في الحادي عشر من فبراير/ شباط 2024، أحيت قناة الجزيرة الوثائقية ذكرى مجزرة من أفظع المجازر التي ارتكبتها فرنسا في تاريخها الاستعماري بتونس، وذلك بقصف قرية ساقية سيدي يوسف المحاذية للحدود الشرقية للجزائر، يوم الثامن من فبراير/ شباط 1958. فقد أسقطت الجزيرة الوثائقية ستارا سميكا كان يحجب تفاصيل تلك المجزرة، واستحضرتها من خلال فيلم “موت في الساقية” الذي أخرجه المخرج التونسي بلال المازني.
أربعة وخمسون دقيقة كانت كافية، لتكشف عن حقيقتين لا تشوبهما شائبة، الأولى هي أن مجزرة ساقية سيدي يوسف التي استهدف فيها الجيش الفرنسي بقنابله مدرسة وسوقا أسبوعية، هي جريمة إنسانية واضحة المعالم، والثانية هي أن تلك القرية الصغيرة -التي لا وزن لها في الخريطة الدولية- أسقطت الحكومة الفرنسية، ووجّهت بقوةٍ صراعَ الحرب الباردة نحو شمال أفريقيا، لتتحول تونس من مجرد ملعب للأحداث إلى لاعب يحمل ورقة الجوكر، ويجلس بكل ثقله على طاولة الدول الكبرى.
لم تكن مجزرة ساقية سيدي يوسف مجرد حادثة، فقد أسقطت الجمهورية الرابعة في فرنسا، وأشعلت تمردا داخل الجيش الفرنسي، وكانت سببا في اقتلاع الجزائر استقلالها وفي إخراج كل الجنود الفرنسيين نهائيا من القواعد التي يتمركزون بها في تونس. لقد كانت حادثة ساقية سيدي يوسف نارا أحرقت من أشعلها.
“آذان صاغية على حدود الجزائر”
يبدأ فيلم “موت في الساقية” بمشاهد تاريخية لثوار جزائريين في جبهة القتال، وينطلق صوت يصدح من المذياع يتلو بيان ثورة التحرير الجزائرية في العام 1954. كانت تلك فاتحة الفيلم التي تنقل المُشاهد نحو رحلة في الزمن لتحط في منتصف القرن الماضي، فمشاهد الثوار الجزائريين في ميدان المعارك وصوت الراديو وحشرجته هي التي تعلن بداية قصة تنطلق من إعلان ثورة التحرير الجزائرية، وتتواصل تبعاتها بدون مبالغة إلى اليوم.
وقد استطاع الفيلم اختزال تلك الرحلة التي دامت عقودا طويلة، من خلال إماطة اللثام عن تفاصيل كانت مخفية، وذلك بطريقة فنية تتجاوز مجرد السرد، وبتفاصيل تتجاوز الرواية المنقوصة التي اعتاد الجميع استحضارها بشيء من الدأب.
ففي العام 1954، كانت فرنسا تجثو بكل ثقلها على الشطر الأعلى من أفريقيا، وبعد استقلال تونس سنة 1956، كان كامل الخط الحدودي الغربي لتونس المتاخم للجزائر موقعا لا يمكن التفريط فيه عند فرنسا، حتى تظل لها عين على تحرك الثوار الجزائريين.
ويفصّل الضابط السامي في الجيش التونسي أبو بكر بن كريم ذلك، فيذكر أن فرنسا لها في إبقاء جنودها في تونس حتى بعد استقلالها، كي تبقى لها “آذان صاغية على حدود الجزائر”.
ويقول المؤرخ الفرنسي الكبير “بنجامين ستورا” في فيلم “موت في الساقية”: استطاعت تونس نيل استقلالها في مارس/ آذار 1956، وبذلك أصبحت دولة ذات سيادة، شأنها شأن المغرب. تربط إذن فرنسا علاقات معقدة مع مستعمرتيها القديمتين، وفي الوقت ذاته تحاول الحفاظ على وجودها هناك، وهو وجود اقتصادي وعسكري، لا سيما في تونس، ففيها وحدات عسكرية فرنسية عدة بقيت متمركزة هناك، لأن فرنسا أرادت أن تحتفظ بسيطرتها عسكريا واقتصاديا على حوض المتوسط.
