قيس قاسم
بتصرف يُعيِد الفيلم الدانماركي “مارغريت.. ملكة الشمال” (Margarete: Queen of the North) الوقائع التاريخية التي رافقت صعود ملكة اتحاد كالمار (الدانمارك والسويد والنرويج) “مارغريت الأولى” ابنة ملك الدانمارك “فالديمار الرابع”، وذلك بأسلوب سينمائي ملحمي يتناسب مع طبيعة الفترة التاريخية التي عاشت فيها (1353-1412)، والتي شهدت بروز قصة غامضة غيَّرت مجرى الأحداث، وعرّضت الملكة لهزة عنيفة لم تكن في حسبانها، وذلك بعد أن ظهر شاب ادعى أنه ابنها الملك الحقيقي “أولوف هوكانسون” الذي وصلها خبر وفاته في سن المراهقة قبل 15 عاما. وحتى تُبقي العرش لمن بعدها تبنت حفيد أختها “إيريك” من بوميرانيا ليصبح ملكا على الاتحاد من بعدها.
ظهور الشاب المفاجئ هز أركان الاتحاد، وأظهر أطماعا دفينة عند قادته الذين أخذوا بالتآمر عليه وكسب ود الملك اليافع “إيريك” إلى جانبهم، وذلك حتى يسهل عليهم قيادة الاتحاد من خلف ظهره، وبذلك يتسنى لهم استعادة سطوتهم التي ظلوا يحرصون على عدم الإفصاح عنها صراحة، خوفا من ظهورهم كمعارضين لتوجهات ملكة حكيمة أقامت مملكة شمالية سادها الرفاه والسلام، وابتعدت عنها أشباح الحروب التي كانت تخوضها دول تلك المنطقة فيما بينها، وأيضا مع غيرها خلال حقب طويلة من القرون الوسطى.
“أولوف”.. عودة الملك الميّت منذ المراهقة
تحيط مخرجة الفيلم الدانماركية “شارلوت سيلينغ” قصة عودة الملك “أولوف” (يلعب دوره الممثل جاكوب أوفتَبرو) بالغموض، توافقا مع الوقائع التاريخية التي تؤكد بأن قصته ظلت مجهولة، فلا أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كان الشاب القادم من المجهول هو الملك الحقيقي، أم أنه شخص محتال ادعى ذلك حتى يعتلي العرش.
هذا على المستوى التاريخي، أما على مستوى النص السينمائي فإن أشياء تحدث في مسار السرد الدرامي لحياة الملكة “مارغريت” (تلعب دورها باقتدار الممثلة الدانماركية ترينه ديرهولم) تشير إلى صحة ادعائه، وذلك توافقا مع الخطة التي وضعها خصومها الألمان ليثيروا بظهوره المفاجئ صراعات وتناحرات على السلطة يستفيدون منها للتوغل إلى أسوار مملكة كالمار والسيطرة عليها.
تلك الحبكة السينمائية تأتي في سياق تدريجي يبدأ من عرض لمكانة الملكة وتفردها كواحدة من الملكات الأوروبيات التي جنحت للسلم ونبذت الحروب، كما وأسهمت في تقديم نموذج حكم جديد على أساسه أقامت مملكة مزدهرة.
يظهر هذا التفرد من خلال مشاهد زيارتها مع حاشيتها وولي عرشها (يؤدي دوره الممثل مورتين أندرسن) إلى مناطق مختلفة من أرجاء الاتحاد، ومن خلال عرض أحوال الناس فيها يظهر المردود الجيد لسنوات السلام على تفاصيل عيشهم.
زيجات ملكية.. مصالح مشروطة ترفضها الملكة
ما رأته عزز ثقتها بنفسها وبسياستها التي أرادت بها منع المطامع والتهديدات الألمانية من الوصول إلى مملكتها. هذا التوجه وأساليب تطبيقه لم يحظَ بقبول مطلق من قبل بقية قادة الاتحاد، فكل واحد منهم يريد الاحتفاظ بقوته لنفسه وفي بلده من دون تقديمه للاتحاد، لكنها وبفضل حكمتها ووضوح رؤيتها أقنعتهم بضرورة المساهمة في تأسيس جيش دفاعي مشترك، الغرض منه حماية المملكة من أي هجوم ألماني محتمل، ولتعزيز ذلك التوجه خططت لتزويج ولي العرش “إيريك” من الأميرة الإنجليزية “فيليبا”، لتضمن مصاهرة تؤمن لها ولولي عرشها تحالفا سياسيا وعسكريا قويا. وذلك في حفل حضور الأميرة الإنجليزية لقلعة كالمار السويدية بصحبة مرافق دبلوماسي محنك تمهيدا لإعلان خطبة الملك لها، وفي انتظار إتمام مراسيم زواجهما بعد بلوغها سن الرشد.
