مع أن صدور قانون إلغاء العبودية في أمريكا قد مر عليه أكثر من قرن ونصف، فإن أشكالا من العنصرية لا تزال منتشرة ضد السود حتى اليوم، ولا يزال الرجل الأبيض يملك المال والسلطة لتغيير الحقائق وإلحاق الظلم والضرر بهم، وليس أدل من ذلك مما حدث لإحدى العائلات العريقة في طريق الدولار الفضي، فما الذي يميز هذه الأحداث حتى تحوّل لفيلم وثائقي؟
نستعرض هذه القضية في الفيلم الوثائقي “طريق الدولار الفضي” (Silver Dollar Road)، الذي أخرجه “راؤول بيك”، ويعد من الأعمال الوثائقية المهمة التي صدرت سنة 2023، وقد شارك في عدد من المهرجانات السينمائية المهمة.
حلف السلطة والمال.. هكذا يتلاعب الأمريكيون البيض بالعدالة
لم تتوقف الأفلام الوثائقية عن سرد مظالم ومآسي الأمريكيين الأفارقة خلال السنوات الماضية، فقد أُنتجت مئات من الأعمال ركّزت بشكل أساسي على ما تعرض له هؤلاء، في ظل انعدام العدل والمساواة والتعدي والعنصرية وغياب الحقوق المدنية.
لهذا شكّلت مواضيعهم منطلقات جيدة لتحقيقها سينمائيا، وعولجت من عدة زوايا ومنطلقات ورؤى، لكنها استظلت كلها تحت شجرة الحقوق المدنية، انطلاقا مما يملكه الرجل الأبيض من سلطة ومال وسهام تُطلق دائما صوب صدور السود.
وبتلك السلطة والمال يُتلاعب بقرارات العدالة والمؤسسات والأمن وغيرها من المراكز الحساسة، وكل هذا خدمة للمآرب الشخصية على حساب عدالة أصحاب البشرة السوداء، الذين ينظر لهم دائما على أنهم متهمون ومجرمون، حتى لو كانوا ضحايا.
هذا ما حدث لإحدى العائلات العريقة من السود، وكانت تقطن في بوفورت بكارولينا الشمالية، وتعرف تلك المنطقة تاريخيا بطريق “الدولار الفضي”، وتملك العائلة أرضا كبيرة مطلة على إحدى البحيرات المهمة التي ترتبط بالمحيط الأطلسي، وقد توارثوها أبا عن جد منذ أكثر من قرن ونصف القرن.
ولأن موقعها إستراتيجي ومهم، فقد جذبت شركات عدة، لهذا تلاعبوا بوثائق ملكيتها ورموا أصحابها من الورثة في غياهب السجون، لدفعهم على التنازل وترك أرض أجدادهم، بعد أن تواطأت العدالة مع أصحاب المال من البيض.
“أفضل سبيل لحماية أنفسنا هو امتلاك أرض والعمل فيها بأيدينا”
عاشت عائلة “ريلز” السوداء منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن في منطقة الدولار الفضي، وكان جدهم “إليغا ريلز” (1866-1962) قد نال تلك الأرض، بعد صدور قانون إلغاء العبودية شهر يناير/ كانون الثاني سنة 1865.
وقبل وقت قصير من هذا التاريخ -حسب ما أورده الفيلم- التقى الجنرال في جيش الاتحاد “ويليام تيكوميسيه شيرمان” مع مجموعة من القساوسة السود في كارولينا الجنوبية وسألهم عن احتياجاتهم، فرد عليه القس “قاريسون فريغر” المتحدث باسم المجموعة بقوله: “أفضل سبيل لحماية أنفسنا هو امتلاك أرض والعمل فيها بأيدينا”، وهذا ما حدث بعد صدور قانون إلغاء العبودية.
