في 26 يونيو/حزيران 1998 ألقى كوفي عنان -الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك- كلمة أمام المؤتمر السنوي لمؤسسة ديتشلي في المملكة المتحدة، مقترحا يقضي بالاستعانة بشركات أمن خاصة لإكساب المنظمة الدولية سرعة رد الفعل التي تفتقدها.
وقد ضرب عنان مثالا في كلمته عن نجاح شركة “النتائج الحاسمة” الجنوب أفريقية في إنهاء حرب أهلية استمرت سنوات في سيراليون وإعادتها الرئيس المنتخب إلى منصبه. وكشف عنان عن توجه للاستعانة بشركة خاصة خلال أزمة اللاجئين الروانديين في غوما لفصل المقاتلين عن اللاجئين، إلا أن الرجل أدرك أن “العالم قد لا يكون مستعدا لخصخصة السلام”.
وبعد مرور 26 عاما، وبعد العديد من الصراعات المسلحة الدامية، يبدو العالم أكثر قابلية لطرح عنان، وخاصة مع تزايد حضور “الجيوش الخاصة” لشركات الأمن على الساحة الدولية، سواء في دعم جيوش نظامية أو محاربتها.
منذ ميلاده في العام 1948 ظل مفهوم حفظ السلام حجر الزاوية في النظام الدولي. ومع خواتيم الحرب الباردة، اكتسبت عمليات حفظ السلام مجددا زخما قويا، حيث احتضنت إطارا أوسع لمفاهيم الأمن.
وقد عكس هذا النهج الجديد طموحات الأمم المتحدة في توسيع نطاق عملها، ومن ثم بدأ مجلس الأمن الدولي في إصدار قرارات ما يسمي بـ”الجيل الثاني” لعمليات حفظ السلام. بينما كان الهدف الرئيسي من “الجيل الأول” هو مراقبة اتفاقيات وقف إطلاق النار، فإن “الجيل الثاني” معني -بالإضافة لعمليات المراقبة- بمعالجة أسباب الصراعات، من خلال ما سمي بـ “بناء السلام” تقوم عليها بعثات أممية توصف بـالـ”متعددة الأبعاد”، ولكن بعد عقود من العمل في أفريقيا، فشلت تلك البعثات في تحقيق العديد من أهدافها، بل أثارت كراهية السكان المحليين.
الإخفاقات الكبرى في عمليات حفظ السلام
وسط تحولات الجغرافيا السياسية على المستوى الدولي، يزداد تأثر مستقبل بناء السلام بالتطورات في أفريقيا، التي استأثرت منذ العام 2000 بنحو 13 بعثة حفظ سلام أممية قوامها 90 ألف موظف، بما يمثل 80% من العناصر الميدانية للأمم المتحدة، منها 4 عمليات هي الأضخم، والتي تستهلك جل الميزانية البالغة 6.1 مليارات دولار للسنة المالية 2023-2024.
خلال السنوات الـ 15 الماضية شهدت القارة تغيرات جذرية في المشهد الأمني، منها الانقسام في ليبيا عقب سقوط نظام القذافي، وما تلاه من عدم استقرار امتد لأنحاء بمنطقة الساحل، وانعكس على مؤشر الإرهاب العالمي للعام 2023 الذي ارتفع من حيث عدد ضحاياه في المنطقة بنسبة زادت على 2000% منذ العام 2008، بجانب انتشار الحركات “الجهادية” في غرب وشرق أفريقيا.
كما زاد عدد الانقلابات العسكرية في غرب القارة ومنطقة الساحل مؤخرا، مع اندلاع حروب في إثيوبيا والسودان، وتجددها في الكونغو الديمقراطية.
في الوقت ذاته قوبلت جهود بعثات حفظ السلام الأممية بردود فعل عنيفة من بعض الأنظمة الأفريقية. ففي يوليو/ تموز 2023 طلبت مالي من الأمم المتحدة إنهاء مهمتها في البلاد، بعد أن اتهم المجلس العسكري الحاكم في مالي القوات الأممية بمفاقمة التوترات. كما ألقى المجلس العسكري الحاكم اللوم على البعثة الأممية بالفشل في حماية المدنيين. ومن المتوقع أن يؤدي رحيل البعثة بقوتها البالغة 13 ألف جندي -وهي الأضخم تمويلا في أفريقيا- إلى تعقيد إضافي لمشهد حفظ السلام بالقارة.
