يمثل قتل الذاكرة أحد أخطر أشكال الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين الذين يحملون تاريخهم كسلاح ماضٍ في وجه المحتل.
فعلى مدار أكثر من 7 عقود، لم تقف إسرائيل عند حد قتل أصحاب الأرض وتجويعهم وتشريدهم، لكنها أيضا سطت على متاحفهم ومقابرهم وكل ما يربطهم بجذورهم وأجدادهم الراحلين.
ولا يمثل الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين سابقة تاريخية، فقد سبقها في ذلك الأميركيون والأستراليون والكنديون الذين أبادوا أعراقا كاملة وأقاموا دولا جديدة فوق مقابرهم ورفاتهم.
الحرب البيولوجية
ففي الأميركيتين، تواصلت أعمال الإبادة الجماعية لنحو 4 قرون، قُتل خلالها 95% من السكان الأصليين، أي ما يعادل 100 مليون هندي أحمر.
ووفقا لبرنامج “نقطة عمياء” الذي يعده “الجزيرة نت”، لم يعتمد الأميركيون على الرصاص والتجويع فقط لإبادة الهنود الحمر، لكنهم استخدموا أيضا أغطية ملوثة بجرثومة الجدري وحجبوا عنهم اللقاح، لتصبح صاحبة أول حرب بيولوجية في التاريخ ضد شعب يرفض التفريط في أرضه وجذروه.
مغرفة الستينيات
وفي أوروبا أيضا، تبنى الكنديون -من نهاية الخمسينيات إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي- ما عرف بقانون “مغرفة الستينيات”، الذي قاموا بـ”غرف أطفال السكان الأصليين دوريا تماما كما تُغرَف أفراخ الدجاج من الحضانات”.
وخلال هذه المرحلة، انتزع الكنديون آلاف الرضع من صدور أمهاتهم دون رحمة، ثم يوزعونهم عبر إعلانات صحفية وتلفزيونية على عائلات بيضاء تعيش في أماكن بعيدة.
كان الهدف من هذا القانون هو قطع الصلة بين هؤلاء الرضع وذويهم وتمزيق أواصر أصحاب الأرض الأصليين كمقدمة لمحو تاريخهم، وقد فعلوا هذا بشكل ممنهج ودون أدنى شعور بالخزي أو تأنيب الضمير.
وأفرزت هذه الجريمة جيلا جديدا يحمل ملامح أصحاب الأرض لكنهم لا يعرفون شيئا عنهم ولا عن لغتهم أو ثقافتهم أو موروثهم، ولم تعتذر كندا عن هذا الفعل إلا في نهاية التسعينيات.
ورغم الاعتذار الذي لا يمحو الجريمة، لم تدفع الحكومة الكندية للمختطفين الذين فقدوا أهلهم وتاريخهم للأبد سوى تعويضات مهينة تراوحت بين 25 و50 ألف دولار، أي ما يعادل راتب عام واحد لأحد محدودي الدخل.
وحتى المحكمة الجنائية الدولية التي أسست عام 2002 كمنظمة دولية خارج إطار الأمم المتحدة، أفرغت نفسها للحديث عن جدليات قانونية وآليات إجرائية لكي تفرق بين الإبادة والمذبحة والتطهير العرقي أو جرائم الحرب وجرائم الاعتداء.
ومع ذلك، سحبت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل توقيعهما على ميثاق المحكمة حتى لا تكونان ملزمتان بتطبيق ما يصدر عنها من أحكام، إن صدرت.
لذا، تبدو المواجهة الأكثر خطورة هي تلك التي تحاول إسرائيل من خلالها محو التاريخ في حين يواصل الفلسطينيون التشبث به، ليظل السؤال المطروح هو: هل سينقرض أصحاب الأرض في الشتات أم إن ثقافتهم الواسعة وتاريخهم الطويل ومحيطهم الإسلامي الهادر سينتصر جميعها على القتل الجماعي؟