“لا تقل إنك شاعر
تُبْ فإن الشعر فحشاءٌ وجرح للمشاعر
أنت أميٌّ فلا تقرأ ولا تكتبْ ولا تحملْ دفاتر
سوف يلقونك في الحبس ولن يَطبع آياتك ناشر”.
إنَّ مقالا محدود الكلمات لا يفى شاعرنا حقّه، وإن حلقة مدتها نصف ساعة من حلقات “خارج النص” بثتها قناة الجزيرة الفضائية لا يمكن أن تقف على كل لافتاته، أما مجموعة الأدباء والنقاد والإعلاميين الذين استضافتهم الحلقة، فقد حاولوا جهدهم أن يعطوا هذا الشاعر الرافض الثائر ما يستحق من الإضاءة والتجلية بعد أن آثر شاعرنا الاعتزال.
أحمد مطر.. نخيل البصرة الباسق وميلاد فسيلة ثائرة
أحمد مطر شاعر ذو حس مرهف متمرد رافض للواقع المرير الذي تعيشه الشعوب والمجتمعات، كان يرى أن وظيفة الشاعر أن يكتب بالدم والسيف، لا أن يتأنق بالألفاظ ليجعلها أيقونة لغوية، وهو يكتب السهل الممتنع الذي إن قرأته تحس أنك تستطيع أن تكتب مثله، ولكن إن حاولت تعجز.
ولد الشاعر العراقي أحمد مطر في عام 1954 في قرية التنّومة على شط العرب في محافظة البصرة جنوب العراق، وفي مدرسة الأصمعي بدأ يسطر أولى كلماته، ليبدأ من بعد ذلك دربا طويلا تمتد على جوانبه معاني الغربة والعزلة.
عزلة لندن.. أحمال المآسي التي أثقلت كاهل أحمد مطر
“أنا في بريطانيا، دولة مستقلة، لست سعيداً لأنني بعيد عن صدى آهات المعذبين، لأني أحمل آهاتهم في دمي، فالوطن الذي أخرجني منه لم يستطع أن يخرج مني، ولا أحب أن أخرجه، ولن أخرجه”. كانت تلك الكلمات الأخيرة التي لخص بها أحمد مطر آلامه، قبل أن يدخل في عزلة طويلة امتدت لثلاثين عاما، حتى آخر ظهور إعلامي له سنة 2014.
قال عنه الكاتب فائق منيف -وهو آخر من حاور أحمد مطر-: كان لقائي معه بعد خروجه من مواجهة مريرة مع السرطان، وكذلك بعد ظهور شائعة موته، وسألته عن سبب هذه العزلة الطويلة، فقال لي: من الخيبات؛ خيبات الوطن العربي الذي ظل لعقود ينادي له بالحرية والكرامة والاستقلال، ولم يتحقق منها شيء، ومن خيبة الأصدقاء، ومن خيبة أفول الربيع العربي قبل أن يبرعم.
أما حمزة عليان، مدير مركز المعلومات والدراسات بجريدة القبس فقال عنه: تعرض أحمد مطر في شبابه إلى أنواع مخيفة من العقوبات، فعندما كان طالبا في المدرسة، طلب منه المعلم أن يكتب قصيدة في ذكرى تموز، وعوقب بالسجن، وبعدها أُعدم شقيقه في عهد صدّام، فهرب من العراق إلى الكويت.
أحمد مطر.. صحيفة القبس الكويتية وشرارة الثورة الأولى
عن بداياته في الكويت يقول د. فالح القريشي وكان كاتبا وصديقا لأحمد مطر: في الكويت عمل بصحيفة الخليج العربي، ثم انتقل إلى القبس، وكان ينشر قصائده فيها، حتى أن المغرب عندما أعادت طباعة ديوانه وزعت منه مليونا ومئتي ألف نسخة، ثم انتشرت شهرته وقصائده في كافة الدول العربية.
ابتكر فنا جديدا غير مطروق في الأدب العربي، وهو اللافتات التي حمَّلها نقدا وتوثيقا لمنعطفات الوطن العربي، ليصير بعد سنوات شاعر التمرد والثورة الذي ترفع كلماته على لافتات النضال.