يذكر أن هذه البعثة المسماة (مينوسما) تأسست في العام 2013 في أعقاب انقلاب عسكري عام 2012 نجم عنه ظهور حركات تمرد انفصالية في شمال مالي. وبعد انقلابين آخرين عامي 2021 و2022 وانسحاب القوات المشاركة في عملية برخان الفرنسية وفرقة تاكوبا التابعة للاتحاد الأوروبي، غادرت البعثة البلاد في أبريل/ نيسان 2023 فاسحة المجال لشركة فاغنر العسكرية الروسية.
وقد حذت الكونغو الديمقراطية حذو مالي، عندما طالب رئيسها فيليكس تشيسيكيدي في سبتمبر/أيلول من العام 2023 بانسحاب عاجلا لبعثة الأمم المتحدة من بلاده، والتي يشار إليها باسم (مونوسكو).
حققت بعثات السلام بعض النجاحات، مثل ما حدث في ليبيريا، لكنها شهدت العديد من الإخفاقات، وكان أبرزها في رواندا في العام 1994 عندما فشلت قوات الأمم المتحدة في منع الإبادة الجماعية ضد التوتسي، مما أسفر عن مقتل 800 ألف رواندي.
حقائق وأرقام
جمهورية الكونغو الديمقراطية
ترابط بعثة حفظ سلام أممية في الكونغو الديمقراطية منذ عام 1999. وفي العام 2022 اندلعت احتجاجات عنيفة ضد البعثة مما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين وموظفين أممين. واتهم المتظاهرون البعثة بالفشل في حماية السكان من هجمات تشنها عدة جماعات مسلحة في شرق البلاد. مؤخرا، توصلت الأمم المتحدة والكونغو الديمقراطية إلى اتفاق تنسحب بموجبه البعثة مع بقاء قوتين إقليميتين، إحداهما تحت قيادة جماعة شرق أفريقيا والأخرى تحت قيادة مجموعة دول تنمية الجنوب (سادك).
جمهورية أفريقيا الوسطى
تأسست عام 2014 بعثة أممية أخرى متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار تسمى (مينوسكا) في جمهورية أفريقيا الوسطى بنحو 17 ألفا من عناصر الأمم المتحدة. وبعد فترة من التحسن، تدهورت الأوضاع الأمنية مرة أخرى اعتبارا من 2017 بسبب تصاعد العنف والانقسام السياسي.
وفي عام 2018 تدخلت روسيا عبر شركة فاغنر لدعم وحماية الرئيس فوستين آركانج تواديرا ومساعدته في استعادة الأراضي التي سيطرت عليها الجماعات المتمردة. كما تقوم فاغنر بتدريب الجيش مقابل منحها امتيازات تعدين الألماس.
في الوقت ذاته، وقعت رواندا -المساهم الرئيسي بقوات البعثة الأممية- اتفاقا ثنائيا مع حكومة الرئيس فوستين لنشر قوات إضافية.
وفي مالي، وقعت احتجاجات شعبية عنيفة ضد بعثة الأمم المتحدة، وذلك قبل أن يجدد مجلس الأمن تفويض بعثة (مينوسكا) حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وتشير أصابع الاتهام إلى فاغنر الروسية في إثارة هذه الاحتجاجات، بهدف إخراج البعثات الأممية من الدول التي تعمل بها الشركة للاستحواذ على مواردها الطبيعية.
ولعل ذلك يعيد إلى الأذهان دعوة كوفي عنان في كلمته عام 1998 للاستعانة بشركات أمن خاصة تعمل وفق ضوابط الأمم المتحدة ليس فقط توفيرا للنفقات، ولكن لمنع هذه الشركات من تخريب عمل بعثات المنظمة الدولية.
نماذج أمنية بديلة
تعتبر عمليات حفظ السلام واسعة النطاق معقدة وتتطلب تمويلا كبيرا، وفي الوقت نفسه، فإنها تمثل فرصة للدول المشاركة فيها الحصول على الدعم المالي وتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي والارتقاء بقدراتها العسكرية.
وفي الجانب الآخر، فإن تعاظم حجم البعثات الأممية ينجم عنه فساد من وقت لآخر، سواء في تعاقدات التوظيف أو المشتريات، أو من خلال امتياز الوصول للموارد الطبيعية. ففي عام 2008 اتهمت جمهورية الكونغو الديمقراطية قوات الأمم المتحدة بتجارة الذهب والأسلحة مع الجماعات المتمردة. كما اتُهم أفراد حفظ السلام والعاملون في مجال الإغاثة في غينيا وليبيريا وسيراليون وأفريقيا الوسطى والكونغو بالاعتداء والاستغلال الجنسي للمدنيين.
