دحضت صحيفة واشنطن بوست رواية الجيش الإسرائيلي لمقتل الناشطة الأميركية التركية عائشة نور أزغي إيغي التي ادعى فيها أنها على الأرجح أُصيبت “إصابة غير مباشرة وغير مقصودة” برصاص جنوده في ذروة المواجهات في بلدة بيتا جنوبي محافظة نابلس بالضفة الغربية.
فقد قالت الصحيفة الأميركية إن تحقيقا أجرته كشف أن عائشة أصيبت بالرصاص بعد أكثر من نصف ساعة من ذروة المواجهات في بيتا، وبعد نحو 20 دقيقة من تحرك المتظاهرين على الطريق الرئيسي على بعد أكثر من 200 ياردة من القوات الإسرائيلية.
وأكد شهود عيان للصحيفة أن مراهقا فلسطينيا أصيب أيضا برصاص إسرائيلي رغم أنه كان يقف على بعد 20 ياردة تقريبا من إيغي، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يذكر إذا كان المصاب هدفا.
وكان الجيش الإسرائيلي أكد في بيان، يوم الثلاثاء، أن من “الراجح جدا” أن تكون عائشة قد “أصيبت إصابة غير مباشرة وغير مقصودة” بنيران جيش الاحتلال “التي لم تكن موجهة إليها بل كانت موجهة إلى المحرض الرئيسي للشغب” خلال مظاهرة مناهضة للاستيطان قرب نابلس شمالي الضفة.
ورفض جيش الاحتلال الإجابة عن أسئلة من صحيفة واشنطن بوست حول سبب إطلاق جنوده النار على المتظاهرين بعد فترة طويلة من انسحابهم، ومن مسافة لم يشكلوا فيها أي تهديد واضح.
ولإعادة تمثيل دقيقة لوقائع الأحداث في ذلك اليوم، تحدثت الصحيفة إلى 13 شاهد عيان وأفراد من أهالي بلدة بيتا، واستعرضت أكثر من 50 مقطع فيديو وصورة قدمتها حصريا حركة التضامن الدولية، المنظمة التي تطوعت فيها إيغي، ومنظمة فزعة (Faz3a) التي تدافع عن حقوق الفلسطينيين.
وبحسب التحقيق الذي أجرته واشنطن بوست، فقد تحدث بعض الناشطين الأجانب واشترطوا الاكتفاء بذكر أسمائهم الأولى، أو عدم الكشف عن هوياتهم خوفا من الانتقام الإسرائيلي الذي قد يتضمن منعهم من دخول البلاد مرة أخرى.
وتتكتم إسرائيل على قواعد الاشتباك العسكرية في الضفة الغربية، إلا أن جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية حاولت تسليط الأضواء عليها. وقال جويل كارمل من منظمة “كسر الصمت”، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية مناهضة للاحتلال، إن الجنود والقادة الصغار يُمنحون حرية واسعة في إطلاق النار، حتى لو كان ذلك مبنيا على مجرد تكهنات بوجود مشتبه بهم يشكلون تهديدا.
وخلال بعض الاحتجاجات، قال شهود إن إطلاق النار على “أرجل المحرضين الرئيسيين” يُعدّ أمرا مقبولا لردع المتظاهرين الآخرين، وفقا لكارمل.
وقد شهد بستان الزيتون الذي قُتلت فيه إيغي حادثة مماثلة الشهر الماضي أُصيب فيها مواطن أميركي آخر يُدعى دانيال سانتياغو (32 عاما) برصاصة في فخذه أطلقها جندي إسرائيلي، وحينئذ ادعى الجيش أنه “أصيب بطريق الخطأ” عندما “أطلق الجنود طلقات حية في الهواء” لتفريق المتظاهرين.
ولفتت الصحيفة الأميركية إلى أن أعمال العنف تفاقمت في الضفة الغربية منذ هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وقد قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 634 فلسطينيا خلال تلك الفترة، وفقا للأمم المتحدة. وقد استشهد أغلبهم في غارات عسكرية على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو على أيدي مستوطنين يهود، أو في مواجهات منتظمة مع الجنود في مناطق مثل بلدة بيتا.
كيف قُتلت عائشة؟
روت واشنطن بوست تفاصيل عن مقتل عائشة، ونقلت عن ناشطين قولهم إنها و4 متطوعين آخرين استأجروا سيارة أجرة من مدينة رام الله، وساروا بها 48 كم شمالا إلى بيتا، وهي “بؤرة توتر” معروفة.
لقد كانت تلك أول مشاركة لعائشة إيغي في مظاهرة بالضفة الغربية، وكانت متوترة. وأعربت لزملائها الناشطين عن أملها أن يكون وجودها هناك حماية للمحتجين الفلسطينيين في وقت تصاعدت فيه حدة العنف في الأراضي التي تحتلها إسرائيل.
وقالت هيلين -وهي متطوعة من أستراليا في أوائل الستينيات من عمرها وكانت ترافق عائشة طوال اليوم- إنهما قررتا الابتعاد عن أي مكان قريب من أي اشتباك.
لكن الحذر لم يكن كافيا لحماية عائشة، فقد أصيبت برصاصة في رأسها في السادس من سبتمبر/أيلول في بلدة بيتا القريبة من مدينة نابلس بعد اشتباكات قصيرة عقب صلاة الجمعة.
وبدوره، قال هشام دويكات، وهو من سكان المنطقة وعضو في المجلس الوطني الفلسطيني، للصحيفة، إن الجيش الإسرائيلي درج على المجيء إلى المنطقة أسبوعيا وحاول منع أداء صلاة الجمعة مرات عدة، ” لقد قمعونا بالغاز المسيل للدموع والرصاص، لكن المظاهرات استمرت”.