ومن جهته يقول الكاتب الفرنسي “ترامور كيمينور” صاحب كتاب “الموت في الساقية”: لا يقبل الجيش الفرنسي بإنهاء الاستعمار، ولا يقبل أن تكون تونس والمغرب مستقلتين. بل يرغب باستئناف عملياته العسكرية في كل المغرب العربي، وأن تندلع حرب من جديد، لاستعادة السيطرة على كل المغرب العربي. وفي النهاية، إذا اندلعت حرب على أراضي الدول الثلاثة، فإن مهمة الجيش الفرنسي ستكون أسهل.
وقد جاءت الشهادات الثلاث بمثابة سير تدريجي ومنطقي نحو عقدة الأحداث في الفيلم، فقد اعتمد المخرج على تقديم تمهيد للسياق التاريخي آنذاك، لإزاحة استفهام منطقي قد يطرحه المشاهد، وهو ما الذي يجعل فرنسا تقدم على استهداف قرية في دولة مستقلة؟ وكان جواب الكاتب “ترامور كيمينور” دقيقا على هذا السؤال، فمن مصلحة الجيش الفرنسي الرافض لاستقلال مستعمرات فرنسا أن تندلع حرب جديدة لإعادة السيطرة على كامل مستعمراتها في شمال أفريقيا، ومنها تونس والمغرب المستقلتين.
شرق الجزائر.. معقل الثوار وشرارة انطلاق الثورة
ينقل فيلم “موت في الساقية” المتفرج إلى بضع ثوان من المشاهد التمثيلية، تليها مشاهد أرشيفية لجنود جيش التحرير الجزائري الموجود في الحدود التونسية الجزائرية، وذلك للحديث عن أهمية المنطقة الحدودية الغربية التونسية لدى الجزائر وفرنسا.
فتونس كانت قريبة من معقل الثوار الجزائريين في جبال الأوراس، وهو ما يعني أن تلك الحدود ستكون ممرا لتسليح الثوار الجزائريين بدوريات تتنقل من جبال الأوراس بالجزائر إلى تونس لجلب السلاح، بحسب شهادة علي تابليت، وهو أستاذ تاريخ جزائري ومجاهد في حرب التحرير، وكان من ضمن الجنود في تلك الدوريات.
أما فرنسا، فإن عينها على الحدود التونسية الجزائرية تعني تحكما في حركة الثوار الجزائريين، وعلى شرق الجزائر عموما، وهو يمثل معقلا قديما للقومية الجزائرية، وشرارة انطلاق الثورة الجزائرية، حسب وصف المؤرخ “بنجامين ستورا”، وأكثر من ذلك تعد الحدود الغربية لتونس المعبر الأهم لتمرير السلاح.
وحسب شهادة المناضل محمد التريكي والي محافظة الكاف المتاخمة للحدود مع الجزائر، فإن جيش التحرير الجزائري كان موجودا في مناطق الغرب التونسي، بدءا من محافظة توزر في الجنوب إلى مدينة طبرقة أقصى الشمال الغربي، لكن عددهم أكبر في محافظة الكاف، حيث توجد قرية الساقية.
وكان في محافظة الكاف مركز للتدريب يقوده الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين في مدينة غار الدماء التابعة لمحافظة الكاف، ومراكز تدريب أخرى في مدينة الكاف ذاتها وبعض محافظاتها.
ويقدر الكاتب الفرنسي” ترامور كيمينور” في فيلم “موت في الساقية” عدد جنود جيش التحرير الوطني الجزائري في تونس بخمسة أو ستة آلاف مقاتل، من ضمنهم 2500 جندي في محافظة الكاف والمدن المجاورة لها، أما المصادر الفرنسية فتقدر عدد المقاتلين في ساقية سيدي يوسف بـ500 جندي.
