قال مفكرون وباحثون إن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 يمثل شقا جديدا في جدار الصهيونية يضاف إلى شقوق عدة في أساسات المجتمع الإسرائيلي، وإن الحرب على قطاع غزة كشفت عن العقلية الإسرائيلية في “المراوغة” وعدم الالتزام بأي اتفاقيات، وعن توظيف قوة الردع العسكري للتغطية على التفكك الداخلي.
والنظر إلى موقف الحكومة الإسرائيلية الراهن في تعاملها مع القضية الفلسطينية يثبت ذلك، فقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمس الأول الأحد إنه ليس مستعدا لإقامة دولة فلسطينية، ولن يسمح بتسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، وإنه يريد إنشاء إدارة مدنية بالتعاون مع فلسطينيين محليين.
وينظر هؤلاء الكتاب والباحثون إلى موقف نتنياهو هذا بوصفه خلاصة الرؤية الإسرائيلية من ملف المفاوضات مع الفلسطينيين منذ اتفاقيات أوسلو التي بدأت عام 1993، وما تلاها من حلم قيام دولة فلسطينية امتدت مفاوضاتها نحو 30 عاما، ثم توارى الحلم خلف سلسلة من اتفاقيات التطبيع، وتجلت سياسة نتنياهو نفسها في موقفه الحالي من اتفاقيات الأسرى لدى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة.
سياسة المراوغة
وفي هذا السياق، يمكن فهم الموقف “المراوغ” لرئيس الوزراء الإسرائيلي من المفاوضات مع حركة حماس، ففي كل جولة يحرص الإسرائيليون على تسريب معلومات بأن تل أبيب توافق على بنود المبادرة وتنتظر رد حماس التي تفاجئ الجميع بالموافقة المبدئية، فيعود نتنياهو لينسف بتصريحاته كل هذه المبادرات كما فعل منذ يومين.
وفي ذلك يقول الأكاديمي والباحث في الشأن الإسرائيلي مهند مصطفى “إن أسلوب المراوغة استعمله نتنياهو منذ تسعينيات القرن الماضي عندما أفشل اتفاق أوسلو مع انتهاء مدة حكومته الأولى عام 1999”.
وأضاف مصطفى -في مقابلة خاصة مع الجزيرة نت- أن نتنياهو يحاول دائما أن يكون ضبابيا، ويتقدم خطوة إلى الأمام ليكسب الرأي العام الإسرائيلي ويخفف الضغط الدولي، ولكنه يعود ويضع شروطا تعجيزية لا يمكن للطرف الفلسطيني أن يقبلها، كما حدث.
وفي ما يتعلق بالصفقة الأخيرة بين حركة حماس وإسرائيل، أشار المختص في الشأن الإسرائيلي إلى أن نتنياهو لم يخرج ببيان واحد رسمي وصريح بأنه موافق على المقترح الأميركي، لكنه يعتمد على التسريبات وأنصاف الجمل.
الصدمة العسكرية
وفي هذا السياق أيضا، يمكن الوقوف على العقلية المسيطرة على مجتمع اليمين المتطرف في إسرائيل، مع جنوح قادته في توظيف نظرية “الصدمة العسكرية” للتغطية على الإحساس بالتفكك الذي بدأ يتسرب إلى خارج إسرائيل، وصولا إلى جماعات الضغط الأميركية المؤيدة لإسرائيل (أيباك).
يقول الكاتب الأميركي زاك بيشامب -في مقال له على موقع “فوكس” الإلكتروني في مايو/أيار الماضي- إنه مع تحرك حكومة إسرائيل أكثر وأكثر نحو اليمين -وهي أسيرة من قبل المستوطنين المعادين للفلسطينيين- تحركت الحركة المؤيدة لإسرائيل في أميركا معها، تاركة مكانا ضئيلا لأمثالي، واليوم أقضي جزءا كبيرا من حياتي المهنية في انتقاد إسرائيل ضمن اليسار المناهض للاحتلال.
ويضيف بيشامب “عندما كنت في الجامعة في أواخر العقد الأول من القرن الـ21 كنت رئيس مجموعة الحرم الجامعي المؤيدة لإسرائيل في جامعتي، لكنني تخليت عن المنصب بعد فترة وجيزة عقب جدال علني مع أحد أعضاء المجموعة بعد أن أيد الاستيطان في الضفة الغربية، وهو مشروع أراه دائما غير أخلاقي وفاشلا سياسيا”.
ويلخص الكاتب في كلمات معدودة التأييد المطلق لإسرائيل من قبل مجموعات الضغط في أميركا بأنها تقول “إن قادة إسرائيل هم من يحددون ما يخدم مصلحة البلد على نحو أفضل، ويجب على أيباك ونشطائها تقديم الدعم لهذه الأجندة فقط”.
لكن الجامعات الأميركية في الشهور الماضية ضربت بمعول ثقيل سقف “اللوبي” اليهودي في أميركا عندما تضامنت جامعات عدة مع غزة، واعتصم طلاب في هذه الجامعات معلنين رفضهم العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وراح ضحيته عشرات آلاف الفلسطينيين.
العقلية القبلية وفكرة الثأر
من جانبه، يعود الأكاديمي مهند مصطفى إلى بيان الطبيعة التركيبية في المجتمع الإسرائيلي، فيقول إن المجتمع اليهودي قائم على فكرة الانتقام والثأر رغم ما تمتلكه الدولة من مؤسسات سياسية وما يعيشه المجتمع من ديمقراطية خاصة به، لكن إسرائيل تتصرف بمنطق القبيلة الباحثة عن الانتقام، ولذلك جاءت فكرة إحداث صدمة عند الفلسطينيين والتصعيد بالردع إلى آخر نقطة ممكنة.
