تقول أغنية “نزهة ريفية” التي ألفها المخرج المسرحي اللبناني يعقوب الشدراوي وأداها الفنان مارسيل خليفة:
“قصتنا نزهة ريفية ممنوعة ومش قانونية
من تركيا وحكم فرنسا وحكم الصيغة اللبنانية
خلصنا من التركي وتتريكه إجت فرنسا سايكس بيكو
قسمونا بيكو وشريكو وخلقوا الدولة الصهيونية
والزعما اللي أخذوا بلعة كل راعي طايفته شلعة
بدل الوطن الحر القلعة نصبوا خيام الطائفية
من هالظلم إل ما منريدو ماضي أسود سيفه بإيدو
كنا نحنا من مواليده ولا منرضى التاريخ يعيده”.
من سوء حظ الفنان المسرحي يعقوب الشدراوي أنه شهد مرات عدة على “التاريخ الذي قال إنه لن يرضى على إعادته”، فقد عاصر فترات دموية في تاريخ منطقة المشرق العربي، نكبة ونكسة وحروب وانقسامات، والتي كانت نتيجة مباشرة لما يعرف باتفاقية “سايكس بيكو” التي سبقت ولادته بقرابة العقدين، وقسمت المنطقة العربية بين فرنسا وبريطانيا، وذلك في الوقت الذي ادعت فيه الحكومة البريطانية دعمها لقيام الثورة العربية الكبرى ضد النفوذ العثماني في المنطقة العربية الشرقية.
في السادس عشر من مايو/أيار 1916 تم التصديق على أكثر الاتفاقات التي قلبت العالم العربي ولا تزال الشعوب العربية تجني ثمارها المرّة، اتفاقية “سايكس بيكو” التي قسمت العالم العربي.
فرنسا وبريطانيا.. دعم مخادع للثورة العربية الكبرى
في 16 مايو /أيار 1916 توصلت فرنسا والمملكة المتحدة إلى اتفاق سري باركته روسيا القيصرية من أجل اقتسام منطقة ما يسمى بالهلال الخصيب، وذلك بعد انحسار قوة الإمبراطورية العثمانية التي اختارت التحالف مع الإمبراطورية النمساوية المجرية إبان الحرب العالمية الأولى.
بدأ ماراثون المحادثات السرية بشأن مخطط اقتسام منطقة الشرق العربي بين عامي 1915 و1916 قادها المندوب السامي الفرنسي للشرق الأدنى فرانسوا بيكو الذي كان قنصلا ببيروت، وبين المندوب السامي البريطاني مارك سايكس، وكانت هذه المحادثات في شكل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية.
بعد سيطرة الشيوعيين على الحكم في روسيا، كُشف هذا الاتفاق السري في أواخر العام 1917، وهو ما تسبب في إحراج فرنسا وبريطانيا اللتين أعلنتا دعمهما للقوات العربية المحاربة للجيش العثماني، وكانت بريطانيا قد وعدت بمساندة قيام دولة عربية مستقلة مقابل قيام ثورة ضد العثمانيين.
راهنت بريطانيا وفرنسا على عزل الإمبراطورية العثمانية عن البقاع الإسلامية المقدسة، وذلك بالتحالف مع الحسين بن علي شريف مكة حاكم الحجاز ومكة الذي قاد ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين خاصة بعد تحكّم “ثوار تركيا الفتاة” في دواليب الدولة العثمانية.
حرب بالوكالة على تركيا
أرادت الدولتان قيام حرب بالوكالة على الإمبراطورية العثمانية، وحاولتا أن تصبغا عليها صفة “الحرب المقدسة” خاصة مع الشرعية الدينية التي يمتلكها قائدها الحسين بن علي.
كان الوضع في الدول العربية الخاضعة لسيطرة الأتراك ملائما لتحريك المعارضين داخل مناطق نفوذهم، وبدأ التنسيق بين القوات العربية وبين بريطانيا التي أبدت دعمها للثورة العربية من أجل التخلص من السيطرة العثمانية على المناطق العربية.
