لطالما دأبت السينما على تقديم الحضور الملائكي في واقعنا الإنساني، وفق صورة نمطية متخيلة، تبدو مستلهمة بطريقة أو بأخرى من روافد الأسطورة، ودوما ما تأتي تلك الأقصوصات مدعومة بالنهايات المأساوية المقدرة سلفا، فتتكرر التداعيات المحتملة للقاء بين هذا الطيف الملائكي وما يقابله من كيان بشري.
وهذا ما يعاد تدويره سينمائيا على الدوام في أطر استهلاكية المحتوى لا تسعى إلى الابتكار، ومن هذه النقطة المحورية، تنبع أهمية الفيلم السوري التونسي “مزار الصمت” (2023)، الذي كتبه وأخرجه المخرج السوري ثائر موسى.
تتكئ فكرة الفيلم العامة مباشرة على وقائع الانتفاضة السورية الممتدة حتى يومنا هذا، فتستلهم في باطنها تلك الفكرة المكررة، عن هذا الالتقاء الشائك بين الملائكي والإنساني، لكن ما يضفي عليها رونق التجديد، هي تلك المعالجة الدرامية الطازجة، التي تمزج بحرفيتها بين موضوع لا يخلو من الثِقل الجدلي والفكري كالثورة السورية، وبين حداثة التنفيذ المستندة على جموح الخيال.
زواج ليلى والعجوز المنقذ.. قصة مستلهمة من حكايات الثورة
تقيم الفتاة السورية ليلى (الممثلة نور حجري) بأحد مخيمات اللاجئين، وتقدم على الزواج بالعجوز السبعيني زيدان (الممثل محمد بكري)، نظير مساهمته المنتظرة لانتشال أخيها أحمد (الممثل عيسى العيسى) من غياهب سجون النظام السوري. وعندئذ تتحالف معا دوامة المصادفات والأقدار، فتغير دفة حياتها إلى مصير غير متوقع.
هذا ما تدور حوله أحداث الفيلم، فيستلهم توابع الثورة السورية، ويعيد غزلها في سياق سردي مغاير عن المألوف، فإذا كانت الرؤية السائدة في أفلام الأجواء السورية الغائمة بالضباب السياسي مصابة بالدوران المتكرر، فإن تلك النظرة هنا في فيلمنا تُعاد بلورتها وفق سياقات فنية أشد تحررا، وأكثر تحفيزا على شحذ بواعث الفكر.
ولا يقتصر ذلك على النتائج المحتملة لهذا المخاض الثوري فحسب، بل في الامتداد نحو الأعمق، فالمصائر الإنسانية الحائرة بين سندان حرب لا تكاد تنتهي ديمومتها، وبين مطرقة هجرة قسرية، أفضت إلى نشوء تغريبة حداثية التكوين، وهذا الأمر يبدو الفيلم مهموما بالتعبير عنه.
فهل ربح معركة البوح عن هذه الأفكار الكبرى؟ أم أنها ضلت طريقها المرسوم مسبقا؟ لا يمكن إصدار الحكم النهائي مع المشاهد الأولى، لكنها قد تصبح بوصلة كافية، إما للمتابعة والاندماج أو العزوف والابتعاد.
غرائبية الفيلم.. جاذبية تغلف تناقضات المشهد المتأرجح
جنحت بداية الفيلم إلى التغريب في قصدية واضحة للمشهد العام الذي يغلف إطار القضية من ناحية، وللإيقاع بالمتفرج في شِراك الجاذبية المحتملة لما يراه من ناحية أخرى، فالقوس الافتتاحي للأحداث يعتمد على شريط الصوت المتصاعد تدريجيا، ومنه نميز صوت طفلين، أحدهما يعلّم الآخر هجاء الحروف الأبجدية.
ثم ينطلق شريط الصورة بزوايا متوسطة وإضاءة نهارية فاتحة الألوان، راصدا ليلى وهي تصفف شعرها، بينما تحيط بها ستائر بيضاء شفافة، وأخوها أحمد يدور من حولها. ثم ننتقل إلى المشهد التالي المضاد لما سبق، فنرى أجواء مظلمة في ممرات السجن، تؤدي تلقائيا إلى حجرة محصورة المساحة، وفي منتصفها أحمد معلقا بعمود من حديد، والدماء تسيل من جسده الهزيل.