تتبين غلبة المصالح الاقتصادية والسياسية على الزيجات الملكية، ويتأكد أيضا استغلال الدول المتنافسة لتلك المناسبات من أجل التعرف بشكل جيد على ما يجري داخل الممالك من صراعات.
في هذا السياق يظهر تاجر ألماني ظلت الملكة طيلة الحفل تراقب سلوكه لمعرفة نواياه وأسباب حضوره. بعيدا عن الحفل تجري مفاوضات بين الملكة والمرافق الدبلوماسي الإنجليزي بشأن المعاهدة المراد كتابتها بين الطرفين، وعليها يتوقف إتمام الخطبة من عدمها، فقد اشترط المفاوض منح حق اعتلاء العرش للأميرة بعد موت الملك، أي أن الاتحاد الشمالي برمته سيخضع لسيطرة إنجلترا مستقبلا، وهو شرط لم توافق عليه الملكة، فقد كان موقفها واضحا من أن اتحادها سيظل شماليا، وفقط للدول المنضوية فيه.
الخبر الصاعقة.. شاب مُقيد بالسلاسل يدعي أنه الملك
لم يحظ المفاوض بنجاح في مفاوضاته، لكن حدثا جانبيا جاء في صالحه، كما أسعد في الوقت نفسه التاجر الألماني المرسل من قبل قادة ألمانيا.
الحدث الدراماتيكي تمثل بأن أحضر الوفد النرويجي معهم إلى الحفل شابا مقيدا بسلاسل حالته يرثى لها، فقد دفع قائد المجموعة الشاب وطلب منه تقديم نفسه، لكنه لم يكن يجيد أي لغة من لغات دول الشمال، فقال بالألمانية إنه الملك “أولوف” الذي اعتقدت أمه وبقية المملكة بأنه مات منذ 15 عاما.
نزل الخبر كالصاعقة على الملِكة التي رفضت تصديق كلامه، وانقسم قادة الاتحاد فيما بينهم إزاء الموقف منه، فبينما طلب النرويجيون سماع قصته وإرجاعه إلى العرش الذي هو أحق به ما دام حيا، حيث كانت حماستهم متأتية لأن أصول الملك “أولوف” نرويجية؛ اتهمه بقية قادة الاتحاد بالكذب، ووصفوه بأنه محتال يستحق الحكم عليه بالإعدام ودون انتظار.لم تحسم الملكة أمرها، فترددت وطلبت سجنه ريثما تبت في أمره.
وجود الشاب المطالب بحقه يفتح بوابات الخلاف بين قادة الاتحاد، وتكشف صراعات نبلاء المملكة بين بعضهم البعض تاريخا من الرياء ظل مستترا، لكنه تكشف الآن أمام أعين الملكة المصدومة؛ ليس بفعل سلوكهم المشين فحسب، بل بتآمر الكنيسة ضدها، وبشكل خاص رئيس قسيسيها (الممثل سورن مالينغ) الذي كانت تعتبره ذراعها اليمنى ومستشارها الأوثق. لكن الوقائع الخفية المنكشفة أمامها بعد اصطفافه مع خصومها توضح لها مدى خبثه وخيانته لها لصالح الكنيسة التي خططت سرا لتُبقي الكلمة النهائية لها في إدارة الاتحاد، عبر تنصيب ولي العهد “إيريك” ملكا يخضع لأوامر رئيس القسيسين وينفذ وصاياه.
خلال نزولها إلى القبو الذي سجن فيه الشاب وأحاديثها المقتضبة معه وسماعها له يردد ترنيمة كانت تُسمعها له قبل نومه؛ شعرت “مارغريت” بأنه حقا ابنها، لكنها ظلت متشككة غير متيقنة تماما، لأن ابنها كان قد مات صغيرا، أما الذي تراه أمامها فهو شاب ناضج شوّه الوباء بعض ملامحه.
