تقع مدينة ستراسبورغ الفرنسية على شاطئ نهر الراين مباشرة، في الضفة الأخرى المقابل لألمانيا، وهي مدينة مزدهرة، استفادت من موقع جغرافي استثنائي على مرّ تاريخها، ويعكس تراثها المعماري قوتها وطمع الآخرين بها.
في هذا الفيلم الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “روائع العمارة الفرنسية” نتناول ثلاثة من أشهر مباني مدينة ستراسبورغ يزيد عمر بعضها على ألف عام، وتعدُّ شهادة حية تثبت قدرة البنائين الاستثنائية على ترك بصمة على مدينتهم، وهذه المباني هي كاتدرائية ستراسبورغ، وسدّ فوبان، ومحطة القطار الرئيسية.
بناء الكاتدرائية.. أعجوبة معمارية عملاقة باسم الرب العظيم
يمكن رؤية برجها من بعيد، إنه مثل منارة ترشد الناس، فتلك هي كاتدرائية ستراسبورغ التي تتمتع بعظمة بالغة، وكأنها تتحدى الجاذبية رغم ضخامتها، وقد وصفها “فيكتور هوغو” بأنها أعجوبة معمارية عملاقة وحساسة، ولقد تطلّب بناؤها جهدَ آلاف البنائين المهرة، واستغرق 4 قرون، وتجاوز بناؤها القدرات البشرية، وجسّد أنبل الدوافع في العصور الوسطى، وهو الإيمان.
يقول “بينوا جوردان” مسؤول المحفوظات: إنَّ بناء باسم الرب العظيم يجب أن يكون مهيبا، فلم يكن بمقدور أي ملك أو أسقف تأمين التبرعات أو العمّال باسمه فحسب، ولكنه الإيمان وتمجيد الرب هو ما دعا الناس للتبرع بأثمن ما لديهم.
لكن لبناء الكنيسة مآرب أخرى، فكاهنها كان رجل سياسة أيضا، فهو الأسقف الـ42 للمدينة، وقد وصل إلى السلطة في عام 1001 للميلاد وكان يسمى “فيرنر الأول”، كان كالأمير في الكنيسة، وأراد مضاهاة الكنائس والأبرشيات الأخرى، وليعكس هيبتَه وقوة الكنيسة وسطوة الطبقة البرجوازية، من خلال ذلك التصميم الاستثنائي.
وقد بدأ بناء الكاتدرائية الأول عام 1015، وكانت ستراسبورغ آنذاك إحدى أهم المدن الرومانية، رغم أن عدد سكانها لم يتجاوز ألفي نسمة، فقد بنوا هذه التحفة التي تعد واحدة من أكبر كاتدرائيات أوروبا، وقد بنيت من الصفر واستوحي بناؤها من الكنائس الأنتونية، وتتألف من صحن وجناح وواجهةِ البرج، وجدران سميكة تحتوي على فتحات وتجاويف صغيرة، ويدخلها الضوء عبر الأسقف الزجاجية.
ولم تكشف الكاتدرائية عن كل أسرارها، فطولها 110 أمتار وارتفاع صحنها 27 مترا، وفي الطابق الأرضي يتطابق تصميم أرضية كنيسة “فيرنر” مع تصميم كاتدرائية ستراسبورغ الحالية التي بُنيت على أساسات الكنيسة القديمة، وعند النزول إلى القبو يمكننا رؤية الأساسات التي وضعها بَنّاءو الأسقف “فيرنر”.
معمار الصحن.. صرح مزخرف تزينه لمسات الثورة القوطية
اختفى المبنى السابق شيئا فشيئا بعد قرون من بنائه، مفسحا المجال ببطء أمام كاتدرائية ستراسبورغ التي نعرفها اليوم، ويمكن رؤية الفن القوطي في ستراسبوغ في الجزء الجنوبي من الجناح، فبين عشية وضحاها انتقلوا من الفن الروماني إلى التصميم القوطي.
في بداية القرن الـ13 عُيّن مهندس من باريس، فجاء مع نحّاتيه ونقّاشي الحجر، وأحضر معه هذا الأسلوب الثوري الجديد. ولم يشاهد الناس شيئا كهذا من قبل، لقد كانت الثورة التقنية القوطية تجري على قدم وساق، وتحوّلت الكاتدرائية إلى تحفة معمارية حقيقية، فظهرت هذه الثورة جلية في الصحن المركزي، فهو هيكل عظمي، “أو قفص صدري” حجري، ونوافذ كبيرة تسمح بدخول أكبر كمية من الضوء.