في البداية عارضت بريطانيا دعم تحرك حاكم مكة الحسين بن علي الذي خشي من تقلص نفوذه في الحجاز مقابل دعم الوجود العثماني خاصة بعد تدشين خط حديد الحجاز بين دمشق والمدينة المنورة. وقد طلب عبد الله بن الحسين خلال زيارته إلى القاهرة في شهر فبراير/شباط 1914 من اللورد كيتشنر المندوب البريطاني في مصر آنذاك دعمه بالعتاد والمدافع، لكن المندوب البريطاني رفض طلبه لأن الدولة العثمانية هي دولة صديقة في تلك الفترة، أي قبل تحالفها مع الشق المعادي في الحرب العالمية الأولى.
انقلب الموقف البريطاني عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، وبدأت المحادثات بين شريف مكة والسير هنري مكماهون المندوب البريطاني في مصر الذي وعد خلال المراسلات -المعروفة بـ”مراسلات حسين مكماهون” سنة 1915- بالاعتراف باستقلال العرب مقابل وقوفهم في الحرب إلى جانب الحلفاء ضد العثمانيين.
ترك الرد على الخطاب الأول الذي تضمن ما يسمى بـ”بروتوكول دمشق” استياء كبيرا لدى شريف مكة بعد أن طلب المندوب البريطاني منه إرجاء الحديث عن حدود الدولة العربية التي سيتم إنشاؤها والتي اقترحها بن علي في ذلك الخطاب، رغم أن بريطانيا أبدت موافقتها على تولي خليفة عربي قيادة الدولة العربية المستقبلية.
أصر السير مكماهون خلال تبادل الخطابات على استثناء حلب وبيروت من المملكة العربية التي سيتم إنشاؤها، واكتفى بالتعهد بقوة بدعم قيام دولة عربية، ومقابل ذلك شاركت القوات العربية إلى جانب بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، وحث الشريف الحسين بن علي على إعلان الثورة، وفي المقابل أبدى بن علي استعداده للتنازل عن منطقة غرب دمشق وحلب وحمص بشرط أن يكون من حق العرب المطالبة باستعادة هذه المناطق بعد انتهاء الحرب، ووافق السير مكماهون في آخر خطاب له في 10 مارس/آذار 1916 على هذه المطالب.
لورنس.. عين بريطانيا على العرب
وفي كل هذا الزخم صعد نجم شاب بريطاني يدعى توماس إدوارد لورنس الذي اشتهر باسم “لورنس العرب”، وأصبح محركا للقوات العربية ضدّ العثمانيين في مناطق نفوذهم، واستطاع إخفاء أطماع بلده الأم تحت عمامة عربية ولغة محلية طليقة.
كان الشاب -الذي لم يتجاوز العقد الثالث من عمره- قد ساعد في رسم خريطة العالم العربي، ووصفه ونستون تشرشل بأنه “لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسه له”.
كان لورنس عالم آثار استقر في طرابلس وتحول إلى رجل استخبارت، وتمكن من خداع أمراء الصحراء في تلك الفترة بطلاقة لسانه بعد أن أتقن اللغة العربية، وقاده ولعه بالشأن العسكري إلى تقديم أول معلومة استخباراتية إلى سلطات بلاده في القاهرة بشأن سعي الألمان لبناء خط حديدي بين بغداد وبرلين، وعينته بريطانيا في قسم الخرائط بعد استدعائه لمقر القيادة العليا للجيوش البريطانية في القاهرة.
كانت مهمة لورنس هي البحث عن قائد للثورة العربية، وانتقل إلى الجزيرة العربية ليرصد وضع الثورة بقيادة الشريف حسين، ولم يكن شريف مكة أو ابنه عبد الله الشخصية القيادية التي يبحث عنها لورنس والتي وجدها في فيصل الابن الثالث للشريف حسين.
أعادت القيادة البريطانية لورنس إلى الجزيرة العربية ليعمل مستشارا لدى الأمير فيصل، عاد لورنس العرب وحقق وعده للعرب بطلب دعمهم بالسلاح، واستغل هزيمة الأمير فيصل أمام القوات العثمانية في ميناء ينبع لتحقق بريطانيا طلبه، حيث رست السفن البريطانية محملة بأحدث الأسلحة لمساندة الأمير فيصل، وعمل لورنس على تدريب القوات العربية على استخدام الأسلحة الحديثة.
