فاتنة الحسن وقاسية في الآن نفسه، شديدة الحكمة من جهة لكن يُمكن أن يُفقدها الحب والغيرة صوابها ويدفعاها لاقتراف أشنع الأفعال. وعلى الرغم من أن شبابها كان ينبئ بالآمال الواعدة فإن نهايتها ستكون وحشية.
هكذا كانت أقدار وسيرة حياة شجرة الدر؛ المرأة اللغز التي حكمت دولة المسلمين في مصر لثمانين يوماً، وقادت جيوش دولتها في معركة ضد الصليبيين ودحرتهم، ومازالت حتى اليوم تُثير خيال الكتّاب والفنانين العرب، فاستلهموا حياتها في روايات وأعمال سينمائية وتلفزيونية عديدة، وركزوا على شخصيتها القوية، وأحياناً صلابتها، وبالطبع جمالها الكبير الذي فتح لها الأبواب في حياتها، فتحوّلت من جارية بيعت في الأسواق الى زوجة السلطان الصالح نجم الدين أيوب الذي هام بها بعد لقائهما الأول، وتزوجها بعد ذلك لتصبح المرأة الأولى في الدولة الإسلامية في مصر، وحتى وفاتها التي كانت كحياتها صاخبة وبعيدة تماماً عن المألوف.
شجرة الدر.. شركسة أم أرمنية؟
ليس من المعروف أصل شجرة الدر التي ولدت في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، فهناك من يزعم أنها من أصول أرمنية، ومن المؤرخين من يؤكد أن أصولها ترجع إلى الشركس من المنطقة التي تُعرف اليوم بالشيشان، ونُقلت الى مصر، حالها حال الكثير من أبناء تلك المنطقة التي تحولوا الى مماليك الدولة الإسلامية حينها.
كان يُمكن لشجرة الدر أن تبقى في الظل، وأن تعيش حياة عادية حال كثير من النساء من زمنها، لكن جمالها وذكاءها وطموحها الكبير عبّد لها الطريق للمجد والسلطة وحب الناس وأحياناً كرههم، وقادها بعد ذلك لخاتمتها المُفجعة.
لعل التفصيل الأكثر شهرة من حياة شجرة الدر هو ما فعلته عندما أخفت موت زوجها السلطان أيوب عن الشعب والجيش الذي كان يقاتل الصليبيين في مصر، حتى لا تحبط معنوياته وهو الذي أنهكته الحروب.
تذكر الكتب التاريخية كيف جمعت زوجة السلطان قادة زوجها وأدارت الأزمة الكبيرة التي كانت تواجهها البلاد والدسائس والمؤامرات بحنكة القائدة الحكيمة، ورتبت انتقالاً سلساً للسلطة الى ابن السلطان أيوب المسمى توران شاه، والذي حضر من مكان إقامته في الشام إلى مصر ليخلف والده حكم الدولة الإسلامية في مصر.
شجرة الدر.. في حرب الصليبيين
قادت شجرة الدر -التي اكتسبت احتراماً كبيراً من قادة جيشها ورجال الدولة اللامعين- المعركة ضد الحملة الصليبية والتي كانت تحمل الرقم سبعة في قائمة الحملات الصليبية على المنطقة، وانتصرت بها. وكان النصر ملطخاً بدماء أفضل قادة شجرة الدر العسكريين الذين خسرتهم في تلك الحروب الشرسة.
بيد أن فرحة النصر على الصليبيين بددها نزاع اندلع بينها وبين السلطان الجديد توران شاه على أموال الدولة، واتهامات من نوران شاه لزوجة والده الراحل بسرقة ثروات السلطان الراحل. أقلق هذا الأمر شجرة الدر التي كانت ترى نفسها الشخصية التي أنقذت الدولة الإسلامية من خطر الصليبيين، ولولا حكمتها لكانت هذه الدولة سقطت بيد الغزاة الآتين من الدول الأوروبية البعيدة.
