القدس المحتلة- استغل مستوطنون إسرائيليون انشغال العالم بغزة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحاولوا الاستفراد بالحي الأرمني داخل سور القدس المحتلة، لتمرير “صفقة تسريب” قال الأرمن إنها الأخطر والأكثر كارثية في تاريخ الحي.
ووقعت أحدث التعدّيات في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، حيث اقتحم 15 مستوطنا مسلحا برفقة كلابهم قطعة أرض في حي الأرمن يطلق عليها “حديقة البقر” وهدموا جزءا من سور موقف المركبات.
ثم أعادوا الكرّة بحماية شرطة الاحتلال في 15 و16 من الشهر الجاري، والتي أمرت سكان الحي من المسيحيين الأرمن، بالإخلاء الفوري، واعتقلت 3 منهم بينهم فتى قاصر، أبعدت اثنين منهم عن الأرض 15 يوما.
وتصدّيا لتلك التهديدات، يعتصم عشرات المقدسيين الأرمن منذ أسابيع في أرض “حديقة البقر”، تزامنا مع قرارمن البطريركية الأرمنية بإلغاء “صفقة التسريب”؛ وهو مصطلح شائع في القدس يشير إلى العقود السرية أو صفقات بيع تمت خلسة لجهات إسرائيلية أو دولية بغطاء إسرائيلي، ووصول 6 محامين أرمنيين من الولايات المتحدة للدفاع لدراسة القضية وسبل إلغائها.
وإلى جانب الاقتحامات المستمرة لمحاولة الاستيلاء على الأرض، عيّن المستوطنون شركة حراسة قامت بنصب حاجز عند مدخل “حديقة البقر”، ومنعت الأرمن من دخولها أو ركن مركباتهم. وردا على هدم المستوطنين أجزاء من السور المحيط بالأرض، أحاط الأرمن الموقع بالسواتر والعوائق ومنعوا بأجسادهم تقدم جرافات الاحتلال.
صفقتان كارثيتان
ويتحدث أرمن القدس عن صفقتين بارزتين تخللهما الكثير من التفاصيل تفتحان شهية المستوطنين على الأرض، الأولى وقّعتها البطريركية الأرمنية مع بلدية الاحتلال في القدس عام 2020 لتأجير جزء من الأرض، والثانية عام 2021 بين البطريرك الأرمني نورهان مانوجيان وشخص يدعى داني روتمان روبنشتاين لاحتكار قطعة الأرض ذاتها واستثمارها بشكل مشترك بما في ذلك إقامة فندق.
تحدثت الجزيرة نت إلى مستشار شؤون الكنيسة في الشرق الأوسط سايمون أزازيان، لكنه فضل أرسال مقالا موسعا نشره منذ أيام، وصف فيه الصفقة الثانية بـ”الكارثية”.
وأضاف أن مساحة “حديقة البقر” نحو 7500 متر مربع، لكن الاتفاقية الثانية تتحدث عن 11 ألفا و500 متر مربع، أي أنها تشمل منازل 5 عائلات أرمنية، ومدرسة اللاهوت (السيمينير)، والمتحف الأرمني، وموقف السيارات، بمساحة 25% من إجمالي مساحة دير الأرمن كاملة.
وقال أزازيان إن الصفقة تضم بندا يسمح ببيع الأسهم لطرف ثالث من دون موافقة البطريركية، إضافة إلى اقتطاع أراض أخرى مستقبلا “إذا لم تتعارض مع مخططات البطريركية”.
أطراف الصفقة
ووفقا لمستشار شؤون الكنيسة في الشرق الأوسط، فإن أطراف الصفقة من الكنيسة هم بطريرك القدس الأرمني نورهان مانوجيان، ونائبه المطران سيفان غريبيان، ومدير قسم العقارات في البطريركية باريت يريتسيان.
وبينما نفى مانوجيان -الذي جرى تجميد الاعتراف به من قبل الأردن والسلطة الفلسطينية- علمه بها، قال يريتسيان إنها اتفاقية تجارية بحتة، لكنه عُزل وطُرد من الحي وغادر إلى الولايات المتحدة.
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نشرت البطريركية الأرمنية إعلانا يقضي بإبطال الصفقة التي وقّعت عام 2021، لكنها لم تتلق ردا من الطرف الآخر، الذي سارع مؤخرا لتنفيذها ميدانيا وبالقوة.
وقالت البطريركية في إعلامها إن داني روتمان -الذي وقعت معه الصفقة- تظاهر أمام موكلتها، بأنه رجل أعمال أسترالي، ثم تبين لاحقا أنه إسرائيلي من سكان مستوطنة (رعنانا) ولديه تاريخ حافل بالغش والخداع.
