كشف الفيلم الاستقصائي -الذي بثته قناة الجزيرة اليوم الجمعة (2023/6/9)- بعض الأسرار المتعلقة بشركة “لافارج” (Lafarge) الفرنسية للإسمنت، خاصة علاقتها بالجماعات المسلحة في سوريا خلال الفترة من 2011 إلى 2014 وارتباطها بالدولة الفرنسية وتحديدا بالاستخبارات، بالإضافة إلى تجسسها على تنظيم الدولة الإسلامية لصالح المخابرات الغربية.
وتمكن فريق التحقيق من الحصول على آلاف الوثائق المتعلقة بقضية لافارج ومقابلة من كانوا على صلة بالموضوع من عملاء مخابرات ومسؤولين في هرم السلطة بفرنسا، حيث كشف هؤلاء عن أسرار وخبايا أريد لها أن تبقى طي الكتمان.
وأظهر الفيلم أن كبار المسؤولين في مصنع لافارج -الذي دشن عام 2010- قاموا ببناء شبكة تجسس في شمال سوريا، للحفاظ على مصالح شركتهم التجارية وفي الوقت نفسه تسريب معلومات غاية في السرية إلى أجهزة الاستخبارات الفرنسية وأجهزة أخرى أميركية وغربية، وهو ما يؤكده مدير الاستخبارات العسكرية الفرنسية (2017-2023) الجنرال كريستوف غومار في شهادته بقوله إن موظفي لافارج كانوا مصدرا مهما للمعلومات وأفادوا بلدهم فرنسا.
وقدمت “لافارج” للمخابرات الفرنسية شبكة جواسيس جاهزين كان على رأسهم مدير الأمن في المجموعة جون كلود فيار الذي قام برحلات مكوكية في شمال سوريا، المنطقة التي كانت بعض الأجهزة مهتمة بها.
وكان كلود فيار يزود المسؤول الفرنسي في شركة لافارج بكل التفاصيل الدقيقة عن مقرات بعض الفصائل الجهادية وأسماء أفرادها وعناوينهم، وهي معلومات غاية في الأهمية والدقة كما يقول أحد المتحدثين في الفيلم.
كما كانت هناك شبكة تجسس أخرى في دبي عن طريق رجل أعمال سوري يدعى فراس طلاس (63 عاما) لديه أسهم في مصنع لافارج للإسمنت، وهو ابن وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس الذي هرب إلى باريس مع بداية الحرب بمباركة من السلطات الفرنسية.
وكان فراس -الذي يفتخر في حديثه بعلاقاته مع الاستخبارات الفرنسية- يسرب المعلومات عن كل الفصائل السورية المسلحة والمقاتلين الفرنسيين لدبلوماسي فرنسي في القنصلية الفرنسية بدبي.
ولم يكتف فريق فراس بالحصول على أسماء وأرقام هواتف مقابل الأموال التي يدفعها عند نقاط التفتيش، بل تمكن من اختراق معاقل التنظيمات المسيطرة هناك، واعترف في شهادته بأن لديه رجالا في كل الأراضي السورية يبعثون له المعلومات كل يوم، وأنه أرسل نسخا كثيرة من الفيديوهات لصالح المخابرات الخارجية الفرنسية.
وكان رجل الأعمال السوري يتقاضى مقابل ذلك 70 ألف دولار كل شهر يدفع منها لعملائه داخل سوريا.
أكبر استثمار فرنسي
كما جاء في شهادة كلود فيار -الذي رفض تصويره وسمح بكتابة شهادته- “قدمت معلومات عن سوريا للمخابرات العسكرية وجهاز مكافحة الإرهاب والمخابرات الخارجية بدءا من منتصف 2011..”.
ومع بداية الحرب في سوريا جنّد كلود فيار عميلين، أحدهما نرويجي يدعى جاكوب وارنيس، وكان شرطيا في جهاز الأمن الداخلي في بلاده، والآخر أردني اسمه أحمد جلودي، وهو مسؤول الأمن في مصنع لافارج، وقد تعاون مع المخابرات الأميركية لتخصصه في تعقب الشبكات الإرهابية وكرّمه الكونغرس الأميركي، وتمت ملاحقة الاثنين لاحقا بتهمة الإرهاب.
وجاء في الفيلم الاستقصائي -الذي يحمل عنوان “مصنع الجواسيس”- أن رسالة إلكترونية أرسلها كلود فيار إلى المخابرات تضمنت خرائط أعدها جلودي وتظهر مواقع الأطراف المتحاربة في سوريا ومواقع القيادات الإسلامية ونقاط التفتيش مع أسماء المجموعات التي تسيطر عليها.
وبعد ذلك بأيام قليلة أعدت المخابرات الخارجية الفرنسية مذكرة بشأن الوضع في سوريا، وكانت المفاجأة في الوثائق المرفقة، حيث تضمنت الخرائط نفسها التي أرسلها موظفو لافارج، وصنفت تلك الخرائط في خانة أسرار الدفاع.
وعن السبب الذي يجعل فرنسا تحتفظ بمصنع لافارج في سوريا رغم أن البلاد كانت في حالة حرب، يقول فابريس بالانش الأستاذ المحاضر في جامعة ليون إن المصنع كان أكبر استثمار فرنسي في سوريا.
وأشار بالانش إلى أنه لو كان يقع في مناطق سيطرة الحكومة السورية لفعلت باريس كل ما في وسعها لإغلاقه، لكن وجوده في منطقة محررة كان يوافق توجهات الدبلوماسية الفرنسية التي كانت تتوقع سقوط نظام بشار الأسد قريبا.
وهذا ما كان يؤكده الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند (2012-2017)، فما كان يهمه هو التأكد من تزويد المعارضة السورية بالسلاح وضمان عدم وقوعه في أيدي من وصفها بالأطراف المعادية.
وكشف الفيلم كيف أن أجهزة المخابرات الفرنسية طلبت من عملائها في شركة لافارج التجسس على تنظيم الدولة، حيث تم تكليف جلودي في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 بمهمة التعرف على بعض كوادر التنظيم، ومنهم أبو عمر الشيشاني الذي سيصبح قائدا ميدانيا فيه.
لكن الشبكات التابعة لمصنع لافارج فقدت حضورها، ففي سبتمبر/أيلول 2014 وبعد 3 أشهر من إعلان الخلافة الإسلامية سيطر تنظيم الدولة على مصنع الإسمنت.
وبعد 6 سنوات من التحقيق توصلت الشرطة القضائية إلى أن مصنع لافارج مكّن التنظيمات المسلحة من الحصول على ما يتراوح بين مليونين و7 ملايين يورو دفعها رجال فراس ورشاوى لزبائن المصنع، وأطنان الإسمنت تركت في سوريا.
كما أصدرت السلطات الفرنسية في خريف 2017 مذكرة اعتقال بحق فراس للاشتباه به في تمويل الإرهاب.