كان الخلاف مع ابن زوجها الراحل بداية النهاية لحياة شجرة الدر الحافلة، إذ إنها وبعد فقدها لزوجها الذي كان يُجلّها كثيراً، كان عليها أن تلجأ إلى أسلحة جديدة للبقاء في قمة السلطة في زمن كانت الدسائس والمؤامرات هي السائدة.
قُتل السلطان الجديد في ظروف غامضة. وإذا كانت هناك روايات تاريخية تتهم قادة من المماليك بقتل السلطان توران شاه، فإنه من الصعب تخيل أن شجرة الدر لم تكن متورطة بشكل أو بآخر في ذلك الاغتيال، خاصة وأن موت السلطان الجديد سيمهد الطريق لها لتكون سلطانة مصر، وتصك عملات باسمها الذي سيكون: “المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين”.
لم يطل مقام شجرة الدر في الحكم، إذ انطلقت احتجاجات ومظاهرات في عموم الدولة معترضة على تولي امرأة أمر المسلمين. أيقنت شجرة الدر بحكمتها أنها لن تربح هذه المعركة الصعبة، وأنها تصارع عادات سائدة ترى أن النساء غير صالحات لحكم شؤون المسلمين، فتزوجت عسكرياً مُقرباً منها اسمه عز الدين أيبك وأعطته حكم البلاد، وحمل بعدها اسم السلطان المعز. وعادت شجرة الدر إلى الدور الذي تتقنه جيداً، أي زوجة السلطان التي تُحرك في الخفاء أمر البلاد والعباد.
شجرة الدر.. وغيرة النساء
اكتشفت شجرة الدر سريعاً أن زوجها الجديد السلطان المعز يختلف عن زوجها السابق السلطان الصالح نجم الدين أيوب الذي دفعه حبه لها حينها إلى أن رفعها من عالم الجواري وتزوجها وجعلها زوجة السلطان النافذة. فسرعان ما بدأ السلطان المعز بالتفكير بالزواج من امرأة تصغر شجرة الدر عمراً وأهمل زوجته السلطانة.
أفقدت هذه الإهانة شجرة الدر رشدها، إذ إنها -وهي الملكة المطاعة- تُعامل اليوم مثل النساء العاديات. وقاد هذا إلى مقتل السلطان الجديد في ظروف غامضة، ويقال إن شجرة الدر نفسها تقف وراء قتله بعد أن أرسلت إليه تطلب مجيئه إلى القلعة التي تعيش فيها، ليُقتل هناك.
لن يطول الزمان كثيراً قبل أن تنتهي مغامرة شجرة الدر مع السلطة، فالعالَم تغيّر من حولها، والمقربون منها من المماليك شعروا أنها تقف بوجه تطلعاتهم المتزايدة في الحكم، فساعدوا على تسليمها إلى زوجة السلطان المعز السابقة التي حجزتها في غرفة وأمرت جواريّها بضرب رأسها بالقباقيب حتى موتها في الثالث من شهر مايو/أيار من عام 1257. رُميت جثة شجرة الدر في مزبلة قريبة، لتبقى هناك لأيام قبل أن يقوم الناس بدفنها.
شجرة الدر.. وفاة الابن الوحيد
واللافت أن كثيرا من الكتب والأعمال الفنية التي استلهمت قصة شجرة الدر في القرن الماضي، ركزت على تفاصيل بعينها في قصتها، وخصوصا دورها في الحرب على الصليبيين، وقيادتها دولة المماليك في مصر في أوقات عصيبة، وحكمها القصير لهذه الدولة، فيما حظيت تفاصيل أخرى مهمة كثيراً في تشكيل شخصية السلطانة باهتمام أقل، منها صباها الغامض، وما يُمكن أن تكون تعرضت له في سنوات طفولتها، وحتى وصولها كجارية الى قصر السلطان الصالح نجم الدين أيوب الذي أحبها وجعلها جاريته المفضلة ثم زوجته.
