على جانب إحدى الساحات العامة، تجمّع ثلّة من الرجال يتراشقون أطراف الحديث بلا اكتراث، كل يرمي ما لديه، ولا يبالي أحدٌ بالآخر، حتى شقّ أحدهم ضجيج المكان وأثار فضول الجميع بسؤال وجّهه دون أن يرجو منه إجابة، فقال ساخرا: ما هو أكبر عدد تعرفونه يا رجال؟
فأجاب أحدهم مليون مليون! فقاطعه آخر بل إنه المليار، فبتنا نسمع برجال الأعمال الذين حققوا ثروات تخطّت المليارات من الدولارات، فيجيب آخر ولماذا ليس التريليون؟ وهنا عم الصمت أول مرة وبات سيد الحوار، حتى انتفض أحدهم من جديد صارخا ومبتهجا: بل إنّه العدد لا نهاية!
فقال آخر معترضا ولماذا لا يكون عدد لا نهاية زائد واحد؟ أو ربّما لا نهاية زائد لا نهاية! وعاد مجددا الضجيج والصخب يهيمنان على مجلسهم.
ليس بأمر هيّن التفكير في الأعداد الكبيرة، فهي تستوعب خانات لا نهائية، ولو افترضنا أكبر عدد في الوجود نعرفه، فإننا ببساطة سنضيف صفرا عن يمينه ونجعله أكبر مما كان، وهكذا. ولكنه ليس المقصد من هذا المقال، بل إننا نسعى إلى طرح الأعداد الكبيرة المكتشفة التي تحمل معنى، أو ترمز إلى دلالة ما.
فعلى سبيل المثال، عدد الخلايا في جسم الإنسان البالغ تتجاوز 37 تريليون خلية، وحجم الكون المرئي يُقدّر بـ93 مليار سنة ضوئية، وتعد جميعها أعدادا هائلة قياسا على ما نتعامل معه في الحياة اليومية، ومع ذلك فهذان العددان لا يمثلان أكبر الأعداد بأيّ شكل من الأشكال.
ويصبح الأمر بالغ الصعوبة عندما تتجاوز الأعداد حدود العالم الفيزيائي الملموس، إذ يتعذّر على عقل الإنسان استيعابها وتخيلها، حتّى أن مفهوم “لا نهاية” يبدو أكثر قابلية للفهم والإدراك، من التعامل مع الأعداد الضخمة التي تتجاوز حد المعقول. وكلما بدأت الأعداد تكبر شيئا فشيئا، بدأت تظهر الضبابية والشرود الذهني.
على أي حال، فنحن في هذا المقال نستعرض أضخم الأعداد التي وُضِعت وصِيغت لخدمة النطاق العملي والحسابي في عالم الرياضيات والفيزياء.
“فرضية ريمان”.. مكافأة مليون دولار لمن يجد الإجابة
والفرضية في جوهرها دالة رياضية ذات مدخلات معقدة، تتعامل مع توزيع الأعداد الأولية، وهي الأعداد الصحيحة الأكبر من 1 وليس لها قواسم أخرى غير 1 ونفسها (على سبيل المثال: 2، 3، 5، 7، 11، وما إلى ذلك). وتنص فرضية ريمان على أنّ هناك نمطا متعلقا بهذه الأعداد، تحديدا مع دالة رياضية تسمّى “زيتا ريمان”، وعند النظر إلى نقاط معيّنة على رسم بياني لهذه الدالة، سيكون الجزء الحقيقي من تلك النقاط دائما يساوي النصف.
ذلك باعتبار أنّ دالة زيتا ليست إلا جذرا مركبا يحتوي على جزء تخيّلي (Imaginary Unit) وعلى جزء آخر حقيقي (Real Number) والذي يساوي دائما النصف في الدالة نفسها. ولا تعتبر فرضية ريمان “عددا ضخما” في حد ذاتها؛ بل إنها تتعامل مع سلوك عدد كبير من الأعداد المركبة المعقّدة.
تعد “فرضية ريمان” من أشهر وأقدم المسائل التي لم تُحل في الرياضيات، وتحديدا في مجال نظرية الأعداد، وسُمّيت على اسم الرياضي الألماني “برنارد ريمان”، وهو من صاغها لأول مرة في عام 1859.
وهذه الفرضية في جوهرها دالة رياضية ذات مدخلات معقّدة، تتعامل مع توزيع الأعداد الأولية، وهي الأعداد الصحيحة الأكبر من 1 وليست لها قواسم أخرى غير 1 ونفسها (على سبيل المثال: 2، 3، 5، 7، 11، وما إلى ذلك).
وتنص فرضية ريمان على أنّ هناك نمطا متعلقا بهذه الأعداد، تحديدا مع دالة رياضية تسمّى “زيتا ريمان” التي تتعامل مع سلوك عدد كبير من الأعداد المركبة المعقّدة.
