تينزرت- بدت الشمس بهية جميلة هذا الصباح، وتدفقت أشعتها الدافئة المشاغبة تداعب في دلال الوجوه التي لا تكاد تصدق أنه قبل ساعات قليلة فقط، كانت الأمطار العاصفة تغمر منطقة الحوز كلها، والأحجار تملأ الطرق الجبلية الضيقة، والسيول الصغيرة المتفجرة من بين فجاج الجبال تنذر من يمر من إلى جانبها بخطر الانزلاق إلى ذلك الوادي السحيق هنالك في الأسفل.
كان القرار هذا اليوم هو زيارة تينزرت، تلك القرية الصغيرة التي شهدت مأساة كبيرة قبل عام بالضبط، تأثر لقصصها الحزينة كل من سمع بها أو قرأ عنها.
فقبل عام، مسح زلزال الثامن من سبتمبر/أيلول 2023 هذه القرية الوادعة في سلسلة جبال الأطلس الكبير بمنطقة الحوز من الخريطة، ودمر منازلها الطينية وخلف عدة قتلى وجرحى، وعزلها عن العالم.
كلما اقتربنا من الطريق الفرعية الجبلية الضيقة التي توصل إلى تينزرت يزداد ثقل ذكريات ما جرى قبل عام، وتتراقص القصص والوجوه التي عشنا معها مأساتها في هذا المكان النائي المتعب بجبال الأطلس الشاهقة.
كانت قصة تلك السيدة “أم سناء”، التي فقدت فلذتي كبدها سناء ورجاء عندما كانتا في بيت جدهما من أكثر القصص التي أثرت في من سمع بتفاصيلها، وتبدو الآن حكايتها كمغناطيس يجذبك نحو ذلك المكان هناك، لمعرفة كيف عاشت هذه الأم المكلومة عاما كاملا بينما جثمانا ابنتيها يرقدان هناك إلى جانبها في مكان قريب بهذا الدوّار المنكوب.
بدت الطريق الجبلية الضيقة خالية هادئة، والشمس الحارقة توسطت سماء زرقاء صافية، مما أدخل بعض الطمأنينة على قلوبنا التي كانت ترتعد قبل عام خلال زيارة هذا المكان خوفا من هزات ارتدادية مفاجئة، أو رياح عاصفة قد تلقي بنا بعيدا في أسفل الوادي.
حتى التعرجات الشديدة في هذه الطريق الضيقة التي لا تزال كما كانت، لم تخفنا كما في المرة الأولى، ويبدو أن ألفةً ما سرت بيننا مثلما تسري بين الضيف والمضيف.
من بعيد، لاح لنا دوار تينزرت في حضن الجبل، نقاط صغيرة منتشرة هناك هي خيام احتضنت الأهالي خلال عام كامل. وتينزرت بالمناسبة تعني “الأنف” بالأمازيغية، وهو اسم على مسمى، إذ تبدو القرية الصغيرة من بعيد وكأنها أنف يتصدر وجه هذا الجبل الرهيب بالأطلس.
عند وصولنا بدت القرية وكأنها خالية من سكانها، واستقبلتنا خيام في أسفل الطريق الوعرة نصبت فوق التراب الذي غطى المنازل الطينية التي دمرها زلزال القرن، تتوسطها خيمة كبيرة علمنا أنها “المدرسة” التي احتضنت تلاميذ القرية بالمرحلة الابتدائية خلال عام مضى، ويبدو أنها ستحتضنهم أيضا خلال عام قادم في انتظار إعادة بناء الوحدة المدرسية الابتدائية.
الطبلة وآه من الطبلة
وسرعان ما تبدت لنا حركة بناء نشيطة لأساسات منزل هنا وهناك، وفق الشروط التي فرضتها السلطات لمقاومة الزلازل.