وأضافت أن رجل الأعمال “لم يكن إلا وسيطا، إذ أعلن في أبريل/نيسان الماضي نقل 49% من أسهم شركته (زانا) إلى شخص إسرائيلي يدعى جورج ورور، وأنه ينوي نقلها كاملة ليصبح الأخير المالك الوحيد”.
وتقول إن تحقيقات أجرتها موكلة البطريركية أظهرت أن لكلا الشخصين علاقة بجمعية عطيرت كوهنيم الاستيطانية المسؤولة عن معظم عمليات شراء العقارات في البلدة القديمة بالقدس لصالح المستوطنين.
“أرض جدودي هون من آلاف السنين”.. المقدسية الأرمنية هوبيك مارشيليان تبين إصرار الأرمن على حماية أوقافهم وأملاكهم المهددة بالتسريب داخل سور القدس.#القدس_البوصلة pic.twitter.com/0OSPQ8JWTP
— القدس البوصلة (@alqudsalbawsala) November 18, 2023
تجاهل الإلغاء
وحذرت البطريركية الأرمنية -في بيان نشرته في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري- من أنها “تواجه أكبر تهديد وجودي في تاريخها، وأن المطوّر الذي سعى لشراء نحو 25% من الحي الأرمني تجاهل رسالة البطريركية بإلغاء الصفقة وبدأ أعمال الهدم”.
وناشدت الطوائف المسيحية في القدس للوقوف معها، فأصدر بطاركة ورؤساء الكنائس في المدينة بيانا في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بيان تأييد “لبطريركية الأرمن والمجتمع الأرمني في قرارهم باتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة لإلغاء الصفقة”.
منذ أيام يتعرض الحي الأرمني في البلدة القديمة بالقدس لاعتداءات شرطة الاحتلال والمستوطنين، في محاولة لتفريغ إحدى الساحات تمهيدا للاستيلاء على موقف للمركبات يُعرف بـ”حديقة البقر”.. فما القصة؟
للمزيد: https://t.co/CmRvpGvr83 pic.twitter.com/54dBuC85Xi— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) November 18, 2023
الجزيرة نت بدورها توجهت إلى حي الأرمن، وقابلت بعض سكانه المعتصمين في حيّهم ضد تسريب أجزاء منه. وقالت إحدى مواطنات الحي -فضلت عدم نشر اسمها- إنها تدعم الاعتصام وأعدت طبق المجدرة (أرز بالعدس) لإطعام المعتصمين.
وأضافت بانفعال “لم تكن الصفقة لتتم لولا موافقة البطرك، أين ذهبت الأموال؟ هذه الأرض جوهرة، كيف يبيعها ويضر الناس؟ اليوم حتى المطران لا يستطيع ركن سيارته في الموقف، مستمرون حتى استرداد الأرض ولو استغرق الأمر سنوات”.
أما ستراك بليان، وهو أحد الناشطين في الحراك المقدسي الأرمني، فقال للجزيرة نت إنهم يرجحون علاقة المستوطنين بصفقة 2021، مؤكدا أن الصفقة باطلة وغير قانونية، وفق القانون الداخلي للبطرك “لأن أي قرار يجب أن يوافق عيله 30 من الخوارنة (رجال دين) من “مار يعقوب”، الشرطة لم تُرنا أي أمر إخلاء من المحكمة، فقط يأتون كالزعران مع شركات الأمن”.
وجود قديم
وسكن الأرمن مدينة القدس في القرن الرابع الميلادي، وتملكوا حيّا داخل سور القدس جنوب غرب البلدة القديمة بلغت مساحته 300 دونم (الدونم ألف متر مربع) أي سدس مساحة البلدة القديمة.
كما حصل الأرمن على مرسوم اعتراف رسمي من الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي كفل حقوقهم على نقش حجري محفور على مدخل دير الأرمن، كما يضم الحي ثاني أضخم مكتبة أرمنية للمخطوطات في العالم، وأقدم مطبعة في القدس.
وبلغ عدد الأرمن في فلسطين قبل احتلال شرقي القدس عام 1967 نحو 25 ألف نسمة، لكن أعدادهم تراجعت إلى ألف نسمة واقتصرت على الحي الأرمني.
وتكمن أهمية الحي الأرمني في موقعه داخل سور القدس وقربه من الحي اليهودي حاليا، وامتداده بين بابي الخليل والنبي داود، تزامنا مع موجة الاستيلاء على العقارات الإسلامية والمسيحية، وأبرزها صفقة فندقي “البترا” و”إمبريال” التابعين للكنيسة الأرثوذكسية قرب باب الخليل.