ثم ينتقل فيلم “موت في الساقية” من شهادات عن وجود جيش التحرير الوطني الجزائري في تونس ومحافظة الكاف، إلى تقرير من الأرشيف عن حصة تدريب لجنود جزائريين في ساقية سيدي يوسف، حيث يظهر مسؤولون سياسيون جزائريون آنذاك بجانب المقاتلين خلال حصة التدريب.
ومن هناك نكتشف الأهمية الجوهرية لقرية ساقية سيدي يوسف التي أصبحت ثكنة قائمة المعالم لجيش التحرير الجزائري.
خطوط التسليح.. جيش التحرير القوي يقلق المستعمر
ينتقل الفيلم إلى جزء لا يقل أهمية عن وجود جيش التحرير الوطني الجزائري في تونس، وهو أمر تسليحهم الذي اتُّفق عليه في القاهرة بين تونس وقادة جزائريين. ويقول المجاهد علي تابليت في شهادته في فيلم “موت في الساقية”: كانت الأسلحة تأتي إما من مصر أو من البلدان الاشتراكية، ولا سيما يوغوسلافيا وعلى رأسها الجنرال “تيتو”، وكانت تأتي إلى القاهرة قبل أن تنقل إلى تونس.
وكانت السلطة في تونس قد تسلمت رسميا مهمة نقل السلاح إلى الجزائريين، حتى تمنع وصولها إلى أتباع صالح بن يوسف المعارض للرئيس الحبيب بورقيبة، بحسب محمد التريكي والي محافظة الكاف سابقا، إذ يقول: كان والي الكاف يحرص على تسليم السلاح تحت إشراف الحرس الوطني التونسي، بعد مرور شحنات السلاح من محافظة إلى أخرى قبل أن تصل إلى الكاف.
وهنا يعرض الفيلم وثيقة مهمة عن كشف شحنة أسلحة آتية من مصر لتسليح الثوار الجزائريين من جهة، وتسليح بقايا الثوار التونسيين التابعين لصالح بن يوسف -وهو عدو بورقيبة اللدود- من جهة أخرى.
ولم تكن عين فرنسا لتغفل عما يحدث في المحافظات التونسية الغربية، فقد أصبح الوجود القوي لجيش التحرير الوطني الجزائري مقلقا لها، بسبب الكم الكبير الذي يملكه من السلاح، حينها تحركت فرنسا بقرار وزير الدفاع الفرنسي “أندريه موريس” لإنشاء حواجز سلكية مكهربة على طول الحدود الجزائرية مع تونس، وزرعت ألغاما في الخط المسمى خط “موريس”، ولم تقدّم فرنسا خريطة الألغام المزروعة هناك إلا سنة 2008 حسب شهادة المؤرخ “بنجامين ستورا”.
ويقول الكاتب الفرنسي” ترامور كيمينور”: بدأت الحدود آنذاك تكتسب أهمية أكبر، وأصبحت هناك معارك حقيقية هناك، معارك صعبة جدا.
وقد بلغ عدد المعارك 84 معركة على الحدود بين تونس والجزائر، بين عام 1957 وحتى فبراير/ شباط 1958، أي تاريخ استهداف الساقية.
كمين المقاومة.. ضربة محكمة أوجعت الجيش الفرنسي
يعلن الفيلم بموسيقى حربية ومشاهد تمثيلية لتحرك جنود فرنسيين عن اقتراب حدث ما، وهو مشهد يذكرنا بالهدوء السابق للعاصفة في أفلام الحروب. كان ذلك المشهد مصاحبا لشهادة “كيمينور” عن تحرك جنود الجيش الفرنسي في صباح 11 يناير/ كانون الثاني 1958، حين نصب يومها جيش التحرير الوطني الجزائري كمينا للجنود الفرنسيين خُطّط له بتقنية وعناية شديدة.