فالبناء مرتفع على هيكل ضيق في البداية، والتوزيع الرأسي للقوى واقع على الهيكل الرئيسي، وهنا يظهر العنصر الأول في هذه التقنية، وهو القوس المدبب، ثم تتوزع القوى على الدعامات الطائرة، وهي عوارض حجرية تستند على الحائط مثل السلّم، وهي تعيد توزيع الضغط من القوس الرئيسي إلى أعمدة جانبية صغيرة مثبتة على الأرض.
وهذا ما فتح مسافات أكبر بين الأعمدة، استُغلت لوضع نوافذ زجاجية ضخمة ذات زخارف أخاذة ومساحات أكبر للضوء، وتلاشت الجدران في هذا الصحن الهائل (63 في 37 مترا)، لتحل محلها نوافذ مزخرفة ضخمة، وتظهر في الداخل شخصيات دينية من العهدين القديم والجديد، في شكل رسوم وتماثيل تزيّن تلك “القدس السماوية”. وقد بُني الصحن في 40 عاما، وبقي التحدي الأكبر في الواجهة الغربية للبناء.
نافذة الورد.. إبداع يجمع عبقرية الهندسة وسحر الفن
في الغرفة التي تشبه الخزنة أسفل الكاتدرائية توجد كنوز لا تقدر بثمن، ولم يكن يسمح بدخولها إلا لقليل من الناس، إنها المخططات الأصلية للكاتدرائية، وهي 30 رسما هندسيا ومعماريا فائق الدقة، ويبلغ عمر بعضها أكثر من 800 عام، ويرتبط باسم “إروين دوشتاينباخ” الذي انضم للمشروع عام 1284 وكان أحد عباقرة عصره، وقد كرّس 35 عاما من حياته لهذا البناء، ويعتبر أبا للواجهة الغربية الضخمة.
بدأ “دوشتاينباخ” البناء بالمستوى الأرضي للواجهة وبنى البوابات الرئيسية الثلاث، ثم انتقل للعمل على نافذة الورد الشهيرة في البوابة الوسطى بقطر 13.6 مترا، وفي هذه الواجهة ابتكر إبداعا جديدا يتمثل في الجدران المزدوجة، فالجدار الداخلي هو الأسمك، ويحتوي على الأعمدة الحاملة والدعامات المستعرضة فيما بينها، بينما الخارجي هو الأخف ويحمل منحوتات الزينة والزخارف، وخيطان القيثارة الدقيقة والجملونات.
وأما المسافة بين الجدارين فلا تتجاوز عشرات السنتيمترات، وهي تتيح للبنائين سهولة التركيب والصيانة، وتربط بين الجدارين قطع من الفولاذ، فالخيطان الحجرية المنحوتة عموديا تشدّ نظر المشاهد إلى أعلى البرج لأكثر من 60 مترا، والمسافة بين المنحوت والصلد تتيح لأشعة الشمس أن تعزف أوبرا الضوء والظل، حيث يبدو المشهد ساحرا خلّابا، وهو يتغير أمام ناظريك في كل لحظة تتغير فيها مساقط الأشعة.
برج الكاتدرائية.. إصبع يشير إلى الجنّة ويحسم السباق
انتهى بناء الواجهة والبرجين المجاورين في عام 1371، واستغرق بناء هذا الجزء الضخم المنحوت بدقة قرنا كاملا، وسيحتاجون نصف قرنٍ آخر لإنهاء برج الجرس عند الواجهة، وإضافة الشكل المثمن فوق الجزء الشمالي، ليتجاوز البناء ارتفاعه 142 متر تقريبا، أي ضِعف ارتفاع المدينة عن سطح البحر. وبعد 30 عاما ظهر برج الكنيسة بتصميمه المدهش مثل إصبع يشير إلى الجنة، وليصبح أعلى بناء مسيحي حتى القرن الـ19.
أما فكرة البرج المدبب فائق الجمال والزخرفة والأعلى في أوروبا، فقد جاءت من المهندس العبقري “جان هولز” الذي صمم هذا البرج المجوف، وبداخله 8 سلالم متداخلةٍ شديدة الانحدار تتكئ على بعضها دون إسناد مركزي، إنه مذهل بحيث لا تتخيل إنجازه دون استخدام الحاسوب.
ولا أحد يعرف على وجه التحديد لماذا لم يُبنَ البرج الثاني لتكون الواجهة متماثلة، فبعض التحليلات تقول إن نقص الموارد هو السبب، وأخرى تقول إن تطاول زمان البناء وإنهاك البنائين والمهندسين قد بلغ أوجه، لكن المؤكد أنه كانت هنالك خطة للصعود بالبرج الثاني، والدليل وجود قواعد السلالم وأساسات البرج.