وأوضحت الناشطة الأسترالية هيلين، التي عُينت “مرافقة” للأميركية التركية في مراقبة مظاهرة الجمعة، أن عائشة كانت تأمل أن تكون “شاهدة عيان” على أول احتجاج تكون حاضرة فيه.
وكان موقع صلاة الجمعة داخل حديقة بها أرجوحة وزلاقة للأطفال فوق تلة شديدة الانحدار. لقد بدا هادئا عندما وصل المراقبون الدوليون، لكن السكان والناشطين قالوا إن الجنود الإسرائيليين كانوا متمركزين بالفعل في محيط المكان. وبدأ أهالي البلدة يتوافدون سيرا على الأقدام وبالسيارات وشرعوا في الاختلاط مع الناشطين المتطوعين.
وروى ناشط بريطاني أنه تحدث إلى عائشة بينما كانا يراقبان الجنود على الجانب الآخر من سياج الحديقة، ويستذكر أنها قالت “أنا متوترة، لأن الجيش هناك”.
كان الوقت بعد منتصف النهار بقليل (12:30 ظهرا) عندما بدأت صلاة الجمعة، وكانت عائشة تؤدي الصلاة. ورصدت مقاطع الفيديو التي التقطها الناشطون مشهدا يسوده الهدوء.
وما إن انتهت الصلاة في حوالي الساعة 13:05 بعد الظهر حتى تغيرت الأجواء، وفقا لمقاطع الفيديو وشهود العيان. ابتعد السكان الأكبر سنا بسياراتهم، واتخذ الشباب والأطفال مواقعهم على الطريق المؤدية إلى أسفل الحديقة.
وقال الحاضرون إن كيفية انطلاق المواجهة لا تبدو واضحة، لكنها في البداية اتبعت الإيقاع المنتظم للاشتباكات بين الجنود المدججين بالسلاح والمحتجين الفلسطينيين. ألقى بعضهم الحجارة، واستخدم آخرون المقاليع، بينما أحرق غيرهم الإطارات على التل، كما تظهر الصور.
وأكد سكان وناشطون أن القوات الإسرائيلية استخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشد، ثم لجأت على الفور تقريبًا إلى الذخيرة الحية.
ووصف ناشط إسرائيلي، متعاون مع منظمة “فزعة” يدعى جوناثان بولاك، المشهد قائلا إن الجنود الإسرائيليين كانوا “مستفزين للغاية”، مشيرا إلى أن جيش الاحتلال دأب على استخدام الذخيرة الحية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وقالت هيلين إن إيغي صُدمت من سرعة تصاعد وتيرة الأحداث، فبدأت بالفعل “بالتراجع نحو الطريق، خلف الصبيان والمتطوعين الآخرين”.
وتظهر صورة التقطت في الساعة 1:21 ظهرا 4 جنود إسرائيليين على الأقل على قمة التل. ويظهر مقطع فيديو وصور من الدقائق القليلة التالية جنودا يتخذون مواقع على أرض مرتفعة، بما في ذلك على سطح منزل علي معالي، أحد سكان بيتا، وبالقرب من مركبة عسكرية.
وقال معالي (44 عاما) إن القوات الإسرائيلية كثيرا ما تستولي على سطح منزله أيام الجمعة، لأن “هذا موقع إستراتيجي”. وأضاف أن الجنود وصلوا في ذلك اليوم، على غير العادة، “بعد صلاة الجمعة مباشرة”، وصعد 4 منهم على الأقل إلى سطح منزله، وتجمع جنود آخرون على شرفته بالأسفل، وحاولوا الاختباء بعيدا عن الأنظار.
وأظهر مقطع فيديو تم تصويره في الساعة 1:22 ظهرا الطريق بجوار بستان الزيتون، حينما انطلقت رصاصة.
وبعد دقيقة واحدة، اتصل الناشط البريطاني بعائشة للتحقق من مكانها، وفقا لسجل المكالمات الذي اطلعت عليه صحيفة واشنطن بوست. وأخبرته الناشطة أنها نزلت بالفعل من التل إلى بستان الزيتون. ويتذكر أنه قال لها “ابقِ هناك”.
وقالت هيلين إنها احتمت وراء شجرة، وكانت عائشة تقف إلى يسارها. وساد الهدوء بعد ذلك بضع دقائق، بحسب الناشطة الأسترالية التي تابعت قائلة “كانت لدينا فرصة لأخذ نفس عميق … والوقوف على ما اعتقدنا أنها مسافة آمنة”.
ويتذكر الناشط الإسرائيلي بولاك أنه رأى جنديا يصوّب بندقيته “في اتجاهنا”، مضيفا أنه شاهد “لهبا” وسمع صوت طلقتين.
ولم تُرصد لحظة إطلاق النار في أي من اللقطات التي راجعتها صحيفة واشنطن بوست، لكن التصوير استؤنف في تمام الساعة 1:48 ظهرا.
وحينئذ سُمع صراخ امرأة غير مرئية في الخلفية وهي تصرخ “طلقة نارية!”، وتطلب سيارة إسعاف.
في بستان الزيتون، رأت هيلين صديقتها عائشة تسقط على وجهها على الأرض بجانبها، وقامت بقلبها، وكان الدم يتدفق من الجانب الأيسر لرأس عائشة وقد فقدت الوعي. وأُعلنت وفاتها في حدود الساعة 2:35 ظهرا في مستشفى رفيديا، وفقا لمديره فؤاد نافع، بعد محاولات متعددة لإنعاشها.