وقد أوقع ذلك الكمين 15 جنديا فرنسيا، وأدى إلى أسر أربعة آخرين، وكان سببا تذرعت به السلطة العسكرية الفرنسية لاستهداف ساقية سيدي يوسف. وبدأ التوتر يزداد على الحدود بعد تلك الحادثة، وقد وصف قائد عسكري للوحدة الفرنسية الوضع حينها بأنه أصعب من معركة “ديان بيان فو”.
حينها سنت الحكومة الفرنسية قرار الملاحقة، وهو يقضي بملاحقة المقاتلين في جزء من أرض أجنبية بعمق يصل إلى 25 كيلومترا، وهو ما يعني أنها كانت تمهّد فعلا لضرب ساقية سيدي يوسف، مع أنها تابعة لدولة مستقلة.
ودعا ذلك التوتر على الحدود التونسية الجزائرية إلى دخول الولايات المتحدة الأمريكية على الخط، فقد عبّرت لباريس في برقية عن خوفها من الوضع على الحدود الغربية لتونس، ونبهت إلى إمكانية لجوء تونس إلى مجلس الأمن، وهي نبوءة صحيحة تطرح عددا من نقاط الاستفهام، لا سيما أن البرقية ذكرت بالتفصيل ما سيحدث بالضبط قبل قرابة الشهر من وقوع حادثة الساقية.
لم يطل انتظار الولايات المتحدة الأمريكية التي تنبأت بانفجار الوضع في تونس. يقول الكاتب “ترامور كيمينور”: صباح يوم 8 فبراير/ شباط 1958، وُجهت طلقات من ساقية سيدي يوسف، وأصابت طائرة فرنسية كانت تحلق فوق الحدود، فقد اعتادت الطائرات الفرنسية أحيانا اختراق الحدود التونسية بشكل طفيف، وكان ذلك الحادث القطرة التي أفاضت الكأس لدى الجانب الفرنسي، حينها قرر الجنرال “سالان” استعمال حق الملاحقة.
يوم السوق الأسبوعية.. ساعة من القصف الجوي في قرية وديعة
بدأ الهجوم على ساقية سيدي يوسف قرابة العاشرة صباحا باستعمال 25 طائرة، منها طائرات مقاتلة وطائرات مقنبلة وأخرى مطاردة. ويتحدث المناضل وشاهد العيان الطيب بوشيوة في الفيلم عن ذلك اليوم، فقد كان موجودا في الساقية يوم الهجوم، فيقول: كنت هناك، ونُفذ الهجوم عند الساعة العاشرة تقريبا، وقد حلقت في البداية طائرات استكشاف، فاستهدفها الجيش التونسي، قبل أن يبدأ الهجوم.
وقد نفذ الجيش الفرنسي هجومه على قرية ساقية سيدي يوسف على ثلاث مراحل، ودام الهجوم ساعة كاملة، وكانت أهداف الهجوم منجما قديما في القرية وهو معقل لثوار جيش التحرير الجزائري، وهاجمت الطائرات الفرنسية في المرحلة الثانية دفاعات جوية فوق مبان إدارية، منها مكتب البريد بقرية ساقية سيدي يوسف، كما استهدفت مدرسة وسوقا أسبوعية وشاحنات للصليب الأحمر والهلال الأحمر.
كان يوم الهجوم على ساقية سيدي يوسف يوم السوق الأسبوعي في القرية، وسقط ما بين 70-83 قتيلا تونسيا خلال ذلك الهجوم، من ضمنهم ثمانية أطفال. يقول “ترامور كيمينور”: شاهدنا صورا مرعبة للأطفال، بما أن المدرسة قصفت أيضا خلال ذلك الهجوم.
ولم يكن تعبير “كيمينور” عن المشاهد المرعبة بالفصاحة التي عبّرت عنها أغنية ريفية تونسية أشبه بالنواح، صاحبت صورا نادرة جدا من أرشيف الصليب الأحمر، تظهر الآثار المدمرة للقصف، فالدمار في كل مكان وجثث الأطفال متناثرة على الطريق، وظهر الرعب في إحدى الصور على طفلة صغيرة في حالة صدمة، تذكرنا بالصورة الشهيرة لـ”فتاة النابالم” خلال حرب فيتنام.