تمكن لورنس من إقناع زعماء القبائل العربية بصفته مبعوثا للأمير فيصل بالانضمام إلى الثورة مثل جعفر باشا ونوري الشعلان، وكان لورنس العرب الموجه الحقيقي لسلاح القوات العربية حيث أقنع الأمير فيصل بالتوجه نحو العقبة (الأردن) ثم دمشق لإنهاء نفوذ العثمانيين في المنطقة العربية.
بدأت المعارك الحربية في جدة في 13 يونيو/حزيران 1916 بين القوات العربية والعثمانية التي انهزمت لتسقط مكة في 9 يوليو/تموز 1916، واستسلمت الطائف في 23 سبتمبر/أيلول 1916، وبويع الشريف الحسين في 31 نوفمبر/تشرين الأول 1916 ملكا، واعترفت به دول التحالف ملكا على الحجاز.
في تلك الفترة كانت طبخة سايكس بيكو تطبخ على نار هادئة بعد أن تمكنت بريطانيا من إشعال شرارة الثورة العربية وتقسيم العالم الإسلامي مبدئيا بين عرب وأتراك، ومن هناك انتقلت إلى التقسيم الجغرافي بما عُرف باتفاقية سايكس بيكو.
تقسيم المنطقة العربية
في 16 مايو/أيار 1916، كانت الحليفتان بريطانيا وفرنسا قد اتفقتا على تقسيم المنطقة العربية بعد التخلص نهائيا من النفوذ التركي بها في إطار اتفاق “سايكس بيكو” السري، وذلك بعد أن تمكنت الثورة العربية من طرد القوات العثمانية من منطقة الحجاز ومن مناطق في شرق الأردن. غير أن بريطانيا كانت قد بدأت بتنفيذ مخططات التجزئة للسيطرة على المناطق وفق الاتفاق السري بينها وبين فرنسا، وقامت بتقسيم المنطقة إلى ثلاث مناطق عسكرية: المنطقة الجنوبية وتشمل فلسطين ووُضعت تحت الإدارة البريطانية، ومنطقة شرقية تمتد من العقبة جنوباً وصولا إلى حلب شمالاً ووُضعت تحت إدارة فيصل بن الحسين شريف مكة، ومنطقة غربية تضم المنطقة الساحلية في سوريا ولبنان والممتدة من صور جنوباً إلى قيليقيا شمالاً والتي كانت تحت السيطرة الفرنسية.
المادة الأولى:
إن فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان أن تعترفا وتحميا دولة عربية برئاسة رئيس عربي في المنطقتين “آ” (داخلية سوريا) و”ب” (داخلية العراق) المبينة في الخريطة الملحقة بهذا الاتفاق. يكون لفرنسا في منطقة (آ) ولإنجلترا في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة (آ) وإنجلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية:
يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (سوريا الساحلية) ولإنجلترا في المنطقة الحمراء (منطقة البصرة) إنشاء ما ترغبان به من شكل الحكم مباشرة أو بالواسطة أو من المراقبة، بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة:
تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين)، يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة.
- ميناءي حيفا وعكا.
- يضمن مقدار محدود من مياه دجلة والفرات في المنطقة (آ) للمنطقة (ب)، وتتعهد حكومة جلالة الملك من جهتها بألا تتخلى في أي مفاوضات ما مع دولة أخرى للتنازل عن جزيرة قبرص إلا بعد موافقة الحكومة الفرنسية مقدماً.
المادة الرابعة:
تنال إنجلترا ما يلي:
المادة الخامسة:
يكون إسكندرون ميناء حراً لتجارة الإمبراطورية البريطانية، ولا تنشأ معاملات مختلفة في رسوم الميناء، ولا تفرض تسهيلات خاصة للملاحة والبضائع البريطانية. وتباح حرية النقل للبضائع الإنجليزية عن طريق إسكندرونة وسكة الحديد في المنطقة الزرقاء، سواء كانت واردة إلى المنطقة الحمراء أو إلى المنطقتين (آ) و(ب) أو صادرة منهما.