هكذا اختار السرد أن يبدأ افتتاحيته بهذه المشاهد المتتابعة، ومن ثم يبدو الموضوع العام متأرجحا بين رحى تلك الرؤية الثنائية التي تدمج في إطارها الواقع والخيال، أو -بمعنى أكثر دقة- الرؤية الواقعية والنظرة الصوفية التي تحتاج بلا شك إلى تأويل وقراءة متأنية.
خطوط السرد.. تعاسة الواقع اليومي وإلهام الفيوض الصوفية
نسج الفيلم أحداثه لتسير وفق خطي سرد؛ أحدهما واقعي يرصد الوقائع اليومية في حياة ليلى وأسرتها، وما يغلفها من تعاسة محكمة الحصار، وفي المقابل ينشأ خط آخر موازٍ، لا ينتمي للزمن الواقعي، بل يستلهم من الفيوض الصوفية، الأقرب إلى روح الغرائبية والواقعية السحرية، ويتخذها منبعا أصيلا له.
ولأن أسلوب الفيلم يبتعد عن التناول المعتاد، فإنه يلجأ لتقسيم أحداثه على نمط المقطوعة أو السيمفونية الموسيقية، وهي تتكون من 4 حركات: الأولى حركة سريعة أشبه بالمفتتح، تعقبها حركة ثانية تتسم ببطء الإيقاع، ثم تأتي الحركة الثالثة المكملة للإيقاع السابق المتمهل، ويكتمل القوس الموسيقى بالحركة الرابعة التي تحاكي الحركة الأولى في سرعة أدائها.
يتناسب هذا الأسلوب مع الطبيعة العامة للقصة ذاتها، فهي لا تخلو من العذوبة والشاعرية، مع أن المضمون مأساوي، ومن ثم يبدو أن الهيكل العام للسرد، يحتوي بين طياته حداثة ملحوظة، وأصالة لا تخطئها عين المتفرج.
جغرافية الهامش.. سياقات المكان بين المخيم والقرية الجبلية
ينطلق السرد من توابع الثورة السورية، مع أن الأحداث المتدفقة على الشاشة لا ترصد تلك الدراما المشتعلة، بل تتخذ الخطوة التالية ركنا رئيسيا، ومن ثم تصبح للمكان هنا دلالاته، فقد جعل الفيلم البيئة العامة للأحداث تدور بين فكي تلك الأزمة المستعرة.
فتتوالى المشاهد بين إطار مكانين لا ثالث لهما؛ أولهما مخيم اللاجئين، الذي ترافقه الكاميرا في جولة حرة تكشف جانبا من المعاناة اليومية لهؤلاء النازحين، وثانيهما القرية الجبلية التي ستصبح موضع الإقامة الدائمة لليلى.
ويكمن المشترك بين هاتين البيئتين في أنهما تنتميان إلى الهامش، وقد لجأ فريق الفيلم إلى التصوير في تونس، بعيدا عن القبضة السلطوية للنظام السوري، الذي سيقف بالمرصاد أمام محاولات إتمام العمل وخروجه للعرض.
تجاهل السلطة.. عراقيل سينمائية تدفع الأحداث
من خلال خيوط القصة، ندرك شظايا الصراع السياسي المتأزم الذي يدور في الخلفية، بينما تنعكس تأثيرات تلك التفاعلات على الشخصيات التي لا حيلة لها في اختيار مصائرها، ولا قرار لها في انتقاء أماكنها، التي تتواءم بطريقة أو بأخرى مع ما تعانيه، فالمكان وقاطنيه يتوافق كل منهما مع الآخر.
وعندها يضع السيناريو عراقيل إضافية تدفع الأحداث إلى الأمام، وتدفع الشخصيات كذلك للتحرر من أسر حصارها المكبوت نحو آفاق، قد تبدو أكثر رحابة ظاهريا، لكنها تبطن عكس ما تظهر، ففي تلك الأجواء الهادئة خارجيا، ثمة ما يشعل النوازع الداخلية.
فبعد أن تتزوج ليلى وتنتقل إلى منزل زيدان، فإنها تصاب بالبكم المؤقت، فتختار الصمت والانزواء في البعد، ولا تعير أهمية لسلطة الزوج التي تبدو شديدة الحضور في هذا المجتمع.
ومن ثم تتناسب هذه السلطة الذكورية البطريركية مع هامشية المكان، مع أن السرد لا يكشف عن دوافع هذا الصمت الاختياري، لكن مع تدفق الأحداث واندفاعها نحو ذروتها المحتملة، يمكن تأويل دلالات هذا القرار القسري، التي تحوي بين ثناياها رؤية مغايرة للصراع.