ويذكر فيلم “موت في الساقية” -استنادا لتحقيق صحفي مغربي وجزائري وتونسي- أن الطائرات الفرنسية استهدفت الضحايا بالقصف وبرصاص الرشاشات، وأن 80% من الموتى قتلوا بالرصاص، وهو ما تبرزه صور أرشيف الصليب الأحمر التي تضمنها الفيلم لجدران ما بقي من المباني المقصوفة وهي مثقوبة بالرصاص.
الجنرال “راوول سالان”.. سفاح القرية وقائد المنظمة الإرهابية
أرسل الجنرال “راوول سالان” إلى وزير الدفاع الفرنسي آنذاك تقريرا يقول فيه إن القصف استهدف أهدافا عسكرية فحسب، وأن الصور الجوية تبرز أن المدرسة الابتدائية سليمة، وهو ما فندته تقارير صحفية عالمية.
ويقول الكاتب “ترامور كيمينور”: يتحمل الجنرال “سالان” المسؤولية في هذا القصف، فهو من اتخذ القرار، وكان يعلم ما يقوم به. ولم يُدَن عقب الحادثة، لكن في المقابل يمكن القول إن الرجل كان يطمح إلى أن يطور مسيرته أكثر حين قام بذلك القصف.
وتجدر الإشارة إلى أن الجنرال “راوول سالان” عرف بوحشيته ودفاعه المستميت لبقاء الاستعمار الفرنسي في الجزائر، كما أنه كان على رأس منظمة إرهابية فرنسية تدعى “منظمة الجيش السري”.
وبعد القصف، تحولت قرية ساقية سيدي يوسف إلى محطة للبعثات الدبلوماسية العالمية، فزار سفراء من دول عربية وأجنبية مكان الدمار وكان وصفهم لما حصل موحّدا “ما حصل لا يصدق.. وحشي وغير إنساني”. أما الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، فقد قال إن “جرثومة الهيمنة والسيطرة على جزء من التراب التونسي تهيمن على عقول الفرنسيين”.
ملعب الحرب الباردة.. عزلة فرنسية وصراع بين الأقطاب
صاحب التصعيد العسكري الفرنسي تصعيد دبلوماسي من الجانب التونسي، وأزمة دبلوماسية بين فرنسا وأمريكا، إذ قال الرئيس الحبيب بورقيبة إن الطائرات التي قصفت ساقية سيدي يوسف هي طائرات أمريكية، وذكر فيلم موت في الساقية أن الولايات المتحدة الأمريكية طالبت فرنسا بتقديم إيضاحات حول استخدامها طائرات أمريكية في الهجوم على ساقية سيدي يوسف.
وتبين مذكرة لوزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 12 مارس/ آذار 1958، أن أمريكا عبرت عن احتجاجها بعد استخدام الطائرات الأمريكية في الغارة على دولة صديقة، وهو إنذار بعزلة دولية لفرنسا.
يقول المؤرخ الفرنسي “بنجامين ستورا”: أدينت فرنسا مرات عدة في الأمم المتحدة، بسبب سلسلة من الأفعال التي قامت بها منذ العام 1956. وفي سنة 1958، أصبحت فرنسا معزولة جدا على الصعيد الدولي، لا سيما بعد قصف الساقية مباشرة، وأدانت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي هذا القصف.
وفي المقابل، كانت تونس تدرس ردة فعلها على الهجوم على أراضيها. ويذكر في الفيلم وزير الخارجية التونسية السابق أحمد ونيس أن بورقيبة أبلغ السفارة الفرنسية بسحب عائلات المعمرين الفرنسيين المقيمين في مدن وقرى قريبة من الحدود الغربية وسحب القناصل الفرنسية في المدن التونسية، كما انطلقت مظاهرات شعبية ضد الوجود العسكري الفرنسي في تونس.