وكان السباق محموما بين المدن الأوروبية لبناء أعلى الأبراج، تحديدا بين بيرن وكولون وفيّنا، ثم دخلت ستراسبورغ على خط السباق بهذه الكاتدرائية، وقد اكتمل بناؤها رسميا عام 1439، واستغرق بناء ما أسماه بعضهم بالعجيبة الثامنة أربعة قرون، ويمكن رؤية البرج من مسافة 50 كيلومترا.
وقد لفتت ستراسبورغ الأنظار إليها بعد إتمام هذا الصرح المذهل وجلبت عليها الكثير من الحسد، فقد كانت مستقلة منذ عام 1262 عندما ثار برجوازيو المدينة وطردوا الأسقف الحاكم، وكانت لها عملتها الخاصة وتدير شؤونها بنفسها، فجاء “لويس الرابع عشر” بعد أربعة قرون، وقرر إنهاء هذه الاستقلالية، ففي 1681 شن عملية قوية وحاصر المدينة بـ30 ألف جندي أجبروا المدينة على الاستسلام في يومين، وبهذا أصبحت المدينة الغنية تابعة لبلاط فرساي.
سد “فوبان”.. سور لتحصين مدينة ثرية تجذب الأعداء
يحيط بالمدينة جدار دفاعي لصد الأعداء، وهو مرابض للمدفعية، لكن “لويس الرابع عشر” كان يرى أن هذه التحصينات غير كافية، فأرسل مهندسه العسكري المشهور “سيباستيان فوبان”، وقدم تقريره خلال شهرين عن الوضع الدفاعي للمدينة، فكان هنالك حصن غير مكتمل وأسوار تعود لفترات سابقة متفاوتة، ثم قدّم تصوراته عن التحصينات المطوبة.
كان أولها حصنٌ نجميٌّ خماسي الشكل من النوع الذي يفضله “فوبان”، قبالة نهر الراين على الجانب الشرقي للمدينة، ويتسع لـ6 آلاف جندي، وهناك 3 كيلومترات مربعة من التحصينات لحماية مركز المدينة الثريّ، ولكن بقيت نقطة الضعف على الجانب الآخر، حيث نهر إيل الذي يخترق المدينة، ويعد شريانها الاقتصادي، فهذه خاصرة المدينة الرخوة الضعيفة عسكريا.
في القرن الـ13 وتحديدا سنة 1228، أغلق هذا الممر المائي بسلسلة من الجسور المغطاة، وأربعة أبراج ضخمة مجهزة بفتحات مواربة لرمي السهام وإطلاق البارود لاحقا، لكن فلسفة المهندس “فوبان” أن الأبراج العالية تكون فرصة قصفها وتدميرها بالمدفعية كبيرة، وما كان يصلح في زمن السهام لا يمكنه أن يصمد في وجه المدفعية.
تفتقت عبقرية “فوبان” عن فكرة السد الذي يسبب الفيضان، فعند منع المياه من التدفق باتجاه المدينة بواسطة البوابات الفولاذية في السد، فإن الماء المتجمع خلف السد يسبب فيضانا يغرق الأراضي التي خلف السد، وسيكون من المستحيل على جيش العدو أن يتحرك في منطقة الفيضان، وبهذا يفشل الهجوم.
هجوم الألمان.. سد صامد في وجه سبعة أسابيع من النار
يبلغ طول السد 120 مترا، ويرتكز على 13 قوسا، لكل واحد منها بوابة فولاذية تغلق دون الماء بإحكام، ويبلغ عرض القوس 5.5 أمتار، ويُترك قوسٌ واحد لعبور القوارب، بينما تغلق بقية البوابات. وفوق البوابات يُجهز السد بفتحات ضيقة لإطلاق السهام والرصاص.
ويستقر السد الضخم هذا على منصة خشبية مزدوجة ضخمة ثُبتت أسفل النهر، ووضعت فوقها طبقة من الحجارة الجيرية يبلغ عرضها 30 مترا، بينما عرض السد 11.6 مترا، مما يعطي ثباتا أكبر للسد على هذه القاعدة العريضة.
وفي عام 1863 أعيد بناء السد كاملا بواجهة حجرية مزدوجة، وتفصل بينهما طبقة عريضة من التراب لامتصاص صدمة القصف المدفعي، وتربط بين الواجهتين 14 عارضة معدنية صلبة، لزيادة تماسك السد أمام ضربات المدفعية. ولتعزيز الحاجز الترابي أضيف شريط معدني يطوق السد بأكمله من الأعلى.
