصي لغرض تلقي العلاج، تتمحور حبكة درامية تصادمية بينهم وبين البروفيسور الفرنسي “جورد ماتي” (الممثل أليكسيس مانينتي)، وقد كان عاكفا سنوات كثيرة على تجارب طبية، تهدف لنقل وزرع نخاع العظام البشري، لغرض معالجة بعض الأمراض السرطانية.
ففي وقت وصول المجموعة، كان “ماتي” يجري تجاربه على الفئران، لكنه لم يجربها قط على البشر، لأنها لم تحقق نتائج مرضية مختبريا، ومع ذلك، فقد طلب منه مدير المشفى أن يشرف بنفسه على علاج العلماء اليوغوسلاف.
وحين رأى أوضاع المرضى الصحية المزرية التي كانوا عليها لحظة دخولهم المشفى، دفعه ذلك إلى القبول بالمهمة، مع تعبيره الصريح أمام رئيس المجموعة اليوغوسلافية “دراغوسلاف” عن موقفه المناهض لكل أشكال الحروب، بما فيها النووية، وكل من يعمل على إنتاج أسلحة الدمار الشامل.
أما البروفيسور اليوغوسلافي فيُعبر عن قناعته بالمهمة التي أوكلها إليه قادة بلده، وأن الغرب يعمل أيضا في الخفاء لنيل ما تطمح يوغوسلافيا والمعسكر الاشتراكي تحصيله من أسلحة نووية رادعة، وهذا الموقف الفكري يجعل البروفيسور اليوغوسلافي غير مطمئن لغايات العلاج، إلى جانب قناعته الشخصية بأنه وطلابه سيعامَلون فئرانَ تجارب في المختبرات الفرنسية.
“دراغوسلاف”.. صندوق أسرار المشروع وأستاذ يبجله طلابه
يعود الفيلم إلى بلغراد ويدخل إلى معهد “فينتشا” للبحوث النووية، فنرى البروفيسور “دراغوسلاف” مع طلابه، وهو يُجري تجارب مختبرية لتخصيب اليورانيوم، وهو يتميز بشخصية جذابة وحضور قوي، يظهر في احترام الطلبة له، وحماستهم لإنجاز ما يكلف به بلا تأخير.
وفي كل مرحلة من التجارب، حين يقترب الفريق من الوصول إلى نتائج نهائية جيدة، يُقرع فجأة جرس الإنذار المثبت بالمفاعل، فيتوقف العمل ويشعر البروفيسور بالإحباط، لأن المعطيات النظرية العلمية التي يستند عليها تؤشر إلى نجاح التجربة بالضرورة، لكن التطبيق العملي يخذلها.
وللتأكد من صحة استنتاجاته ودراسته، يثبت ملاحظاته التطبيقية في دفتر له، ويأخذه معه إلى فرنسا، ويُخفيه عن أنظار العاملين فيها، وعن رجال المخابرات الذين كانوا يتابعون مراحل علاجه عن كثب، ويطمحون في معرفة أسرار المشروع، من خلال اطلاعه على البرنامج النووي اليوغوسلافي.
فرح الشباب بالعلاج.. عدوى الإيجابية تغزو المرضى والأطباء
يمضي النص السينمائي في عرض المراحل الأولى من العلاج، وتقتصر على نقل كميات من الدم للمرضى، وقد تحسنت مؤقتا حالتهم الصحية والنفسية، لكن سرعان ما انتكسوا بعد ذلك. ولم يكترث رئيس المجموعة بالعلاج، لمعرفته العلمية بأن كمية الإشعاع التي تعرضوا لها لا شفاء منها، وأن نقل الدم لا يحدث فرقا كبيرا في حالتهم الصحية.
ولا تتطابق حدة موقفه وعدم قناعته بالعلاج مع حماسة العُلماء الشباب المتشبثين بالحياة، فهم يفرحون -على وجعهم- بكل نقل دم إلى أجسادهم المنهكة، فتحت تأثير نقل الدم يتغير مزاجهم، فيرقصون ويغنون. وقد خلق هذا المزاج والتشبث بالحياة جوا مرحبا بهم في المشفى، وزاد تعاطف العاملين فيه معهم، ثم انتقل إلى الطبيب الفرنسي المشرف على علاجهم مع تجهمه الدائم.
ومع مرور الوقت، تظهر علامات على تراجع حالة المرضى الصحية، ولهذا لم يبق أمام الطبيب سوى نقل نخاع عظام من متطوعين أصحاء إليهم، لإنقاذ حياتهم. كانت هذه العملية محفوفة بالخطر على صحة المتبرع والمريض، لكنها تمثل لدى الشباب فرصة لا يريدون تفويتها، وفي المقابل يشكك مسؤول المجموعة بالخطوة المنتظرة، ويرفض العلاج، مفضلا الموت على تحمل أوجاعها.
