دخلت العلاقات بين الجزائر وفرنسا مربع التوترمن جديد وسط ترجيحات بتوجهها نحو القطيعة، مع تأجيل أو إلغاء زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس، والتي سبق أن اتفق بشأنها مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وهناك ملفات ثقيلة شائكة بينن البلدين خصوصا المرتبط منها بحقبة استعمار فرنسا للجزائر (1830-1962)، وتعتقد الجزائر أن لا نية لدى باريس في التعاطي الجاد معها، خاصة عقب سيطرة اليمين الفرنسي على الحكومة الحالية.
و في آخر مقابلة مع وسائل إعلام محلية قبل أيام، لم يكتف تبون بالتلميح إلى تراجع توجهه إلى فرنسا من أجندته الخارجية، بل اعتبر أن ذهابه إلى باريس سيمثل “إهانة” قائلا: لن أذهب إلى كانوسا”،وهو تعبير أطلقه المستشار الألماني بسمارك نهاية القرن التاسع عشر، ويعني “طلب المغفرة” وتؤكد هذه العبارة حجم الشرخ الراهن بين الجزائر وباريس.
انهيار التصور
منذ انتخابه رئيسا للجزائر عام 2019 لم يزر تبون فرنسا، بينما استقبل ماكرون في الجزائر في أغسطس/ آب 2022، وجرى حينها توقيع اتفاقية سُميت “علان الجزائر من أجل شراكة متجددة”.
وقال في مناسبات عدة، إنه اقترح على ماكرون تشكيل لجنة مؤرخين، تتولى معالجة ملف الذاكرة (تداعيات الاستعمار)، بمعزل عن الخلفيات السياسية بين البلدين، ومن ثمة التفرغ للارتقاء بالعلاقات في المجالات كافة.
ويجمع خبراء ومؤرخون على أن “ملف الذاكرة “هو حجر الزاوية في العلاقات الجزائرية ـ الفرنسية، كونه يلقي بظلاله على كافة جزئيات العلاقة الثنائية، ولن تستقر ما دام لم يُحل هذا الملف بطريقة عادلة.
ورغم تشكيل اللجنة المكونة من 5 مؤرخين من كلا البلدين، إلا أن تبون لم يذهب إلى باريس، رغم تحديد موعد للزيارة المنتظرة في ثلاث مناسبات.
وبعدما كانت مقررة بداية مايو/ أيار 2023، أُرجئت الزيارة إلى يونيو/ حزيران 2023، قبل أن تتأجل إلى خريف 2024، أي بين نهاية سبتمبر/ أيلول أو بداية أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، لكنها لم تتم أيضا.
وفي تصريح مطلع العام الجاري، قال تبون إنه لن يذهب من أجل استعراض في الشانزلزيه، وذلك في رد مبطن على ما تناولته الصحافة الفرنسية عن أن قصر الإليزيه جهز له بروتوكول استقبال بالخيالة والحرس الجمهوري من أمام جادة الشانزلزيه إلى الإليزيه.
ولاحقا كشف وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف أن تأجيل الزيارة عدة مرات عام 2023 كان بسبب رفض السلطات الفرنسية أن تدرج ضمن برنامج الزيارة تسليم مقتنيات الأمير عبد القادر المتواجدة بقصر أمبواز، حيث كان أسيرا هناك بين 1848 و1952.
وأكد تبون، في آخر مقابلة إعلامية له الأسبوع الماضي، أن النخب الفرنسية الحالية ترفض التطرق للملفات الجادة بين البلدين، وتركز بأكاذيب على مواضيع جانبية على غرار اتفاقية الهجرة لعام 1968.
وكشف أن من بين الملفات التي كان يريد إدراجها في زيارته، التزام فرنسا بتنظيف أماكن التجارب النووية والكيميائية التي أجرتها في الصحراء الجزائرية بين 1960 و1966.
ويؤكد عدول تبون مرارا عن زيارة فرنسا إصراره على ضمان حسم ملفات جادة وذات دلالة رمزية تاريخية بالغة، بينما يرفض الإليزيه التعاطي الإيجابي معها. وبذلك يصل التصور الجزائري، القائم على حسم ملف الذاكرة والارتقاء بالعلاقات الثنائية، إلى طريق مسدود، أمام تعنت باريس.
الصحراء والهجرة
وجاء استبعاد تبون الأخير زيارة باريس في وقت خاص، إذ سحبت الجزائر سفيرها لدى فرنسا في 30 يوليو/تموز الماضي على خلفية دعم ماكرون لخطة الحكم الذاتي المغربية في إقليم الصحراء.