وتعد “نظرية ريمان” واحدة من سبع معضلات رياضية طُرِحت في عام 2000، ووضعت مكافأة مالية تساوي مليون دولار لمن يصل على الإجابة الصحيحة.1
“أرخميدس”.. رياضي يوناني يحل معضلة حبات الرمل
في فترة ما ليست بقريبة، استطاع الإنسان تمييز التركيب البسيط للمواد من حوله، فقال إنها تتكوّن من ذرات صغيرة تتراص معا وتتحد، ثمّ ما لبث أن بدأ يخمّن عدد الذرّات التي تشكّل كل شيء من حوله، أي عدد الذرات التي في الكون بأسره. وكان الرياضي اليوناني “أرخميدس” من أوائل من حاولوا حساب عدد الذرات في الكون، ولكن بطريقة مبتكرة.
ظهرت المعضلة في البداية بسبب النظام العددي أو الرقمي البدائي الذي كان يعتمده اليونانيون، فكانت الأرقام يُرمز لها بالأحرف الإغريقية، مثل “أ” تساوي 1، و”ب” تساوي 2 وهكذا. وكان أضخم ترميز رقمي لديهم هو العدد عشرة آلاف، ويقابله لفظ “ميرياس” (Myrias) في اليونانية.
لطريقة العملية للوصول إلى أكبر الأعداد الأوّلية الممكنة بأسرع شكل ممكن.
وكان ما يجول في عقل “أرخميدس” حينها هو التساؤل عن عدد حبات الرمال التي يمكن أن تملأ الكون كلّه، وحبة الرمل كناية عن الذرّة في تجربته الرياضية. ومع أنه لم يكن واعيا ولا مدركا لحجم الكون الحقيقي آنذاك، فإنّه كان يسعى إلى وضع أكبر عدد ممكن، وحينها ابتكر النظام الأساسي في الرياضيات، وهو الرفع للقوى أو الرفع إلى الأس.2
وفي كتابه “المحصّل في الرمال”، ذكر أرخميدس بأنّ الكون يمكن أن يحتوي على حوالي 10 مرفوعة للقوّة 63 من حبّات الرمل، وهو تخمينٌ ليس ببعيد عن إجمالي عدد الذرات الذي يتصوره العلماء اليوم، ويعادل 10 مرفوعة للقوّة 82 ذرّة، ضمن حدود الكون المحسوب، البالغ قطره حوالي 93 مليار سنة ضوئية، مع فارق أن حبة الرمل تعادل حجم الذرة ملايين المرات.3
“عدد ميرسين الأوّلي”.. قانون رياضي بسيط يتحدى الأعداد
يُعد عدد “ميرسين” الأوّلي عددا صحيحا موجبا لا يقبل القسمة إلا على نفسه أو على 1، وقد سُمّي على اسم عالم الرياضيات الفرنسي “مارين ميرسين” في القرن السابع عشر. ويمثل هذا القانون الرياضي البسيط طريقةً عملية للوصول إلى أكبر الأعداد الأوّلية الممكنة بأسرع شكل ممكن.
ويعد البحث عن أعداد “ميرسين” الأولية مجالا حيويا للدراسة في نظرية الأعداد وعلوم الكمبيوتر. كما أنه تطبيق رئيسي للعمل المشترك على نطاق واسع، إذ تتصل آلاف أجهزة الكمبيوتر عبر الإنترنت للعمل معا لحل مشكلة ما.
ومن المشاريع البارزة في هذا المجال “مشروع البحث الكبير عن أعداد ميرسين الأولية على الإنترنت” (GIMPS) في عام 2008، وقد استقطب أكثر من 150 ألف متطوع، يعمل جميعهم باستخدام أجهزتهم الشخصية من أماكن مختلفة حول العالم.
وقد وضعت “مؤسسة الحدود الإلكترونية” (EFF) سابقا مكافآت مالية لمن يعثر على أعداد أوّلية كبيرة قد تحقق منها، ففي عام 2006 مُنِحت مكافأة 50 ألف دولار لأحدهم بعد عثوره على عدد أوّلي به أكثر من مليون خانة، وفي عام 2008 مُنحت جائزة 100 دولار لعدد أوّلي به 10 ملايين خانة.4
وأما أكبر عدد أوّلي عُثِر عليه -حتى لحظة نشر هذا المقال- ففيه أكثر من 24 مليون خانة، وقد توصّل إليه جهاز حاسوب لطالب متطوّع في ولاية فلوريدا عام 2018، ويحمل هذا العدد لقب “أكبر عدد أوّلي معروف”، منتظرا أن يكسر أحدهم العدد القياسي.
وعلى مدار 350 عاما، وجدنا 51 عددا أوليا معروفا من أعداد “ميرسين” الأوّلية، وهذا يوضح مدى صعوبة المهمة، والتطبيق متوفر مجانا على الإنترنت، ومتاح للجميع للمساهمة في إجراء العملية الحاسوبية.5
“غوغل” و”غوغلبلكس”.. أرقام هائلة تكرم محرك البحث الشهير
يُعد العدد “غوغل” تكريما لمحرك البحث الشهير “غوغل”، نظرا للكم الهائل من المعلومات التي ساهم المحرك في نشرها، ويمثل غوغل الرقم 1 متبوعا بـ100 صفر، وهو رقم ضخم، لكنه لا يمثّل شيئا أمام العملاق “غوغلبلكس”، وهو اسم مقر شركة غوغل في ولاية كاليفورنيا. ويعادل “غوغلبلكس” العدد 10 مرفوعا إلى القوّة غوغل، أي 10 مرفوعة للقوّة 10 مرفوعة للقوّة 100.