لقاء الملاك والإنسان.. زواج صامت ينتهي بمأساة مباغتة
بعد أن تنطلق الحركة الأولى من السرد، تباغتنا الحركة الثانية الأبطأ، فتتمحور فيها الأحداث وتتشكل وتتشعب بصورة أكثر إيضاحا، ففي هذا الشق الدرامي، نتابع زواج ليلى وزيدان وأيامهما الأولى المغلفة بسياج متين من الصمت، اختارته ليلى قسرا.
وفي المقابل يرتدي زيدان رداء الصبر أحيانا، وتستعر ثورة غضبه المستحقة أحيانا أخرى. وضمن إطار هذه السجالات المتكررة، يرسم السيناريو علامات صراعه الدرامي المبتكر، الذي يمكن القول إنه يدور بين سماوية الملائكي وأرضية الإنساني.
وبهذا التضاد، يحيل الفيلم قواعد الصراع السياسي المشتعل، إلى درجة أعلى وأسمى تستلهم من التراث الصوفي ما يكفي ويفيض، وبذلك يطعّم السرد بدلالات رمزية يمكن تفكيك شيفراتها الفنية، للوصول إلى مقاصدها المبتغاة، فكل من الشخصيات المحورية الثلاث -ليلى زيدان وأحمد- ما هي إلا إشارات لها مرجعتيها القائمة في العالم الواقعي، وكلما توغلنا أكثر في سردية الفيلم، نجد دلالاتها تتفكك ذاتيا.
يقدم النص شخصية ليلى ذات كناية ملائكية، وقد ساهم الخط الدرامي الموازي في تدعيم هذه الصفة السماوية عليها، ففي عدد من المشاهد نراها محاطة بإضاءة نهارية متلألئة البريق، وفي المقابل يبدو زيدان محاصرا بالإضاءة الخافتة.
يكشف البناء الدرامي بأفعال شخصياته أبعاد هذا الصراع، فليلى وزيدان ينتميان إلى حيزين متباعدين، أحدهما يتوارى خلف أركان عالم غير إنساني، تبدو فيه السطوة والنفوذ للقيم الروحانية، في حين يقبع الآخر بين جدران عالم أرضي محدود الرؤية، وبين هذا وذاك، يركض كل منهما وراء الآخر ويركض عنه في نفس الآن، في مصفوفة تكرارية لا نهاية لدورانها المتشعب.
ثنائية القط والفأر.. كرٌّ وفر يستحضر سطوة شهرزاد الحكائية
مع تقدم السرد واندفاعه للأمام نصل إلى الحركة الثالثة، وتبدأ بعد مرور 3 سنوات على الزواج، لكننا نباغت بوفاة ليلى المفاجئة، وهي نتيجة حتمية لهذا اللقاء بين الطيف الملائكي والماهية البشرية.
ففي هذا الحيز السردي، يحل أحمد ضيفا على رقعة الأحداث بعد تحرره من الأسر، فيصل إلى المخيم، وحين يباغت بما جرى يندفع نحو زيدان بغرض الانتقام، وهنا ينزع الفيلم هويته السينمائية مؤقتا ويتجه طواعية إلى فضاء التقاليد المسرحية، حيث اللجوء إلى الحوار المطول بين زيدان وأحمد.
فعندما يصل إلى منزل زيدان، يعرض عليه أن يسرد ذكريات ما جرى لأخته، وكأنه يؤجل لحظة رحيله المنتظرة، في استعارة لسطوة الحكي لدى شهرزاد التي تروي لتبقى، وهنا نرى شيئا مماثلا، فيحضر التماس بين تراث الماضي وحداثة الحاضر.
أيقونة القرية.. رمز ديني يقدم دعما خارجا عن المألوف
يشرع زيدان في رواية يوميات حياته السابقة، التي بدأت بعد وصول ليلى إلى القرية الحدودية، فهناك استعانت بذاتها في مواجهة هذا العالم البعيد عنها، ولاذت بجدران التجاهل والصمت بالتوازي مع الزيارات المنتظمة لمقام الولي الشيخ مسعود، ومن ثم تجلت صفاتها النورانية على من حولها.
وعند تلك النقطة يسهب السرد في مشاهده الاستطرادية بتقنيات الاستحضار (فلاش باك)، وفيها يعرض قبسات من دعمها المعنوي الخارج عن المألوف لأهالي القرية، مما جعلها فيما بعد رمزا دينيا يستحق الزيارة والتبجيل.