ولا تنشأ معاملات مختلفة مباشرة أو غير مباشرة على أي من سكك الحديد أو في أي ميناء من موانئ المناطق المذكورة تمس البضائع والبواخر البريطانية. تكون حيفا ميناء حراً لتجارة فرنسا ومستعمراتها والبلاد الواقعة تحت حمايتها، ولا يقع اختلاف في المعاملات ولا يرفض إعطاء تسهيلات للملاحة والبضائع الفرنسية، ويكون نقل البضائع حراً بطريق حيفا وعلى سكة الحديد الإنجليزية في المنطقة السمراء (فلسطين)، سواء كانت البضائع صادرة من المنطقة الزرقاء أو الحمراء، أو من المنطقتين (آ) و(ب) أو واردة إليها.
ولا يجري أدنى اختلاف في المعاملة بطريق مباشر أو غير مباشر يمس البضائع أو البواخر الفرنسية في أي سكة من سكك الحديد ولا في ميناء من الموانئ المذكورة.
المادة السادسة:
لا تمتد سكة حديد بغداد في المنطقة (آ) إلى ما بعد الموصل جنوباً، ولا إلى المنطقة (ب) إلى ما بعد سامراء شمالاً، إلى أن يتم إنشاء خط حديدي يصل بغداد بحلب ماراً بوادي الفرات، ويكون ذلك بمساعدة الحكومتين.
المادة السابعة:
يحق لبريطانيا العظمى أن تنشئ وتدير وتكون المالكة الوحيد لخط حديدي يصل حيفا بالمنطقة (ب)، ويكون لها ما عدا ذلك حق دائم بنقل الجنود في أي وقت كان على طول هذا الخط.
ويجب أن يكون معلوماً لدى الحكومتين أن هذا الخط يجب أن يسهل اتصال حيفا ببغداد، وأنه إذا حالت دون إنشاء خط الاتصال في المنطقة السمراء مصاعب فنية أو نفقات وافرة لإدارته تجعل إنشاءه متعذراً، فإن الحكومة الفرنسية تسمح بمروره في طريق بربورة-أم قيس-ملقا-إيدار-غسطا-مغاير إلى أن يصل إلى المنطقة (ب).
المادة الثامنة:
تبقى تعريفة الجمارك التركية نافذة عشرين سنة في جميع جهات المنطقتين الزرقاء والحمراء في المنطقتين (آ) و(ب)، فلا تضاف أية علاوة على الرسوم، ولا تبدل قاعدة التثمين في الرسوم بقاعدة أخذ العين، إلا أن يكون باتفاق بين الحكومتين. ولا تنشأ جمارك داخلية بين أي منطقة وأخرى في المناطق المذكورة أعلاه، وما يفرض من رسوم جمركية على البضائع المرسلة يدفع في الميناء ويعطى لإدارة المنطقة المرسلة إليها البضائع.
المادة التاسعة:
من المتفق عليه أن الحكومة الفرنسية لا تجري مفاوضة في أي وقت للتنازل عن حقوقها، ولا تعطي ما لها من الحقوق في المنطقة الزرقاء لدولة أخرى إلا للدولة أو لحلف الدول العربية، بدون أن توافق على ذلك مقدماً حكومة جلالة الملك التي تتعهد بمثل ذلك للحكومة الفرنسية في المنطقة الحمراء.
المادة العاشرة:
تتفق الحكومتان الإنجليزية والفرنسية، بصفتهما حاميتين للدولة العربية، على أن لا تمتلكا ولا تسمحا لدولة ثالثة أن تمتلك أقطاراً في شبه جزيرة العرب، أو تنشئ قاعدة بحرية على ساحل البحر المتوسط الشرقي، على أن هذا لا يمنع تصحيحاً في حدود عدن قد يصبح ضرورياً بسبب عداء الترك الأخير.
المادة الحادية عشرة:
تستمر المفاوضات مع العرب بنفس الطريقة السابقة من قبل الحكومتين لتحديد حدود الدولة أو حلف الدول العربية.
المادة الثانية عشرة:
من المتفق عليه ما عدا ذكره أن تنظر الحكومتان في الوسائل اللازمة لمراقبة جلب السلاح إلى الدول العربية
وبينما تقاسم الكبار الكعكة العربية، بقيت حبة الكرز “فلسطين” وحيدة تتوجه لها بطون أشد وطأة وشراسة.
