استُدعيت العداءة الجنوب أفريقية “كاستر سيمينا” بعد ساعات قليلة من تجاوزها الرقم العالمي للركض (800 متر) إلى المختبر الطبي التابع للاتحاد الدولي لألعاب القوى، لإجراء فحص فوري، وقد علمت بعد خروجها منه أنها لم تخضع لفحص روتيني له علاقة له بالمنشطات المحظورة بل بموضوع مختلف تماما يتعلق بالتحقق من نسبة وجود هرمون تستوستيرون (هرمون الذكورية) في جسمها، ووفق ذلك سيُبت في صحة مشاركتها في مسابقات النساء من عدمه.
الفحوصات الطبية لتحديد نوع جنس الرياضية وفق نسبة الهرمون الموجود طبيعيا في جسمها، والضغوطات التي تقوم بها الاتحادات الرياضية الدولية لإجبار بعض الرياضيات على إجراء عمليات جراحية لتقليل نسبته، والتهديد بحرمانهن من ممارسة الرياضة إلى الأبد في حالة رفضهن القيام بذلك، كل ذلك أثار فضيحة متعددة المستويات سُميت بـ”فضيحة تستوستيرون”.
يهتم الوثائقي الألماني “معركة الجنس: النساء المُبعدات من الرياضة” (Kampf Ums Geschlecht – Die Verstossenen Frauen Des Sports) بهذه القضية ويستقصي تفاصيلها، لكنه يقترح الدخول إليها من بوابة الرياضيات المبعدات ورصد الآثار التي تركتها قرارات الاتحادات الرياضية على حياتهن، عبر قصص لعداءات من بلدان وبيئات ثقافية مختلفة.
نسبة هرمون الذكورية.. عقدة التكوين الخلقي
بدأ فحص نوع جنس الرياضي عام 1936، وأريد به وضع خط فاصل بين الرجال والنساء. من بين أكثر المسوغات الأخلاقية والقانونية التي تستند عليها الاتحادات الرياضية في فصلها الجنسي، ولم تتوقف عن التعكز عليها منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا “تحقيق العدالة وأخذ كل نوع حقه”.
وضعت الاتحادات الرياضية قوانينها وقواعد عملها على أساس الفصل بين الجنسين في المسابقات، وأدرجت تناول المنشطات التي تسهم في تحسين أداء الرياضيين ضمن خانة الممنوعات باعتبارها وسيلة خارجية لا تندرج ضمن عوامل التقوية الجسدية المكتسبة بالتمرين المستمر.
تظهر خارج هذا الحيز عقدة الهرمونات الذكورية عند الرياضيات التي تزيد من قوتهن الجسمانية، من دون عوامل مساعدة، إنها جزء من تكوين طبيعي، خُلقي لم يتدخلن في وجوده ولا في مقداره.
إخفاء هرمون الرجل الذي بداخلك.. عملية جراحية إجبارية
للتخلص من المأزق القائم، ودون التعرض للمُساءلة الأخلاقية والقانونية يلجأ مسؤولو الاتحادات لحله عبر إجبار الرياضيات على إجراء عمليات جراحية للتقليل من وجوده في أجسادهن، دون اعتبار للنتائج الكارثية المترتبة على ذلك.
هذا ما عملت على فضحه المخرجة “أولغا سفيردنيكو” وبمساعدة المخرجين “أدموند فيليسن” و”حاجو سيبيل” من خلال متابعتهم لمجموعة من الرياضيات المبعدات، كشفن لهم أساليب الاتحادات الملتوية والمحاطة بسرية تامة والمبرَرة دوما بقوانين وقواعد مكتوبة.
كما يكشف كيف تجاهل المسؤولون الآثار التدميرية التي يمكن أن تتركها قوانينهم على المُبعدات من ممارسة الرياضة دون ذنب، ولم يأخذوا بنظر الاعتبار المشاكل الاجتماعية والفضائح التي يمكن أن تواجهها الرياضية التي يُشار إليها كامرأة مزيفة أخفت بتعمد الرجل الذي في داخلها.
جثة في قعر بئر.. انتحار خوفا من الفضيحة
يذهب الوثائقي إلى قرية سادغال في الجزء الغربي من الهند، ليقابل عائلة العداءة “براتيما غاونكار”، التي وجدت جثتها مرمية في بئر قريب من البيت.