ويقول د. عبد المنعم الشويلي، الحاصل على الدكتوراه في شعر أحمد مطر: تكون اللافتات بالعادة إرشادية إيجابية أو تأييدية للحاكم، إلا لافتات مطر، فقد كانت احتجاجية ضد الحكام والديكتاتورية، واللافتات عادة ذات مضامين واضحة ورسائل محددة، وكانت لافتات أحمد ذات رسائل عميقة ومضامين جزلة غنية.
“عباس وراء المتراس”.. لافتة كاريكاتورية تسخر من المواطن العربي
يقول حمزة عليان -مدير مركز المعلومات والدراسات بجريدة القبس- عن لافتة “عباس”: “كانت لافتات مطر تتصدر الصفحة الأولى من القبس، وأصبحت بمثابة افتتاحية يومية للصحيفة، وصار الناس يترقبون موعد صدورها، ويتداولون اللافتة اليومية بشغف، حتى صار السؤال المتداول على شفاههم: “هل قرأت اللافتة اليوم؟”.
وكانت أول لافتة نشرها مطر في القبس في آب/أغسطس 1980، وهي ساخرة حد البكاء، وتصف وجودا اجتماعيا لا يملك شيئا غير المفردات، يدّخر أسلحته ليوم الشّدة ولكنه لا يستخدمها أبدا، على الرغم من أنه يعيش الشّدة يوميا:
عباس وراء المتراس … يقظ منتبهٌ حسّاس
منذ سنين الفتح يلمع سيفه، ويلمِّع شاربه أيضا، منتظرا محتضنا دُفَّه.
بلع السارق ضفة
قلّب عباس القرطاس
ضرب الأخماس بأسداس
بقيت ضفة..
لملم عباس ذخيرته والمتراس، ومضى يصقل سيفه
عبر اللص إليه، وحل ببيته، أصبح ضيفه
قدم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه
صرخت زوجة عباس: ضيفك راودني، عباس، قم أنقذني يا عباس، أبناؤك قتلى، عباس..
عباس، اليقظ الحساس، منتبه لم يسمع شيئا، زوجته تغتاب الناس
صرخت زوجته: “عباس، الضيف سيسرق نعجتنا
قلب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس، أرسل برقية تهديد..
فلمن تصقل سيفك يا عباس؟
لوقت الشدة..
إذن اصقل سيفك يا عباس.
أحمد مطر.. تسخير السخرية في هم المواطن البسيط
لا يخلو كمال من نقص، ولا يفلت جواد من كبوة ولا ينجو سيف من نبوة، وهكذا كان أحمد مطر أيضا، إذ يقول فاضل ثامر، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقي السابق: ربما من المؤاخذات على شعر مطر، أنه لم يتأنق بالصور والمفردات الشعرية، بل جاءت لافتاته بسيطة مباشِرة دون تزيين، فقد كان يسكنه هم المواطن العربي البسيط، وكان يريد أن يوصل لافتاته إليه بأبسط صورة، فكانت قصيرة تحمل كل لافتة منها رسالة واحدة غالبا.
كانت لافتاته قصيرة موجعة ساخرة بكوميديا سوداء لم يسلم منها سياسي ولا حاكم، وكانت لسان حال الإنسان البسيط، ونبض كل شريف، يتندر فيها على الحكام الذين يقولون ما لا يفعلون، أو أنهم لا يفعلون أبدا.
لم يكن أحمد مطر هو من ابتدع السخرية في شعره، فقد سبقه إليها فطاحلة الشعراء من قبله، ولكن عندما طغت على شعره -بل وأصبحت هي كل شعره تقريبا- التصق به لقب الشاعر الساخر. والسخرية إنما هي وسيلة للدفاع عن النفس وتحقير للخصم المعنيّ بالسخرية، وهو هنا الحاكم والمستبد والنظام الأمني.
أحمد مطر.. نكبة كامب ديفيد حين “الثور فر من حظيرة البقر”
ظلّ الصراع العربي الصهيوني محور النضال وملهما للشعوب العربية وقرائح الشعراء العرب، حتى جاءت اتفاقية كامب ديفيد، فخرج مطر بلافتة قد تكون أجرأ ما كتب ساخطا على الاتفاقية ومخرجاتها والموقف الرسمي العربي:
الثور فرَّ من حظيرة البقر، الثور فرّ..
فثارت العجول في الحظيرة
تبكي فرار قائد المسيرة
وبعد عام وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور، ولكنْ ذهبت وراءه الحظيرة
تتميز لافتات مطر بالضربة الموجعة الأخيرة، فهو يجر القارئ من حيث لا يدري إلى البيت الأخير الصادم دائما، ليرسل من خلاله رسالته التي أعدها مسبقا مع بداية القصيدة.