وبدأت تونس تحصد أكثر من ذلك، فحسب برقية لحلف الناتو في فيلم “موت في الساقية”، كُلّف الأمين العام لحلف الناتو بإبلاغ أعضاء الحلف بالقرارات التونسية المتمثلة بمنع أي تحرك للقوات الفرنسية في تونس دون موافقة الحكومة التونسية، وعدم السماح لدخول الوحدات الحربية البحرية إلى الموانئ التونسية أو تحليق أو إنزال مظليين فرنسيين في التراب التونسي، وأنه في حالة معارضة فرنسا لهذه الأوامر ستعد تونس نفسها في حالة دفاع عن النفس.
ويقول فيلم “موت في الساقية” إن قضية ساقية سيدي يوسف قنبلة إضافية في ترسانة الصراع في الحرب الباردة، فقد وضع الاتحادُ السوفياتي الولاياتِ المتحدة الأمريكية في دائرة الاتهام في الهجوم على الساقية، في حين واجهت الولايات المتحدة حرجا كبيرا، بسبب لجوء تونس لمجلس الأمن.
وحسب برقية لوزارة الخارجية الأمريكية، فقد توقعت الولايات المتحدة أن يسعى الاتحاد السوفياتي إلى توتير العلاقات بين تونس ودول الغرب، وقد استعمل بورقيبة ورقة مطلب التسليح للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، وهدد بالتوجه نحو القطب الشرقي، واستطاع نقل المعركة من قرية ساقية سيدي يوسف إلى أروقة مجلس الأمن، حيث اندلعت معركة دبلوماسية شرسة، وكتبت صحيفة “ديبيش” الفرنسية مقالا بعنوان “شمال أفريقيا يصبح ملعبا للحرب الباردة”.
موت في الساقية.. انهيار يؤدي لسقوط الجمهورية الرابعة
ألقت أرواح ضحايا الهجوم على ساقية سيدي يوسف بظلالها على باريس، وأشعلت تمردا داخل الجيش الفرنسي. يقول المؤرخ “بنجامين ستورا” في شهادته في الفيلم: بعد أسابيع قليلة من حادثة ساقية سيدي يوسف، شهدت الجمهورية الرابعة نهايتها، وصعد الجنرال “ديغول” للحكم. لذلك يمكن القول إن حادثة ساقية سيدي يوسف في حد ذاتها لها أهمية عظيمة في تاريخ تلك الحرب، أي أنه بسبب القصف، انتهت الجمهورية الرابعة في فرنسا، لتولد بعدها الجمهورية الخامسة.
وبدا أن قصف ساقية سيدي يوسف وقع دون علم من حكومة “غايارد” الفرنسية التي وضعها الجيش الفرنسي أمام الأمر الواقع، حسب الكاتب “ترامور كيمينور”، ومع ذلك فإن الحكومة حاولت التغطية على ما فعله الجيش.
وفي يوم الثالث عشر من مايو/ أيار سنة 1958، أي بعد ثلاثة أشهر من حادثة ساقية سيدي يوسف، اندلعت مظاهرة ضخمة في الجزائر قادها الجنرال الفرنسي “جاك ماسو”، وهو ما يعني تمرد الجيش الفرنسي في الجزائر على النظام القائم في باريس، وكانت محاولة من الشق الذي نفذ الهجوم على الساقية للسيطرة على الحكم في فرنسا. من هناك صعد الجنرال “شارل ديغول” إلى سدة الحكم في فرنسا، وأصبح استقلال الجزائر يلوح في الأفق، في حين كتب التاريخ جريمة أخرى على جبين فرنسا الاستعمارية.
فقد جرفت دماء ضحايا ساقية سيدي يوسف معها أكثر من قرن من الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقادت إلى جلاء كلي للجنود الفرنسيين عن تونس، في حين خطت تونس علاقة متينة مع الولايات المتحدة الأمريكية، واستطاع بورقيبة أن يعزز مكانته السياسية التي تزعزعت بعد الصراع الداخلي على السلطة مع غريمه صالح بن يوسف.
فمن كان يظن أن قرية ريفية صغيرة غيرت تاريخ تونس والجزائر وفرنسا إلى الأبد.