الحديث عن موتها شبه محظور، تتذكر الأم الأيام الأولى لنجاح ابنتها التي حصلت على عدة ميداليات في سباقات الركض للناشئين، ولكنها فجأة توقفت عن ممارستها وانزوت في البيت لا تغادره أبدا.
أعلن شقيقها بعد أيام من وجود الفريق معه بعض التفاصيل التي تخص انتحارها، أكد أن مدربها طلب منها إجراء فحصوصات لقياس هرمون تستوستيرون، وبعد مدة أبلغها بقرار الاتحاد الهندي بإيقافها من اللعب، وعلى إثرها انعزلت في البيت ولم تكلم أحدا، وكانت خائفة من كلام أهل القرية في حال سماعهم أمر الفحوصات، وبعد أيام وجدوها جثة هامدة في قعر البئر.
يقابل الوثائقي محامية مختصة بقضايا الرياضيات المُبعدات اللواتي يعاملن معاملة سئية ما إن ينتشر خبر إخضاعهن لفحوصات قياس الهرمون الذكري، وبحكم تجربتها تعرف تماما مشاعر الخوف التي تنتابهن ومحاولة تحاشي نظرات الناس القاسية لهن، وكأنهن ارتكبن أفعالا مخجلة.
“كاستر سيمينيا”.. جرأة تحدي المنظومة القائمة
خضعت العداءة الجنوب أفريقية “كاستر سيمينيا” عام 2009 بعد فوزها بعدة ميداليات ذهبية لفحوصات قياس الهرمونات، وذلك إثر تسريب التقارير الطبية لوسائل الإعلام، وقد بدأت الإشاعات حولها بالانتشار: هل هي رجل أم امرأة، لماذا كذبت وأخفت حقيقة جنسها؟ وغيرها من الأسئلة المتضمنة تهما.
بعد رفضها العلاج الهرموني الذي طلب منها الاتحاد الدولي لألعاب القوى إجراءه، تقرر نقل مشاركاتها من سباقات المسافات المتوسطة (800 متر) إلى الطويلة (2000 متر) بحجة الإنصاف وعدم غبن بقية المشاركات السويات.
لم تتوقف عند رفضها العلاج المقترح بل هاجمت اللجنة وطالبتهم بمحاسبة متناولي المنشطات ومراقبتها بجدية بدلا من ملاحقة آخرين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا وفي أجسامهم نسبة عالية من الهرمون. المفارقة أنه ومع كسبها الدعوى التي قدمتها ضد الاتحاد أمام المحاكم المختصة إلا أن الاتحاد ظل متمسكا بقوانينه وقواعده ولم يجرِ أي تغيير فيها.
خرق حقوق الإنسان.. صوت تضامني من الداخل
وقف إلى جانب “كاستر” في صراعها مع إدراة الاتحاد عدد من المختصين والمدربين من بينهم مدرب ألماني، دفعته تجربته مع مثيلاتها للوقوف أمام كاميرا الوثائقي والمجاهرة بموقفه الرافض للتمييز الممارس ضد الرياضيات.
وصف المدرب الألماني الإجراءات والقواعد بأنها خرق لحقوق الإنسان واعتداء على الخصوصية الجسدية لا سيما وأنهن لم يتناولن منشطات، ولم يخرقن القواعد المُنظِمة للألعاب الأولمبية.
من بين ما كشفه المدرب أن مثل هذه الضغوطات والتهديدات ليست حصرا باتحادات ألعاب القوى، بل هي موجودة وممارسة في كل الرِّياضات ومن بينها كرة القدم، فـ”الفيفا” لديه تقريبا نفس القواعد المعمول بها في بقية الاتحادات الرياضية.
بالأسود والأبيض.. دواخل مضطربة لضحية صامتة
إذا كانت الرياضية الجنوب أفريقية قد سمحت لها ظروفها بالخروج العلني ومواجهة مؤسسات كبيرة فإن “لارا” (اسم منتحل خوفا من كشف هويتها) قد اختارت الانطواء والعزلة وعدم البوح خوفا على سمعتها وعدم تفهم المقربين لها.
تعيش لارا في بلد لا تسمح عاداته وتقاليده بوجود شابة توجه لها تهمة الرجولية، لهذا صمتت طويلا ولم تحكِ قصتها إلا حين جاء فريق العمل وقابلها بسرية.