وهكذا نتابع هذا الحوار الكاشف الدلالة بينهما، ويستغرق على الشاشة قدرا لا بأس به من الحيز الزمني للفيلم، وينتقل فيه بين الماضي بتفصيلاته المكثفة والحاضر بأعبائه النفسية، وكأن زيدان وأحمد يمارسان لعبة القط والفأر التي تحتم قواعدها الهروب قبل تمام الاقتراب.
ومن ثم يمكن أن نقارب هذا النموذج على العلاقة بين زيدان وليلى، فقد اعتمد السيناريو على وضع الشخصيات في هذا الوضع المحاصر، وكأنه إشارة سينمائية لحصار سياسي خارجي، يمارس على نطاق أوسع وأكثر شمولا.
تماس التعبير البصري والبناء الدرامي.. رمزيات اللغة السينمائية
تتدفق مشاهد الفيلم في متوالية حكائية مشدودة ومحكمة الصياغة إحكاما شديدا، حتى تصل إلى الحركة الرابعة من المقطوعة الفيلمية، وهي تتميز بالسرعة الإيقاعية، بعد أن تزيح الحكايات المتداولة عن ليلى الستار عن غموض حياتها، ويتجه أحمد إلى قبرها المستكين أسفل جذوع الأشجار الوارفة.
وهنالك يتلاقى القوس الافتتاحي للفيلم بما يوازيه من قوس مقابل، حيث الامتزاج بين خطي الفيلم؛ الواقعي والغرائبي، وفي هذا الإطار نرى أحمد يلتقي ليلى، ويدور حولها كالمولوية في مشهد متخيل.
وبذلك تكتمل حركات الفيلم الأربع، فهذا البناء الدرامي الشاعري الحساس، ينبغي أن يتماس معه التعبير البصري والإخراجي، ولا يقل عنه عذوبة، والحقيقة أن عناصر الصورة والتكوين والألوان الدالة على الحالة النفسية للشخصيات، تعبر عن إتقان لرمزيات اللغة السينمائية، التي تبدو هنا في فيلمنا حاضرة بوضوح وجلاء.
بناء الفيلم.. رمزية تجسد واقع سوريا الحائرة
نرى في عدة مشاهد انعكاس الشخصيات أمام المرايا الزجاجية، وهي تكشف عن الشخصية بقدر ما تزيح ما يغلفها من غموض، وتدفع إلى الغوص على نحو أكثر اتساعا في ذاتية الشخصيات ودواخلها المستترة.
فقد طعّم الإطار للعام للفيلم بمسحة صوفية شاعرية، أسهمت في تخفيف وطأة موضوعه، فقد اعتمد الأسلوب الإخراجي على صهر المكونات الفنية، من عناصر بصرية وصوتية معا، وتوظيفها دراميا في وحدة واحدة، تخدم جميعا الموضوع الرئيسي، فنحن أمام فيلم يتناول الأزمة السورية وتداعياتها على اللاجئين تناولا صريحا.
ومع أن أسلوب الفيلم يجنح نحو الرمزية، فإن بعضا من المباشرة لا يضر، مثل ما نرى في المشهد الحواري المطول بين زيدان وأحمد، وكل منهما يحمل ذاته مسؤولية فقدان ليلى، فالدلالة واضحة للشخصيات الثلاث، ألا وهي سوريا الحائرة الممزقة بين سطوة وسيطرة سلطة قديمة مدنسة بشوائبها، وبين عنفوان وجموح شباب يبحث عن حقه في عالم جديد مثالي.
وفي هذا السياق يقول المخرج الروسي الكبير “آندريه تاركوفسكي” عن الفن: لا تولد التحفة الفنية إلا حين يكون الفنان صادقا تمام الصدق في معالجته لمادته.
وبنظرة بانورامية متأنية، يمكن الوصول إلى يقين راسخ بأن الفيلم عبّر تعبيرا سلسا عذبا عن أفكار صانعه، وهي بلا شك تشكل حيزا لا بأس به من همومه الذاتية، تلك الهموم التي تبعث على التفكير والتأمل، لا في النطاق الحصري لأزمة الشتات السوري فحسب، بل نحو القدرة المفتوحة للزمن على ممارسة ألاعيبه وحيله في تبديل مصائر البشر، من هذا الحال إلى ذاك في لمحة عين، فهكذا تكون السينما الخالصة.