التمهيد لقيام الكيان الصهيوني
نعى الكاتب والمؤرخ ناحوم سوكولوف -وهو أحد زعماء الحركة الصهيونية- السير مارك سايكس قائلا “سقط كالبطل إلى جانبنا”، فقد طرح السير سايكس -الممثل الخاص لوزير الحرب اللورد كيتشنير آنذاك- فكرة قيام سيادة فرنسية بريطانية مشتركة على فلسطين. ومنذ سنة 1917 طالب بسيادة بريطانية دون مشاركة فرنسا، خاصة بعد أن تولى دافيد لويد جورج رئاسة الحكومة البريطانية، والذي كانت له نية الانقلاب على النقطة الثالثة من الاتفاقية بخصوص إدارة فلسطين وتركيز سيطرة بريطانيا عليها، وكان قد أبلغ السفير البريطاني في باريس بتلك النوايا في شهر أبريل/نيسان 1917.
يرجع المؤرخ الأمريكي دافيد فرومكين في كتابه “سلام ما بعده سلام.. ولادة الشرق الأوسط 1914-1922” الفضل للسير مارك سايكس في تشكيل وعد بلفور، ويذكر فرومكين أن لقاءات جمعت بين سايكس وحاييم وايزمن رئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني في بداية سنة 1917.
كان وايزمان يجهل فحوى اتفاقية سايكس بيكو، واقترح عليه السير مارك سايكس وجود دولة لليهود في فلسطين تحت إدارة بريطانية فرنسية مشتركة، لكن الزعيم الصهيوني كان مصرا على أن تعلن بريطانيا التزامها بدعم إقامة دولة قومية لليهود في فلسطين.
وعد بلفور
في الثاني من نوفمبر/تشرين الأول 1917، تحققت مطالب وايزمان بإعلان بريطانيا تأييدها إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، وصدر وعد بلفور الشهير الذي أقيمت على أساسه الدولة الصهيونية، حيث أرسل وزير الخارجية البريطاني المحافظ آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الأول 1917 رسالة إلى اللورد ليونيل والتر دي روتشيلد أكد فيها تأييد حكومة بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين جاء فيها “يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر.
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح”.
في الواقع، لم تكن الإشارة إلى وضع فلسطين تحت إدارة دولية وفق ما جاء في المادة الثالثة من اتفاقية سايكس بيكو سوى تمهيد للانتداب البريطاني الذي بدأ إثر مؤتمر سان ريمو المنعقد في مدينة سان ريمو الإيطالية في أبريل/نيسان 1920، والذي ضم الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، حيث أقر التقسيم النهائي لتركة الإمبراطورية العثمانية، واتفق خلاله على منح فلسطين إلى بريطانيا بعد التراجع عن المادة الثالثة من نص اتفاقية سايكس بيكو.
هل نحن إزاء سايكس بيكو جديد؟
قد يبدو أنه من الظلم القول إنه بعد مرور قرن، ومنذ انطلاق شرارة الثورات العربية سنة 2011، إلى غاية الآن، إن هناك “سايكس بيكو” جديد يطبخ على جثث شهداء الثورات العربية، لكن ما تشهده المنطقة العربية من تغيير وشيك في حدودها أو خسارتها جزءا من أراضيها مثلما حصل في السودان في 2011، وتقسيم اليمن على أساس طائفي وليبيا على أساس عشائري، يثير مخاوف أكثر المتفائلين بمستقبل سياسي عربي مضيء.
ففي دراسة بعنوان “حدود الدم” نشرها موقع آرمد فورسز جورنال بتاريخ 1 يونيو/حزيران 2006، كتب رالف بيترز الضابط بالاستخبارات العسكرية أن أكثر الحدود عشوائية وتشوها هي تلك التي رسمت في أفريقيا والشرق الأوسط، وأن الحدود غير العادلة في الشرق الأوسط تسببت بآلام لا يمكن استيعابها.
واعتبر رالف أنه من الخطأ الاعتقاد أن التجمعات القائمة في الشرق الأوسط على مبدأ “الإيمان أو الدم” أي الدين والعرق؛ تعيش في رفاهية، واقترح الضابط الأمريكي المتقاعد رسم حدود جديدة لدول الشرق الأوسط قال إنها “تصحيح” للحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الأولى، وهي قائمة على مبدأ التشارك في العرق أو المذهب بالأساس.