لجأ الوثائقي في محاولة منه للمساعدة في نقل قصتها إلى الرسوم المتحركة وسيلة للتعبير عن دواخلها المضطربة، جسد بالأسود والأبيض قصة مؤلمة لرياضية تحطمت أحلامها حين ضغط عليها الاتحاد الأولمبي وأجبرها على إجراء عملية جراحية.
استئصال أجزاء داخلية.. عملية خداع بشعة
فندت تجربة “لارا” ادعاءات مسؤولي الاتحادات الأولمبية، وإصرارهم على الإعلان أمام الملأ بأنهم لا يجبرون ولا يهددون الرِّياضيّ على إجراء عملية جراحية، بل يتركون الأمر له ليبت فيه.
قصتها مؤلمة لكونها لم تعِ ما كان يُخبئ لها هؤلاء، حين هددوها بالتوقيف عن ممارسة الرِّياضة إذا لم تقبل بإجراء العملية، واشترطوا عليها في حالة موافقتها الالتزام بالسرية وعدم إخبار أحد بها، وقد قبلت وذهبت إلى بلد أوروبي حيث أجريت لها العملية، مصدقة قول الأطباء بأنها بسيطة ولا تحتاج إلى استئصال أجزاء داخلية من جسمها، بعد خروجها وجدت نفسها قد تعرضت لعملية بشعة، تبعاتها ستظهر عند عودتها إلى وطنها.
لم تبرح الآلام جسد لارا وفقدت توازنها في السير، ولم يتحسن أداؤها في التدريب، ومع الوقت تراجع مستواها فتوقفت عن المشاركات الرياضية، وأصيبت بحالة من القنوط والانطواء.
“أنيت نيجيسا”.. عداءة تصبح فأر تجارب
تشبه قصة العداءة الأوغندية “أنيت نيجيسا” قصة “لارا” في النتائج، لكن تفاصيلها مخيفة وتكشف عن ممارسات غير أخلاقية، فقد كشفت للوثائقي أنها اكتشفت بعد خضوعها لفحص طبي في دولة أوروبية أن الهدف منه لم يكن طبيا يخص حالتها، بل يأتي ضمن تجارب سرية يقوم بها أطباء عاملون في اللجنة الأولمبية الدولية على رياضيين نسبة الهرمونات الذكورية عالية في أجسادهم.
يستقصي الوثائقي تفاصيل ما روت العداءة، ويتوصل إلى أنها قد جرى التعامل معها كعينة مختبرية ضمن سياق بحث سري أشرف عليه أطباء أحيط عملهم بالكتمان.
لقد عاملوها كفأر مختبر دون أن يخبروها بحقيقة ما تتعرض إليه، أُجريت لها العملية في بلدها وانتزعت أجزاء من جسمها، تعطلت بسببها قدراتها الجسمانية فتركت الرياضة وانطوت حزينة محبطة.
كشف الخفايا.. أصوات تصل الأمم المتحدة
يكشف الوثائقي عن أسرار الدراسة الخاصة التي أريد بها التحقق عمليا من نتائج العمليات الجراحية، ومن دون إخبار الأشخاص الخاضعين لها بحقيقتها، مستخدمين أساليب تضليل تَحرِم الضحية -بعد توقعيها على أوراق ملتبسة الصياغة- من حقها في الحصول على تعويضات أضرار جسدية ونفسية.
تطوع عدد من الأطباء والنشطاء الحقوقيين للدفاع عن ضحايا عمليات تقليل هرمون تستوستيرون، ونتيجة لربطهم بين الإجراءات غير المبررة علميا لانعدام وجود حاجة طبية تفرضها، وبين الأضرار التي تلحق بضحاياها؛ وصلت أصواتهم إلى الأمم المتحدة فأصدر قسم حقوق الإنسان فيها توصيات للاتحادات بالكف عن تهديد الرياضيين الذين توجد في أجسادهم نسبة عالية من الهرمون الذكوري.
لا يغلق الوثائقي عدسته بل يمر على الحالات التي وثقها ليُذكر بفداحة خسارتها، وليعرض سريعا نتائج تحقيقاته عن التجارب السرية التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من الجهد لكشف خفاياها، وبهذا يترك الموضوع الذي جاء من أجل رصده مفتوحا، قابلا لمزيد من البحث والتقصي.