في المقابل تدعم الجزائر جبهة البوليساريو، التي ترفض الحكم الذاتي، وتدعو إلى منح سكان الصحراء حق تقرير المصير، لحسم النزاع القائم منذ عقود.
كما جاء إلغاء الزيارة بعد أشهر من إقحام اليمين المتطرف الفرنسي لملف الهجرة، ولاسيما اتفاقية 1968 مع الجزائر، كوقود لحملتهما في الانتخابات البرلمانية الماضية.
ويعتقد تيار اليمين، الذي يقود الحكومة الفرنسية الحالية، أن الاتفاقية تمنح امتيازات خاصة للجزائريين، وينبغي إلغاؤها ومعاملة الجزائريين مثل باقي المهاجرين.
أما تبون فاعتبر أن ما يشاع عن الاتفاقية “مجرد أكاذيب وكراهية ضد الجزائريين”، وقال “إنها الراية التي يحملها جيش المتطرفين وتمثل تراجعا عن اتفاقيات إيفيان” الموقعة في مارس/آذار 1962، والتي رتبت العلاقات بين البلدين بعد استقلال الجزائر، ونصت على حرية تنقل الأشخاص.
وذكّر تبون فرنسا بـ”الحقيقة التي تؤكد أن استعمارها للجزائر كان استيطانا بامتياز قام على جلب أوروبيين ليحلوا محل الجزائريين وفرض المسيحية بديلا للإسلام”.
وقال إن عدد الجزائريين عند احتلال فرنسا للجزائر كان حوالي 4 ملايين نسمة، وعند الاستقلال (بعد 132 سنة) قدر عددهم بـ9 ملايين نسمة، ” ;ما يكشف جرائم الإبادة التي قام بها الاستعمار الفرنسي”.
انزعاج
ويرى المؤرخ الجزائري رابح لونيسي إن فرنسا منزعجة من تنويع الجزائر لعلاقاتها بشكل كبير، فذلك سحب منها الأفضلية التي كانت تتمتع بها، خاصة في السوق الجزائرية.. كما تعتقد باريس أن الجزائر وراء ما وقع من ضرب نفوذها في إفريقيا”.
وقال لونيسي إن تبون” يبرئ ماكرون مما يحصل للعلاقات بين البلدين ويحمّل المسؤولية لليمين المتطرف”، وتساءل: “هل صحيح أن اليمين المتطرف يتحمل المسؤولية أم يريد تبون الإبقاء على شعرة معاوية مثلما صرح؟”.
واستطرد قائلا “إن ماكرون هو الذي يشجع اليمين المتطرف ويستخدمه كأداة ضغط ضد الدول، ومنها الجزائر، وتبرير عدم تقديم تنازلات في عدة قضايا من بينها الذاكرة”.
وأعرب لونيسي عن اعتقاده بأن طبيعة العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ 1962 على هذا نحو .. تأزم ثم انفراج ثم التأزم وهكذا، وهناك مصالح كبرى بين الدولتين تحول دون القطيعة التامة.
أما المحلل السياسي إسماعيل خلف فيرى أن “التيار الذي يكن العداء للجزائر وأصبح يجاهر بذلك، وهو اليمين المتطرف، وأصبح ضاغطا ومسيطرا على السلطة في فرنسا، ودليل ذلك الطاقم الحكومي الجديد الذي نجم عن الانتخابات التشريعية الأخيرة”.
واستدل بوزير الداخلية الفرنسي الجديد برونو روتايو الذي هدد في أول تصريح له بعد توليه منصبه بإلغاء اتفاقية الهجرة مع الجزائر. وأشار خلف الله إلى توقعات بأن رسالة ماكرون، عبر مبعوثته آن كلير لوجوندر، إلى تبون غداة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، “قد تسهم في تلطيف العلاقات، لكن الأمور تتجه نحو مزيد من التدهور والتعثر”.
وقال إن”تأثير اليمين الحاقد على الجزائر في قصر الإليزيه ماثل للعيان، ويعرقل كل مسعى للتقارب، والتوقيت الحالي قد يجعل من استخدام الجزائر بهذا الشكل في فرنسا تصريفا للأزمة الداخلية الحادة التي تعيشها منذ صعود اليمين بأجندته المتطرفة عبر استخدام الجزائر ككبش فداء”.