يصنع المخرج مقارنة ذكية، بين مَشاهد تجسد الآلام الملازمة لعملية أخذ عينات من نخاع عظام المرضى، وتبين حجم الألم الرهيب الذي يحس به الناس حين تسقط على رؤوسهم القنابل النووية، فتخلق تلك المشاهد عند المتلقي حالة من النفور من فكرة امتلاك أسلحة دمار شامل، من أي جهة كانت.
أهداف الساسة.. ضغوط قوية وتهديدات تدفع إلى الكارثة
لمعرفة تفكير السياسيين وتخطيطهم وفقا لقناعاتهم الفكرية، يعود الفيلم إلى العاصمة بلغراد، لينقل الضغوطات التي كان يمارسها المسؤولون على البروفيسور، للانتهاء من تجاربه بأسرع وقت. كما هددته إدارة المعهد باستبداله بعالِم آخر إذا فشل في تخصيب اليورانيوم وفق الجدول الموضوع.
وهذا الضغط يدفعه -كما تكشف الأحداث- إلى إغلاق جرس الإنذار من دون علم طلابه، وحين بدأت درجات الحرارة بالارتفاع داخل المفاعلات، تسببت بتَسرب كميات كبيرة من المواد المشعة، فأصابت أجساد من حولها، وبعد فترة قصيرة ظهرت عليهم أعراض مرض غامض، يؤدي إلى إنهاك أجسادهم وتعطيلها تدريجيا.
تلك الحادثة يتستر عليها البروفيسور، لكنها تظل كامنة داخله تشعره بتأنيب ضمير، لتسببه شخصيا في تعريض طلابه إلى الإشعاعات القاتلة. وفي الوقت نفسه، وبعد إدراكه أن الطبيب الفرنسي جاد في محاولته، وأنه يضع العلم فوق السياسة وألاعيبها، يقبل بفكرة نقل نخاع العظام، ويشجع أحد طلابه على القيام بها.
لم تنجح التجربة الأولى لنقل النخاع، فأدت إلى موت أحد العُلماء الشباب، لكن الطبيب -على إحباطه- لم يتوقف عن مسعاه، ولكي يتجاوز الفشل، راح يجري مزيدا من التجارب على فئران المختبر. وبعد عدة محاولات توصل إلى نتائج مُرضية، لكنها ظلت موضع جدل علمي، لأنها لم تجرب من قبل على الإنسان، ولم تحظ بموافقة الجهات الصحية الفرنسية.
وعلى مسؤولية المرضى وبدعم من متطوعين فرنسيين وجدوا في التجربة تعبيرا عن رغبتهم في تغليب الإنسانية على السياسة، تنجح أول عملية نقل وزرع نخاع عظام في أجساد بشر تعرضوا لجرعات كبيرة من اليورانيوم.
إحراق الدفتر.. تغليب الإنسانية على السياسة
خلال فترة الاستعداد للعملية، أوصى البروفيسور اليوغوسلافي طبيبه الفرنسي بالاحتفاظ بالدفتر السري، حتى لا يقع بيد الجهات الأمنية الفرنسية، فقد توصلت إلى حقيقة أن المعلومات المهمة هي موجودة لديه وحده، لا عند بقية طلبته، لهذا سمحت لهم فرنسا بالعودة إلى بلدهم بعد تلقيهم العلاج، في حين أجّلت عودته لحين حصولهم على الدفتر “الثمين” لديهم.
لم يُسلم الطبيب دفتر التجارب النووية إلى الجهات الأمنية، لأنه غير معني بالتعاون معها، بقدر تعاونه مع المرضى الذين هم بحاجة إليه. وهذا الموقف دفع العالم اليوغوسلافي لإحراق الدفتر بنفسه، إشارةً إلى تغليبه الحس الإنساني المشترك بين البشر على مشاريع الدمار الشامل التي تحتويها صفحاته.
وفي إشارة عابرة مهمة، ترد لحظة توديع الطبيب الفرنسي للعالم اليوغوسلافي في ختام مسار الفيلم، لتثبت أن تلك التجارب الطبية الطليعية، قد أدت إلى إنقاذ حياة آلاف من المصابين بمرض سرطان الدم، وبذلك أضحت نقلة علمية نوعية في الحقل الطبي، وعلى المستوى الإنساني صارت مثالا يقتدى به، مما شجع السلطات اليوغوسلافية على إيقاف العمل ببرنامجها النووي إلى الأبد.
حراس الوصفة.. منجز سينمائي مفعم بالإنسانية
منجز المخرج الصربي “دراغان بيلوغرلِتش” رائع بجماليات اشتغاله السينمائي، ولا سيما الأدوار التي لعبها الممثلون، إلى جانب نصه الجميل (سيناريو فوك رسيوموفيتش) المُفعم بروح إنسانية، تدعو لنبذ العنف وتغليب كل ما هو مفيد للبشر على غيره من مشاريع شريرة، تُراد بها الهيمنة السياسية والسيطرة على الغير بالقوة النووية أو بغيرها.