وقد توارثوا تلك الأراضي جيلا بعد جيلا، لكن جشع البيض لم يتركهم في حالهم، لهذا بدؤوا ممارسة العنف الجماعي بحقهم، قتلا وصلبا وحرقا وإتلافا للممتلكات، من أجل تهجيرهم ودفعهم للتخلي على أراضيهم والهجرة الى الشمال.
وهذا ما دفع 90% منهم للتخلي على أراضيهم من أجل السلامة والنجاة، في حين بقي 10% فقط ممن تمسكوا بأراضيهم ولم يهجروها، ومنهم عائلة “ريلز” التي تحدّت ما حدث لها خلال عقود من الزمن، ليعيد التاريخ نفسه في شكل جديد، وتدخل تلك العائلة في مواجهة مع شركات البيض التي استولت على جزء كبير ومهم من أرضهم.
حبس الورثة أو التنازل عن الأرض.. أمران أحلاهما مرّ
كانت عائلة “ريلز” تعيش حياتها بشكل عادي، فكان الأطفال يمرحون في المروج الخضراء بين الأشجار المعمرة، وكان الرجال منشغلين بأعمالهم في صيد الجمبري في البحيرة التي تطل عليها أرضهم، والنساء منشغلات بالبيت والحفلات والتنقلات.
لكن طارئا ما ظهر، فأفسد عليهم فرحتهم، بعد استدعاء الوريثين الرئيسيين، وهما “لايكورتيس” و”ميلفن”، فقد ظهر وريث ثالث جديد، قيل لهم إنه كان يملك حصة من الأرض، وهي الحصة المطلة على البحر، وقد باعها لشركة عقارات، ثم إن الشركات رفعت دعوة قضائية لهدم منزلين وإخلاء الأرض.
ووفقا لهذه الدعوة، خيّرتهما العدالة بين إمضاء التنازل وهدم البيتين أو الدخول في السجن، لكنهما فضّلا دخول السجن، وبقيا فيه سنين عددا، مع أن الإجراء لم يكن يستدعي كل ذلك، حتى إن المحامي الذي كان يمثلهما انسحب من القضية بعد تعرضه لضغوط.
لكن العائلة عينت محاميا جديدا، قال لهم إنه كان بوسع الشركة المالكة هدم البيتين ورفع دعوة تعويض مدنية، ولكنها اختارت سجن الوريثين، وهو إجراء كان بوسع القاضي اختياره، لكنه أمر بسجن المتهمين إداريا.
وقد طالت مدة السجن إلى أكثر من 7 سنوات، وقالت الحفيدة في تصريحها في الفيلم: “كنا نواجه السلطة والمال”، وكل هذا حدث بسبب تقديم سند ملكية غير قانوني بِيع لشركة، وعليه فقد أصدرت المحكمة قرارا بإخلاء الملكية.
في المقابل، قدم الوريثان عددا من الوثائق التاريخية التي تثبت ملكيتهما للأرض وبطلان العقد أو السند الذي تملكه الشركة، لكن لم يستجب لهما، بل كانت تمارس ضدهما إكراهات متنوعة، منها إغراق قارب صيدهم، والتلاعب بزيارة الأقارب في السجن، إلى أن استطاع محام جديد أن يقيم لهما محاكمة يوم 28 فبراير/ شباط 2019، بعد مرور 7 سنوات و11 شهرا و10 أيام في السجن، فأُفرج عنهما، لكن بقيت قضية الملكية معلقة.
أرشيف العائلة.. ذكريات الماضي والتواؤم مع الأرض
تجلت مصداقية فيلم “طريق الدولار الفضي” في اعتماده الكبير على الوثائق التاريخية، وقد أثبت بها المخرج صحة السند القانوني لملكية العائلة لأراضيها، إضافة إلى الوثائق السمعية البصرية التي كانت عبارة عن أشرطة فيديوهات كاميرات وهواتف تملكها العائلة.