وإلى جانب التحديات التي فرضتها موجة الانقلابات الأخيرة، فإن مستقبل عمليات حفظ السلام في أفريقيا يتأثر بشكل كبير بتشرذم النظام الدولي. فقد أظهرت الحرب في أوكرانيا وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة حجم الشلل والبيروقراطية في عملية اتخاذ القرار بمجلس الأمن.
وفي الوقت نفسه، عززت الصين دورها كلاعب رئيسي في عدة وكالات أممية. فبعد عقود من التشكيك، أصبحت الصين ثاني أكبر مساهم مالي في ميزانية الأمم المتحدة وجهود حفظ السلام.
وعلى نقيض النهج الغربي، تركز الصين على مبادئ السيادة والحياد في استجابة لمطالب العديد من الدول الأفريقية بالدعوة إلى تولي هذه الدول قيادة الجهود الأمنية على أراضيها. وقد أبدى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش دعمه لهذا النهج الصيني، الذي بموجبه يتولى الاتحاد الأفريقي أو التجمعات الإقليمية الخمس بالقارة القيادة والإشراف على مبادرات السلام والاستقرار.
شكوك وفشل المهمات
تواجه الأمم المتحدة تحديات عدة في ظل مجلس أمن لا يعكس توازن القوى في النظام الدولي. في الوقت ذاته، تتعرض المنظمة الدولية للضغوط من أجل تحقيق أجندة طموحة وذلك من خلال هيكل بيروقراطي بات ضخما ومترهلا.
النتيجة، أن البعثات الأممية فشلت في الحلول الأمنية في أفريقيا، مما أدى لشكوك قوية في مستقبل عمل المنظمة الدولية. ففي الشرق الأوسط، تعرضت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لهجوم مادي واغتيال معنوي من جانب إسرائيل مدعومة في ذلك بغالبية الدول الغربية، وذلك استجابة لدعاية إسرائيلية بأن المنظمة تدعم حماس، دون أي دليل.
ولعل امتناع 4 دول من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن عن المشاركة في الاجتماع السنوي للمنظمة في سبتمبر/أيلول الماضي في نيويورك يعد مؤشرا قويا على الوهن الذي أصاب المنظمة الدولية. علاوة على ذلك، فمع زيادة تكاليف تشغيل عمليات حفظ السلام -خاصة فيما يتعلق بالموظفين المدنيين- تبدو الدول أقل استعدادا لتحمل العبء المالي لهذه العمليات.
وبناء عليه، ينبغي النظر في مشهدين رئيسيين:
أولا: الاتفاقيات الإقليمية المتعددة الأطراف
- في هذا المشهد، يتم استبدال البعثات المتعددة الأبعاد في أفريقيا تدريجيا بأطر إقليمية تحت قيادة الاتحاد الأفريقي أو التجمعات الإقليمية الخمس بالقارة، لكن تلك المشاريع ستظل معتمدة على التمويل الأممي، حيث إن معظم دول القارة غير قادرة أو راغبة في دفع تكاليفها.
- في ظل هذا السيناريو، فإن دولا مثل رواندا، التي تتمتع بالإرادة والقدرة على توفير الدعم الأمني، سوف تكتسب نفوذا إضافيا. كما أن هذا المشهد -على المدى الطويل- من المرجح أن يؤدي لصعود الصين في نظام الأمم المتحدة، وبالتالي تغييرات جوهرية في مبادئ حفظ السلام.
ثانيا: اتفاقيات ثنائية مع مجموعة واسعة من الجهات الأمنية الفاعلة وعلى رأسها الجيوش الخاصة
- المشهد الثاني يتضمن تعدد اللاعبين الفاعلين في البنية الأمنية لأفريقيا، بما في ذلك الجماعات شبه العسكرية وشركات الأمن الخاصة أو الدول التي تعمل بموجب اتفاقيات ثنائية، وليس متعددة الأطراف.
هذا المشهد يقود للبحث في تطور شركات الأمن وجيوشها الخاصة، ناهيك عن الكشف عن كيفية نجاحها على مدار ربع القرن الماضي في الحصول على عقود أممية لتنفيذ عمليات مثل نزع الألغام وتأمين وصول قوافل إغاثة، ولكن دون التفويض لعمليات فرض أو حفظ السلام، وهي مهمات قد تحصل عليها في المستقبل القريب.