ويقول عالم الرياضيات “ديفيد هامكنز” من جامعة “نوتردام”: يمكن تصوّر هذا العدد بالطريقة الآتية، فلو افترضنا أن لدينا طابعة فائقة السرعة تعمل على طباعة رقم في كلّ خانة، ولو قلنا إنها تطبع مليون خانة في الثانية الواحدة.
ولو افترضنا أنّ الطابعة بدأت العمل منذ اللحظة الأولى من بداية نشأة الكون حتى هذه اللحظة، علما بأنّ عمر الكون 13.8 مليار سنة، فإننا ما زلنا لم نكتب إلا شقا صغيرا من عدد “غوغلبلكس” بأكمله، وهذا يعني أننا من السهل أن نرمز إلى الأعداد بأسماء أو رموز معيّنة، لكن ربما من الصعب كتابتها أو تدوينها.6
أضخم الأعداد الرياضية.. عدد “غراهام” يتجاوز حدود المعقول!
إنّ جميع ما ذكرناه يضمحل ويختفي أمام عدد “غراهام” الضخم، فهو عدد هائل يتجاوز حدود المعقول، لدرجة أنّه يستحيل عمليا تمثيله باستخدام التدوين الرياضي القياسي. وكان عالم الرياضيات “رونالد غراهام” هو من ابتكر هذا العدد في سياق حل مشكلة رياضية، تتعلّق بمجال “نظرية رامزي” (Ramsey Theory) في عام 1977. وقد أدرج عدد “غراهام” في موسوعة “غينيس”، بصفته أكبر عدد استُخدم على الإطلاق في البرهنة الرياضية.7
ولفهم مدى ضخامة هذا العدد، لنضع في الاعتبار أنه يتجاوز نطاق الأرقام التي يمكن وصفها باستخدام العمليات الرياضية التقليدية، أو حتى التدوين الأسي القياسي المعتاد. وإذا ما حاولنا كتابته كاملا، فإنّ عدد الخانات المطلوبة سيتجاوز عدد الذرّات في الكون المرئي.
ينشأ عدد “غراهام” من لغز رياضي معقّد، ولا توجد طريقة لكتابته باستخدام أيّ رموز حسابية بشكلها التقليدي، وبدلا من ذلك ينبغي أن يُكتب بسلسلة من الأسهم موجّهة إلى الأعلى، تمثّل ما يُعرف بـ”أبراج من الأسس”، وهو ما يعني تكرار عملية رفع العدد إلى قوّة نفسه عددا معيّنا من المرّات.
المصادر:
[1] ليتزر، رافي (2019). علماء الرياضيات يقتربون من حل مشكلة رياضية بقيمة “مليون دولار”. الاسترداد من: https://www.livescience.com/65577-riemann-hypothesis-big-step-math.html
[2] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). كيف اخترع أرخميدس العدد الوحش. الاسترداد من: https://www.famousscientists.org/how-archimedes-invented-the-beast-number/
[3] بيكر، هاري (2021). كم عدد الذرات الموجودة في الكون المرئي؟. الاسترداد من: https://www.livescience.com/how-many-atoms-in-universe.html
[4] هوتش، ويليام (2024). عدد ميرسين الأولي. الاسترداد من: https://www.britannica.com/science/Mersenne-prime
[5] محررو الموقع (2024). العقور على 51 من أعداد ميرسين الأولية. الاسترداد من: https://newsroom.unl.edu/announce/csmce/9393/54550
[6] فيتشر، ريتشارد (2023). عندما تتجاوز التريليونات، هناك بعض الأرقام المذهلة للغاية، كما يقول ريتشارد فيشر. وبعضها أكبر من أن يتناسب مع العقل، أو حتى داخل الكون المعروف. الاسترداد من: https://www.bbc.com/future/article/20230320-the-numbers-that-are-too-big-to-imagine
[7] توماس، راشيل، وفرايبرغر، ماريان (2014). كبير جدا للكتابة ولكنه ليس بالنسبة لغراهام. الاسترداد من: https://plus.maths.org/content/too-big-write-not-too-big-graham
محتوى مرئي:
يبلغ حجم الكون المرصود “المرئي” حوالي 93 مليار سنة ضوئية، ولا يمكن حساب الكون كلّه بسبب توسّعه بمعدل أسرع من سرعة الضوء.
كان مارين ميرسين راهبا وعالما متعدد المجالات من القرن السابع عشر، واشتهر بوصف سلسلة من الأعداد الأولية، والتي سميت على اسمه لاحقا.