كما أن موت ابنها الوحيد خليل من زوجها السلطان بسن مبكّرة، كان له بالتأكيد أثر مهم جدا على شجرة الدر التي فقدت ابناً وحيداً، ووليا للعهد، واضطرت بسبب غيابه إلى المحاربة وحدها، لتخسر في النهاية كل شيء.
شجرة الدر في الأدب
تطول وتتنوع قائمة الكتب والأعمال الفنية التي استلهمت حياة شجرة الدر، والتي حاول كتابها وكاتباتها أن يملؤوا الفجوات في المعلومات التاريخية عنها بتفاصيل من خيالاتهم. وأحياناً الانطلاق من قصة السلطانة في معالجات راهنة وعصرية للتاريخ الإسلامي.
ولعل واحداً من أقدم الكتب عن شجرة الدر، رواية “شجرة الدر” للروائي التاريخي المعروف جرجي زيدان (1861-1914) والتي صدرت منذ أكثر من 150 عاماً، وفيها يستعيد قصة السلطانة، مع التركيز على شخصيات بعينها منها وصيفة مقربة من السلطانة اسمها شويكار.
يصف زيدان وصول شجرة الدر يوم تنصيبها سلطانة إلى أحد الميادين العامة في مصر بالمقطع التالي:
“أصبحت القاهرة في اليوم التالي وأهلها في هرج، والناس يزحم بعضهم بعضا نحو القلعة، بين راكب وماش، رجالاً ونساءً، حتى أصبحت ساحة الرميلة تحت القلعة غاصة بالناس من كل الطبقات، وقد اختلط بهم الباعة يحملون أنواع الكيك والفاكهة والثمار والمملحات والحلوى والمأكولات الجافة. وبينهم حملة الودع وكشاف البحث وفاتحو المندل، ينادي كل واحد منهم على بضاعته على اختلاف الألحان والطبقات الأصوات، وقد علت ضوضاء الناس وأصوات الحيوان”.
ويواصل الكاتب وصف وقائع تنصيبها بالتالي:
“وقف عز الدين أيبك ووجه خطابه إلى الجمع وقال: أيها الأمراء والقواد، لا يخفى عليكم ما أصاب الملك المعظم توران شاه، إنه أساء السيرة وأراد التنكيل بجند هذا البلد البحريين الذي عرفتم بلاءهم في زمن الملك الصالح رحمه الله في حرب الإفرنج وغيرهم. فوقع القضاء عليه. ولما خلا كرسي السلطنة ممن يسوسها لم نجد من هو أولى بها من أصحاب الحق فيها إلا مولاتنا الصالحة شجرة الدر والدة خليل وصاحبة الملك الصالح، لما نعلمه من ثقة مولانا المرحوم بها، وهي أم ولده، فأجمع رأي الأمراء والنواب والقضاة على اختيارها ملكة تتولى شؤون الدولة بمساعدتهم. وقد تعهد أصحاب السيوف بطاعتها لإحقاق الحق وحماية بيضة الدين، ونحن الآن نحتفل بتنصيبها، وسندعو لها على المنابر بعد مولانا أمير المؤمنين المستعصم بالله، وسننقش اسمها على الدنانير والدراهم فادعوا لأمير المؤمنين”.
شجرة الدر.. سلطانة القاهرة
ومن الكتب الحديثة التي اهتمت بحياة شجرة الدر، رواية السورية المقيمة في باريس ديمة الدروبي “سلطانة القاهرة” الصادرة باللغة الفرنسية في عام 2016.
وتركز الرواية على اليومين الأخيرين من حياة شجرة الدر، وتعتمد مثل الكثير من الكتب والأعمال الفنية التي استلهمت حياة الشخصية التاريخية على معلومات نقلتها كتب التاريخ، وأخرى من خيال المؤلفة، لنسج قصة مثيرة تحاول أن تقارب حياة الشخصية الجدليّة التي جمعت تناقضات عديدة، والتي توفر للكتاب والفنانين عناصر عديدة متناقضة ومثيرة من التي يمكن تطويعها في أعمال حديثة تبحث في حال النساء ووضعهن في التاريخ الإسلامي، وعلاقتهن بالسلطات.