وعند سؤاله عن أهمية التصعيد على هذا النحو في العدوان على غزة، بيّن مصطفى أن نتنياهو يريد أن يجعل الفلسطينيين يدفعون ثمنا أكبر مما كانوا يتوقعونه عند هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما يمثل رسالة تهدف إلى منع أعداء إسرائيل من التفكير في مهاجمتها.
وفي ما يتعلق بالنتيجة التي تحققت، أشار المختص في الشأن الإسرائيلي إلى أن نتنياهو فشل في تحقيق هذه الأهداف، سواء على الجبهة الفلسطينية أو على الجبهة اللبنانية، وبدل أن يعيد النظر في سياسة الردع العسكري التي يتبعها فإنه يتمادى في التصعيد ويذهب به حتى النهاية.
انهيار الصهيونية
بدوره، يرى الكاتب الإسرائيلي إيلان بابيه أن مستوى التصعيد الذي وصله نتنياهو ضد الفلسطينيين يشير صراحة إلى أن الشقوق لم تعد ظاهرة في جدار الصهيونية فقط، بل وصلت إلى أساسات الدولة الإسرائيلية أيضا التي قد تؤدي إلى انهيار المؤسسات العامة، ولن تكون قادرة على تقديم الخدمات للمواطنين، على حد قوله.
ولكي يبرهن على فكرته فإنه يقول إن “عملية التفكك تبدأ بطيئة ثم تزداد سرعتها، وفي فترة زمنية قصيرة تسقط الهياكل التي كانت تبدو صلبة ومتماسكة”.
وفي مقال له -نشر يوم الجمعة الماضي في مدونة “سايد كير”- يعدد بابيه الأسباب التي دعته إلى تشخيص الوضع الحالي للصهيونية، ومنها:
- أولا- تصدع المجتمع اليهودي الإسرائيلي بين معسكرين:
- معسكر يتألف من اليهود الليبراليين الذين يمثلون الطبقة الوسطى، وكانت لهم الهيمنة السياسية على الدولة منذ قيام إسرائيل عام 1948.
- معسكر “يهودا” الذي نشأ بين المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، ويمثل حاليا قاعدة انتخابية كبيرة أسهمت في فوز نتنياهو بالانتخابات الأخيرة.
- ثانيا- الأزمة الاقتصادية في المجتمع الإسرائيلي
يرى الكاتب أن الطبقة السياسية الحاكمة ليست لديها خطة ناجعة لتفادي الأزمة الاقتصادية وسط الحروب التي يخوضها الجيش، وهذا جعل الاقتصاد العام ينخفض بنسبة 20%، والأخطر من ذلك أنه بعد “7 أكتوبر/تشرين الأول” نقلت بعض النخب الاقتصادية والمالية أموالها إلى خارج إسرائيل.
- ثالثا- العزلة الدولية المتزايدة
فالإبادة الجماعية في غزة جعلت إسرائيل “دولة منبوذة”، ويتجلى ذلك في مواقف محكمة العدل الدولية غير المسبوقة، وتصاعد النقد الموجه من المجتمع المدني العالمي ضد إسرائيل، وتعرض قادتها للاعتقال بتهم جرائم الحرب.
- رابعا- فك الارتباط مع إسرائيل
لقد حدث تغير كبير في آراء الشباب اليهود، وخلال الأشهر التسعة الماضية بدا أن العديد منهم على استعداد للتخلي عن ارتباطهم بإسرائيل والصهيونية، ولا مانع من الانضمام إلى حركات التضامن مع فلسطين كما حدث في مظاهرات الجامعات الأميركية.
- خامسا- ضعف الجيش الإسرائيلي
رغم تمتع الجيش الإسرائيلي بأحدث الأسلحة وقوته في المنطقة فإن العديد من الإسرائيليين يشعرون بأنه كان محظوظا في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، لأن حزب الله اللبناني لم ينضم إلى حماس في هجوم منسق وإلا لظهرت حالة الضعف التي عليها الجيش، وأنه غير قادر على توفير الحماية للسكان اليهود.
- سادسا- الجيل الأصغر بين الفلسطينيين
الفلسطينيون الشباب يمثلون جيلا أكثر توحدا وارتباطا، وآفاقه واضحة مقارنة بالنخب السياسية الفلسطينية، وهذا الجيل سيكون له تأثير كبير في مسار الكفاح من أجل تحرير فلسطين، خاصة مع الحديث عن تشكيل منظمات ديمقراطية حقيقية بديلة عن القائمة الآن.
مرحلة الحسم
من ناحيته، يرى الأكاديمي مهند مصطفى أن نقطة الضعف المركزية في إسرائيل تتمثل في غياب القيادة السياسية المتزنة التي تتمتع بإستراتيجية واضحة وتأخذ بعين الاعتبار المصالح الإسرائيلية على البعدين المحلي والدولي، وهذا ما حققته شخصيات تاريخية مثل رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن عندما تنازل عن سيناء مقابل مصالح إسرائيل الإستراتيجية المتمثلة في عقد سلام مع مصر.
أما نقطة الضعف الثانية -كما يراها الباحث نفسه- فهي الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو انقسام تاريخي ممتد في التراث اليهودي ووعيهم، وهو ما أدى إلى انهيار الممالك اليهودية القديمة في حقبة تاريخية عرفت بـ”حرب الأخوة”، والحرب على غزة أججت هذا الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي.
وختم الباحث في الشأن الإسرائيلي تصريحاته للجزيرة نت بأن المجتمع الإسرائيلي تجاوز مرحلة التوافق بين معسكري الدولة والدين، وأصبح الآن في مرحلة الحسم التي تؤدي إلى تفكك المجتمع وإضعاف إسرائيل من الداخل، لأن الحسم معناه انتصار لفريق واحد وهجرة الفريق الآخر.