أحمد مطر.. حروب الرقابة في وطن واسع يضيق بالحنجرة الحرة
لم يكن أحمد مطر قد أصدر غير ديوانه الأول عندما لاحقته أصوات الرفض الرسمي، وتصدت له عيون الرقباء والمخبرين لقمع ظاهرة صوته الحرّ، حتى أن كثيرا من قصائده كانت توزع سرا -مثلها مثل البيانات السياسية للأحزاب المحظورة- في المخيمات الفلسطينية وفي مختلف المدن العربية حتى في مدن السعودية، وذلك على الرغم من أن قصائده كانت ممنوعة في عشرين دولة عربية، ولم يكن مسموحا بها إلا في الكويت ومصر.
يقول حمزة عليان، مدير مركز المعلومات والدراسات بجريدة القبس: لافتات أحمد مطر كانت تخضع للمراقبة مرتين، الأولى من مديرة الرقابة التابعة لوزارة الإعلام الموجودة في كل صحيفة، والثانية من رئيس التحرير والمدير المسؤول والسكرتير، فكان يرمي قذائفه في وجوهنا ويلقي المسؤولية على عاتقنا، وكان لا يقبل أن نغير حرفا أو فاصلة، فإما القصيدة كما هي أو إلغاؤها كلها.
وبقدر ما كانت القبس في قلبه، فإن ضميره المتمرد لم يحتمل أي نوع من الضغط أو القيد، وحانت ساعة الثورة على المكان الذي استقر فيه فترة من الزمن، فكتب لافتة “حيثيات الاستقالة” التي جاء فيها:
أيتها الصحيفة.. الصدق عندي ثورةٌ
وكذبتي إذا كذبت مرةً.. ليست سوى قذيفة
فلتأكلي ما شئت، لكنّي أنا
مهما استبد الجوع بي.. أرفض أكل الجيفة
إلى أن قال:
أما أنا.. فهذه رِجلي بأمِّ هذه الوظيفة.
أحمد مطر وناجي العلي.. وجهان لعملة رافضة
شكل أحمد مطر مع رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ثنائية فريدة في التعبير عن النضال ورفض الاستجداء والثورة على النظام الرسمي العربي، وكان المواطن البسيط يراهما وجهين لعملة واحدة، وقد اجتمعا في القبس وفي المنفى في مدينة الضباب لندن أيام الغربة والعزلة والقيد، ثم لما مات ناجي العلي في أغسطس 1987 رثاه مطر بقصيدة عمودية متميزة من 118 بيتا، وكانت القصيدة بحد ذاتها ثورة وكسرا للقيود.
وقد قال أحمد مطر في أحد لقاءاته: “لقد أُثقلتُ باستشهاد ناجي العلي”، وقد تكون هذه الحادثة إحدى أهم الأمور التي قرر على إثرها اعتزال الناس والأضواء والإعلام:
عفواً فإني إن رثيتُ فإنما … أرثي بفاتحة الرثاء رثائي
عفواً فإني ميِّتٌ يا أيها الـ … ــموتى، وناجي آخر الأحياء
أحمد مطر.. يصف”فرعون ذو الأوتاد” الذي نكس الربيع العربي
انعزل أحمد مطر جسدا لكن روحه كانت غير بعيدة، وأحاطت بكل أوجاع المواطن العربي المسحوق، وقد عانى من انتكاسات الربيع العربي، وتفرّغ لكتابة لافتاته لكنه لم ينشر أكثرها خوفا من مقص الرقيب أحيانا، وخوفا من تلك الصحف التي لم تجرؤ أن تنشرها لما فيها من نقد لاذع وصريح للحكام. وكانت من أواخرها “فرعون ذي الأوتاد” التي نشرها في القبس في 2014:
ما دُقَّت الأوتاد فينا صدفةً … بل دقها فرعون ذو الأوتاد
وله سوابقه بتصدير الأذى … ليصُدَّه ويعودَ بالإيراد
وله عبيدٌ سادةٌ قد سَوَّدوا … أيامنا من قبل هذا السادي
وإذا كان ذاك المفكر بوقاً يستوي عنده الفكر والحذاء، فإن أحمد مطر لم يكن بوقا قط، بل كان حرا مستقلا ومعتزا بنفسه.