يؤكد لنا سي محمد، من سكان تينزرت أن من استفادوا من الدفعة الأولى لبناء منازل بديلة لتلك التي هدمت، وقدرها 20 ألف درهم (ألفا دولار) بدؤوا في بناء أساسات المنزل -التي تعرف محليا بـ”الطبلة” أي الطاولة- وفق شروط تقنية دقيقة يحرص المهندس المكلف على تتبعها، وبمجرد الانتهاء، يفترض أن يتوصلوا بالدفعة الثانية بالمبلغ نفسه، لبناء جدران المنزل من دون سقف، أي “الصندوق” بحسب التعبير المحلي.
ويوضح القرويون هنا أن المبلغ المخصص لـ”الطبلة” لا يكفي البتة، وليست لديهم موارد كافية لتوفير بقية المبلغ لمواصلة البناء في انتظار صرف الدفعة الثانية وما يتبعها، في حدود 80 ألف درهم (نحو 8 آلاف دولار) لمن تضرر بيته بشكل جزئي، و140 ألف درهم (نحو 14 ألف دولار) لمن هُدم الزلزال بيته بالكامل.
فبالنسبة إلى أهالي تينزرت، ونظرائهم في الدواوير المشتتة في جبال الأطلس الشاهقة، فالأعمال التي يشتغلون بها في البلدات والمدن المحيطة هي أشغال شاقة، وفي مقدمتها قطاع البناء والفلاحة، ومداخيلها قليلة جدا ولا تكفي حتى لتوفير أساسيات العيش.
حكاية لم تمت
تشعب الحديث مع سي محمد ومن معه، لكن برغم الصحبة الطيبة والدردشات الجميلة مع هؤلاء المكافحين، فإن قصة أم رجاء وسناء لا تزال تشغل البال، ولا بد أن نلتقي الأم.
أخبرنا مضيفنا سي محمد أن الأم غير موجودة حاليا في القرية، لكن زوجها سي عبد الرحيم موجود، وسرعان ما قام بهمة ونشاط وناداه ليأتي من بيت إسمنتي قريب في الأسفل.
تسمرت عيوننا في الاتجاه الذي يفترض أن يأتي منه زوج السيدة أم سناء ورجاء، وسرعان ما أطل علينا وسرت فرحة غريبة في المكان بوصول رجل علقت قصة أسرته بقلوبنا لعام كامل.
حكى لنا عبد الرحيم أنه كان في مدينة مراكش عندما ضرب الزلزال على الساعة 11 ليلا و11 دقيقة وثانية بتوقيت المغرب (الواحدة فجرا و11 دقيقة وثانية بتوقيت مكة المكرمة)، إذ لجأ للمدينة للعمل في قطاع البناء لإعالة أسرته.
وعندما تأكد أن الأمر يتعلق بزلزال عنيف ضرب منطقة الحوز كلها، حاول الاتصال بأسرته في تينزرت بأعلى الجبل لكن من دون جدوى.
اتصل بأخيه داخل القرية وطلب منه الاطمئنان على أسرته، ففعل الأخ ليحمل إليه النبأ الحزين، بأن سناء ورجاء وعددا من أفراد القرية في ذمة الله، وأن الدوار مُسح من الخريطة.
يتابع عبد الرحيم أنه انطلق والقلق قد بلغ منه مداه إلى الطريق وتوسل إلى كل من يمر منها ليحمله إلى منطقة قريبة من قريته، وبعد فترة من الانتظار حمله أحدهم إلى قرية قريبة، ثم فوجئ بانقطاع الطريق بسبب سقوط الأحجار الضخمة جراء الزلزال.
تحرك راجلا إلى منطقة أخرى، ووجد من يقله إلى أقرب بلدة إلى قريته، وصعد إلى تينزرت وقلبه هواء.
أخبرنا أنه بمجرد وصوله إلى ما تبقى من بيته بحث عن ابنتيه فلم يجدهما، وصعق في ذلك الليل البهيم للدمار الذي أصاب القرية. اقتاده أخوه وبعض الجيران إلى المكان الذي سجي فيه جثمانا فلذتي كبده، وكان ما كان من صراخ وبكاء حارق لأب مكلوم على حبيبتيه.
