عاد الهدوء إلى العاصمة نيروبي وعدد من المدن الكينية، غداة احتجاجات عنيفة شهدت صدامات بين محتجين وقوات الأمن، أوقعت قتلى وجرحى، وسط استنفار أمني واسع.
وتزامنت هذه الاحتجاجات مع إحياء ذكرى يوم “سابا سابا” الذي يمثل محطة فارقة في نضال الكينيين من أجل التعددية السياسية. غير أن مشاهد العنف -التي رافقت ذكرى هذا العام- سلطت الضوء على عمق الأزمة السياسية والاجتماعية التي تمر بها البلاد.
ذكرى تتحول إلى مأساة
في 7 يوليو/تموز 1990، خرج آلاف الكينيين إلى الشوارع مطالبين بإنهاء الحكم الاستبدادي للرئيس الأسبق دانيال أراب موي، والتأسيس لتعددية حزبية، مما أدى إلى اعتقال شخصيات معارضة بارزة وسقوط ضحايا، لتسجل تلك الاحتجاجات كأحد أبرز المنعطفات في مسار الديمقراطية الكينية.
وتكرر المشهد في الذكرى رقم 35 لهذا الحدث، فقد اتسمت باحتجاجات حاشدة في عدة مدن، قُتل خلالها 11 شخصًا وأصيب نحو 30 آخرين، بحسب اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان.
استنفار أمني وردود متباينة
أغلقت قوات الأمن مداخل العاصمة نيروبي، وفرضت طوقا أمنيا على الطرق الرئيسة، ولجأت إلى استخدام الغاز المدمع والرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين. وشهدت بعض المناطق أعمال عنف ونهب طالت ممتلكات عامة وخاصة، من بينها مستشفى كيتينغيلا الذي تعرض لهجوم أثار موجة استنكار واسعة.
وأعلنت الشرطة عن مقتل 11 شخصا وإصابة 63 آخرين، واعتقال أكثر من 560، مشيرة إلى تورط “عصابات إجرامية” بأحداث العنف، داعية المواطنين للتعاون في تقديم معلومات حول الضالعين فيها.

ودافعت الحكومة عن إجراءاتها الأمنية، إذ أكد وزير الداخلية كيبشومبا موركومن أن التدخل جاء لحماية الأرواح والممتلكات. في المقابل، طالب نواب من البرلمان بمحاكمة منظمي الاحتجاجات بتهم “الإرهاب المحلي” والإضرار بالاقتصاد الوطني.
كما دعا كيثوري كينديكي نائب الرئيس الكيني إلى الحوار بين المعارضة والحكومة لحل مشكلة المظاهرات المتكررة التي تشهدها البلاد.
ومن جانبه، دعا الزعيم السياسي البارز رايلا أودينغا إلى عقد “مؤتمر وطني” لبحث سبل إصلاح جهاز الشرطة وتعزيز الشفافية والمساءلة، محذرا من أن العلاقة بين الأمن والمواطنين وصلت مستويات غير مسبوقة من التوتر.
الإعلام الكيني ومرآة الانقسام السياسي
عكست تغطية الصحافة الكينية للاحتجاجات الأخيرة حالة الانقسام السياسي الحاد، وتباين المواقف من أداء السلطات الأمنية.
فقد اختارت صحيفة “ستاندرد” عنوانا لافتا على صفحتها الأولى “قوة غاشمة لحكومة خائفة” في نقد حاد لطريقة تعاطي السلطات مع المتظاهرين، معتبرة أن الإفراط في استخدام القوة يعكس تراجع الثقة السياسية والاستجابة للمطالب الشعبية.

أما صحيفة “ديلي نيشن” فتبنت نبرة متحفظة تحت عنوان “انقسام كبير” في إشارة إلى التباين في حدة المواجهات بين المناطق الكينية، وهو ما يعكس التوتر المتزايد بين الحكومة والمعارضة من دون إبداء موقف صريح.

وفي المقابل، توجهت صحيفة “ديلي بيبول” بلغة أكثر حدة، وعنونت صفحتها بـ”نظام قاتل” محملة السلطات مسؤولية سقوط الضحايا، في موقف يعكس تصاعد الانتقادات ضمن وسائل الإعلام المحسوبة على المعارضة.

أزمة تتجاوز الذكرى
وترى أوساط سياسية ومدنية أن أحداث “سابا سابا” الأخيرة تعكس تصاعد الاحتقان الشعبي إزاء الأوضاع الاقتصادية وضعف الثقة بالأجهزة الأمنية، في حين أثار استهداف منشآت صحية تساؤلات جدية بشأن مستقبل الحريات المدنية في كينيا.
وأمام هذا المشهد المتأزم، تجد كينيا نفسها على مفترق طرق: بين تشديد حكومي على حفظ الأمن، ودعوات معارضة لإصلاحات هيكلية شاملة قد تعيد رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع في المرحلة المقبلة.