وقد استُعملت في الفيلم لإعطائه التوثيق الضروري من جهة، ولشحنه بالعواطف الضرورية التي تعكسها صور الماضي، عندما كانت العائلة تجتمع وتشع بالفرح، وتبزر تمسكهم الكبير بأرضهم التي أصبحت هوية لديهم، لا سيما وفيها مقابر العائلة التي يزيد عمرها على قرنين كاملين، وهي معطيات ضرورة أدت إلى تمسك تلك العائلة بالمكان الذي حفظ ماء وجهها طوال عقود من الزمن، عاشوا فيه بعيدا عن إكراهات التمييز العنصري.
كما استعان المخرج بشهود الحاضر، وهم أفراد العائلة، ممن كانوا على صلة مباشرة بملف القضية، وكذلك بعض المحامين والمدافعين عن حقوق السود، وهي منطلقات أعطت الفيلم دفعا جيدا للتوجه نحو الحقيقة والاعتماد عليها، من أجل تقديمها للمتلقي، حتى يُصدر الحكم الذي يراه مناسبا من وجه نظره ورأيه.
ثم إن المخرج خلق بُعدا جماليا آخر، تمثل في الاعتماد على التصميم الغرافيكي والرسم، فولّد بهما جاذبية كبيرة، تُبرز مدى تعلق القوم بالأرض من جهة، ولرسم لوحات تعبيرية وتجريدية تظهر كيفية ارتباط تاريخ العائلة مع جذوع الشجر وشجرة العائلة. بمعنى أنهم قد أصبحوا جزءا لا يتجزأ من الأرض التي حاول اللصوص أن ينتزعونها منهم بالمكر والخديعة والتدليس.
“راؤول بيك”.. مخرج أسود يعرّي النظام القضائي الأمريكي
استطاع المخرج “راؤول بيك” (70 سنة) تقديم مقاربة مهمة لمفهوم الظلم التاريخي الذي يتعرض له السود في أمريكا، وبالتحديد لعائلة ريلز”، وقد جعل فيلمه منصة تنديد بهذه الأحداث المهينة والقاسية والظالمة بحق عائلةٍ ذنبُها الوحيد أنها سوداء وتملك أرضا جيدة.
لم يكن “راؤول بيك” مخرجا عاديا، فهو مخرج أسود ذو نشاط واسع في حقوق الإنسان، ويشهد له تاريخه الطويل بهذا، وكان قد شغل منصب وزير للثقافة في هايتي مسقط رأسه، وله مرجعية سينمائية مهمة خصص معظمها للدفاع عن حقوق السود المدنية والإشارة لمشاكلهم الجوهرية، ومن بينها أفلام: “أنا لست زنجيك” (I Am Not Your Negro)، و”إبادة جميع المتوحشين” (Exterminate All the Brutes)، و”لومومبا” (Lumumba)، و”أحيانا في أبريل” (Sometimes in April).
وكلها أعمال دافع فيها عن السود وندد فيها بما يحدث لهم، وقد نال عليها عددا من الجوائز والتكريمات، منها جائزة “البافتا” لأفضل فيلم وثائقي، وجائزة “سيزار” لأفضل فيلم وثائقي، إضافة لعدد من الترشيحات الأخرى، منها ترشحه للأوسكار سنة 2017.
هذه الخبرة التي استند عليها “راؤول بيك” انعكست معرفيا وجماليا في الفيلم، فقد صاغ فيه مقاربة مهمة، أظهر بها عددا من الحقائق التي كانت مخبأة حول ما حدث لعائلة “ريلز”، وأبرز دوافع فعل ذلك، وفي نفس السياق عرّى النظام القضائي الأمريكي، وأظهر انحيازه وانتقامه الواضح من أفراد العائلة بمنطلق عرقي من جهة، ومن جهة ثانية تلبيةً لسلطة المال والرجال البيض.
وفي مجمله، يعد هذا الفيلم صرخة قوية في وجه الطغيان الذي يحدث، وإشارة قوية لأمريكا التي تقدم الدروس للعالم في مجال العدل وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الرنانة، في حين تدوس أجهزتها القضائية على كل الحقوق المشروعة للسود.