وقد ظلت هذه الدفاعات صامدة حتى جاء عام 1870، عندما هاجمت القوات البروسية بقيادة “أوتو فان بسمارك” مدينة ستراسبورغ، وضربتها من عدة جهات، وقد صمدت جهة السد أكثر من غيرها، لكن في النهاية سقطت المدينة، وأمطرت بوابل من النيران سبعة أسابيع، إلى أن استسلمت نهائيا في سبتمبر/أيلول 1870، وأصبحت جزءا من الإمبراطورية الألمانية، وصارت عاصمة إقليم الإلزاس واللورين.
محطة السكك.. مفخرة الألمان في المدينة الرابطة بين العاصمتين
بدأت إعادة إعمار المدينة بسرعة وتأهيلها لتكون عاصمة، وبدأ توسيع العاصمة خارج أسوارها وتشييد بنية تحتية متكاملة تشمل شبكات المياه والكهرباء وشبكة الصرف الصحي وسكك القطار والترام، إضافة إلى طرق عربات الخيول والعربات الميكانيكية، وكان مهندس هذا المشروع الطموح “جان جوفروا كونراف”.
تُوّجت هذا المشاريع بواحدة من مفاخر الألمان، وهي محطة سكة الحديد في شمال نويشتات، في منطقة حافلة بالفنادق والمقاهي وخدمات المسافرين، ويبلغ طول مبنى المحطة 150 مترا، ويشبه قصور فلورنسا في عصر النهضة، وتعلو منصات القطارات 14 مظلة معدنية كبيرة، وقد خصص بعض المنصات للجيش بشروط عسكرية خاصة.
تمر جميع السكك خلال نفقين تحت المدينة من شمال المحطة إلى جنوبها، ولمنع اختراق العدو كان النفقان يمران من خلال بوابتين، يمكن إغلاقهما ليلا ببوابات حديدية مصفحة. وكان مهندس المحطة “يوهان إدوارد ياكوبسكال”، وقد صممها لتخدم مدينة مهمة تربط بين العاصمتين باريس وبرلين، وكان الغرض تسهيل حركة المسافرين وتوفير وقتهم، بحيث لا يضطرون لتغيير القطارات وتضييع الوقت في الانتظار، وإنما الاستراحة قليلا في هذه المحطة، ثم مواصلة السير بنفس القطار بين عاصمتي البلدين.
وتتكون المحطة من طابقين، أما الأرضي فهو لاستقبال المسافرين وفرزهم حسب اتجاهاتهم وإنهاء إجراءات السفر، وأما الصعود إلى منصات القطارات فيكون في الطابق العلوي، وبين الطابقين ممرات وأنفاق وسلالم توزع الركاب على طول المنصة تفاديا للازدحام في منصات المدخل الواحد، وهنالك سلالم منفصلة للذهاب والإياب، لتضمن انسيابية حركة المسافرين.
“صالة الإمبراطور”.. فضاء فاخر لاستقبال كبار المسافرين
أصبح هذا التصميم الإبداعي معيارا للمحطات الحديثة في القرن العشرين، وكان مزودا بالكهرباء بالكامل منذ بنائه عن طريق محطة توليد غازية، وقد افتتحت المحطة عام 1883، وكانت تحفة فنية مبهرة، خصوصا عندما شاهد المواطنون الإنارة الكهربائية الكاملة لأول مرة، وأكمل “يوهان إدوارد ياكوبسكال” تحفته بإضافة جوهرة خاصة، وهي صالة لكبار المسافرين من الدرجة الأولى لموظفي الشركة الوطنية الفرنسية للسكك، وما زالت حاضرة حتى اليوم وتعرف باسم “صالة الإمبراطور”.
وفي عام 1901 سرت شائعات أن الإمبراطور “وليام الثاني” سيزور ستراسبورغ، فأضاف “يوهان” صالة مغطاة تحوي سلّما فاخرا على طول واجهة المحطة، ليتسنى للإمبراطور استخدام السلم والصعود إلى صالة كبار الزوار، دون أن يختلط بالعامة.
لقد كان في ستراسبورغ من الإنشاءات المذهلة ما دفعها عشرات السنين إلى الأمام سابقة عصرها، وبعد الحرب العالمية الأولى انتهت سيطرة ألمانيا على المدينة وعادت إلى فرنسا، ولكنها بقيت البوابة الرئيسية بين غرب ووسط أوروبا.