وقد كان الانقلاب البريطاني على النقطة الخاصة بتسيير الحكم في فلسطين، خطوة أخرى في اتجاه تحقيق وعودها بإقامة دولة لليهود على تلك الأرض، ففي سنة 1915، ورغم دخولها في مفاوضات سرية مع فرنسا وروسيا بخصوص تقسيم تركة الدولة العثمانية، كانت الحكومة البريطانية تبحث عن السيطرة الأحادية على فلسطين، وطلبت من السير هربرت صموئيل الذي أصبح أول مندوب بريطاني في فلسطين أن يضع تصورا لمستقبل الوضع فلسطين.
كان صموئيل عضوا في وزارة الحرب البريطانية، وكتب مذكرة بعنوان “مستقبل فلسطين” بتاريخ 5 فبراير/شباط 1915، وأوصى باستثناء فلسطين من الاتفاقات مع فرنسا مهما كان نوعها، وقال إن إقامة اتحاد يهودي كبير تحت السيادة البريطانية في فلسطين هو ضامن كبير لمصالح بريطانيا، بحيث “يستطيع الحكم البريطاني فيها أن يعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة والمساعدة على التطوّر الاقتصادي، بما يمكّن اليهود من أن يصبحوا أكثرية في البلاد”.
وكان صموئيل اعتبر أن إقامة دولة يهودية في فلسطين يجب أن تكون هدفاً من أهداف الحرب لأنها ستمثل “مكسباً إستراتيجيا للإمبراطورية البريطانية”.
قد يبدو أنه من الظلم القول إنه بعد مرور قرن، ومنذ انطلاق شرارة الثورات العربية سنة 2011، إلى غاية الآن، إن هناك “سايكس بيكو” جديد يطبخ على جثث شهداء الثورات العربية، لكن ما تشهده المنطقة العربية من تغيير وشيك في حدودها أو خسارتها جزءا من أراضيها مثلما حصل في السودان في 2011، وتقسيم اليمن على أساس طائفي وليبيا على أساس عشائري، يثير مخاوف أكثر المتفائلين بمستقبل سياسي عربي مضيء.
ففي دراسة بعنوان “حدود الدم” نشرها موقع آرمد فورسز جورنال بتاريخ 1 يونيو/حزيران 2006، كتب رالف بيترز الضابط بالاستخبارات العسكرية أن أكثر الحدود عشوائية وتشوها هي تلك التي رسمت في أفريقيا والشرق الأوسط، وأن الحدود غير العادلة في الشرق الأوسط تسببت بآلام لا يمكن استيعابها.
واعتبر رالف أنه من الخطأ الاعتقاد أن التجمعات القائمة في الشرق الأوسط على مبدأ “الإيمان أو الدم” أي الدين والعرق؛ تعيش في رفاهية، واقترح الضابط الأمريكي المتقاعد رسم حدود جديدة لدول الشرق الأوسط قال إنها “تصحيح” للحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الأولى، وهي قائمة على مبدأ التشارك في العرق أو المذهب بالأساس.
وفي 13 ديسمبر/كانون الأول 2016، نصح وزير الأمن الإسرائيلي السابق موشيه يعالون، في دراسة نشرها موقع “مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي” وترجمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، نصح دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية قبل تسلمه رسميا الحكم بالعدول عن فكرة إعادة توحيد سوريا بعد نهاية الحرب، وقال “يجب التعود على فكرة تقسيم سوريا إلى جيوب عرقية ودينية: علوية، كردستان، دروزستان”، و قال “بعد هزيمة داعش هناك حاجة في المناطق السنية إلى إنشاء قيادة أو قيادات سنية”.
تتقاطع مخططات الدول الغربية لتغيير حدود الدول العربية التي أصيبت بلعنتين: لعنة النفط ولعنة مجاورة إسرائيل، مع حلم إقامة دولة الخلافة لدى التشكيلات المتطرفة التي تحلم بإعادة الخلافة والتي تعتبر بدورها أن الحدود الحالية لدول الشرق الأوسط تحول دون تحقيق هذا مشروع.
وفي خضم مطامع التقسيم التي كانت ولا تزال إلى اليوم، بقي العرب مفعولا بهم وحبة الكرز وحيدة.