يعترف رئيس القسيسين أمامها بأنه أراد قتل الملك ليتخلص منه، لكنه حين علم أثناء رحلة له معه في أرجاء بعيدة من المملكة بإصابته بوباء خطير كان منتشرا هناك؛ خاف من الاقتراب منه وتنفيذ خطة قتله. لقد ظن ومن معه من المتآمرين أن الصبي قد مات بسبب المرض.
لم يمت الملك، بل ظل حيّا، وحين وصل إلى مناطق ألمانية وتعرف عليه قادتها حرصوا على الاحتفاظ به في السجن من أجل استغلاله في الوقت المناسب لتحقيق أهدافهم في تدمير اتحاد كالمار وملكته “مارغريت”.
“المحتال”.. إعلان الملكة عن ابنها الحقيقي
تكشف تحقيقات الملكة أن التاجر الألماني خطط لمجيء “أولوف” في اللحظة التي وصلت فيها خطيبة ولي العهد إلى كالمار، وأن بعض نبلاء الاتحاد والمقربين منها قد تعاونوا معه على تنفيذ خطة زعزعة أركان المملكة.
تتطور الأحداث بأسلوب سرد سينمائي ملحمي. التمثيل والديكورات كلها مكرسة لخدمة منجز سينمائي تاريخي لا تخفي مخرجته رؤيتها له من منظور أنثوي يقدم الملكة “مارغريت” كنموذج للقيادة النسائية الحكيمة الراغبة في إقامة سِلم حقيقي، لكن الأطماع وحب السيطرة لا تكف عن إحباط طموحاتها، فالضغوط على الملكة قوية من الجهات الراغبة في إعدام “المحتال” والبت النهائي فيما إذا كان هو ابنها أم لا.
في نقطة التصعيد الدرامي تعلن أنه ابنها حقا. موقف يزيد من انشقاق الصفوف، ويُسَرع في إعلان ولي العرش “إيريك” نفسه ملكا على الاتحاد، حيث يطالب بعزل والدته التي اعتبرها منحازة لابنها الحقيقي، وتريد حرمان إيريك من العرش لأنه طفل متبنى.
موقف رئيس القسيسين يحسم الصراع لصالح المطالبين بإعدام “أولوف”، فالأم تعجز عن مقاومة سيطرة حاصلة بالفعل، لكنها تطلب من الملك الجديد أن يكون الحكم عليه بالإعدام حرقا كما توصي التعاليم الدينية التي تعامل المعدوم بهذا الأسلوب كرجل مؤمن وليس ملحدا بالكنيسة وأعرافها.
“مارغريت الأولى”.. اسم راسخ في الذاكرة رغم الانشقاقات
بإعدامه تكاد صفحة جديدة تكتب من تاريخ حلف كالمار يسيطر فيها النبلاء الخونة على مقادير الأمور، وتهدده بالزوال بعد توقيع الملك على معاهدة مع ممثل إنجلترا تنص على تولي الأميرة من بعده الحكم.
في تلك اللحظة يتراجع رئيس القسيسين قليلا عن موقفه الداعم لـ”الانقلاب”، ليس بدافع تأنيب الضمير، بل خوفا من فقدان مصالحه ومصالح الكنيسة التي يمثلها، فينصح الملك بالاستماع إلى والدته.
لقد حافظت تلك الخطوة على وجود الاتحاد ودور الملكة فيه، لكنها في الحقيقة فتحت الأبواب على انشقاقات قادمة لم يصمد بعدها التحالف. ورغم ذلك ظل اسم الملكة راسخا في ذاكرة سكان الشمال الذين أطلقوا عليها لقب “مارغريت الأولى”، وذلك اعترافا منهم بأنها الملكة الأولى التي لم يعرف تاريخهم مثيلا لها، ولم تشهد مدنهم ازدهارا كالذي شهدته أثناء فترة حكمها.
“مارغريت ملكة الشمال” على المستوى الفني فيلم جميل ملحمي الأسلوب ومشوق، يمضي وقته (ساعتان) من دون أن يشعر المشاهد بمروره.
سلاسة سرده وقوة تمثيله وأيضا الميزانية الضخمة المكرسة لإنتاجه والتي تعد من بين أكبر الميزانيات الدانماركية المخصصة لفيلم روائي؛ جعلت منه مرجعا تاريخيا بصريا لسيرة ملكة ما زال البعد التاريخي لاتحادها الذي أسسته في القرون الوسطى حاضرا حتى يومنا هذا بين دول الشمال.