كان عمر رجاء وقتها 8 أعوام، في حين أن عمر سناء كان قد بلغ 13 عاما، وانضمتا إلى لائحة ضحايا الزلزال الذين بلغ عددهم بحسب الأرقام الرسمية 2960 ضحية.
في حين قُدر عدد المتضررين بحوالي 2.8 مليون نسمة، وبلغ عدد القرى التي طالها الدمار 2939 قرية، وانهار ما لا يقل عن 59 ألفا و674 منزلا جراء الزلزال، 32% منها دُمر بالكامل.
شيم الجبل
ورغم الغوص في ذكريات أليمة لا تريد أن تنسى، وظروف معيشية صعبة، فإن شمائل أهل الجبال بقيت هي هي، وفي مقدمتها الكرم والجود بما لديهم.
فقد أبى محدثنا سي محمد إلا أن نوقف الحديث مع سي عبد الرحيم ونتجه لخيمة بسيطة هناك لتناول وجبة الغداء، وقطع حديثنا مع سي عبد الرحيم، وانطلق أمامنا متوجها إلى حيث اجتمع بعض البنائين حول طاجين جبلي بسيط، ولا ألذ!
في هذه المناطق تعد عدم مشاركة الناس طعامهم إهانة بالغة للمضيف، وسببا للتوجس من الضيف، لذا كان لا بد من المشاركة في ازدراد طاجين أول، ثم ثان يبدو أن نساء القرية طبخنه بقلوبهن قبل أيديهن.
الحديث المسيطر في مثل هذه الظروف لا يكاد يخرج عن موضوع الزلزال وآثار الزلزال، وعن معاناة الناس، وعن البناء وضرورة مواصلة الحكومة صرف الدعم الشهري للمتضررين الذي سيتوقف هذا الشهر، وتعجيل الدفعات المالية المخصصة للبناء للمسارعة في تشييد منازل قبل أن تطل ليالي الشتاء القارسة الطويلة التي لا ترحم في هذه المناطق الجبلية الوعرة.
هذا كل أمل سكان تينزرت وغيرها من القرى والمداشر الجبلية.
وامتلأ الفؤاد
حان وقت مغادرتنا تينزرت، والقلب قد تعلق بها وبذكريات مأساتها التي من الواضح أنها لم تفت من عضد شيبها وشبابها الذين لا يفترون عن الكفاح متشبثين بقوة بالحياة وبالأمل في غد أفضل مهما تعددت الصعاب.
بالمناسبة، ربما تسألون عن أم سناء ورجاء التي لم يقدر لنا أن نلقاها وهي التي كان فؤادها فارغا عندما أخذ منها الزلزال ابنتيها وأقارب لها.
لكن القدر كان رحيما بها وبنا، إذ حمل لنا زوجها سي عبد الرحيم بشرى جميلة، إذ أكد لنا أنها موجودة في بيت أسرتها بمنطقة أوكايمدن القريبة.
وسبب وجودها هناك أنها ولدت قيصريا بنتا جميلة، ونصحها الطبيب بالابتعاد عن مطبات الطرق الجبلية الوعرة، والبقاء في أمان بمكان قريب من المستشفى.
كانت سعادتنا بالغة بتزامن زيارتنا للقرية -بعد عام كامل على زلزال القرن- مع هذا الخبر السعيد، وعندما سألنا الأب عن الاسم الذي اختاره وزوجته للمولودة الجديدة، أجابنا باسما: “اخترنا أن نسميها سناء”. أخيرا، لم يعد قلب هذه الأم فارغا، فسناء الجديدة، ستملأ البيت ضجيجا كما كانت تفعل أختاها الراحلتان سناء ورجاء في زمن مضى.