خلال أكثر من 20 عاما، ظل الرجل يواصل نشاطه دون خشية أو وجل، وقد استطاع دائما تجاوز كل عقبة في طريقه، كان سلاحه الثقة التي تتولد من السمعة الجيدة، فمن ذا يصدق أن عملاق وول ستريت ليس إلا محتالا ولصا، ولم يزل كذلك حتى وقعت الواقعة، وانكشفت الحيل والألاعيب، وسقط الوحش.
في بناء شبه وثائقي شبه درامي، وعبر أربعة أجزاء، يدور فيلم “مادوف.. وحش وول ستريت” (Madoff: The Monster of Wall Street) الذي أخرجه “جو بيرلنغر”، وأنتجته شبكة نتفليكس (2023).
هذا العمل المكثف المليء بالتفاصيل المدهشة، يبدو كأنه امتداد لإحدى تراجيديات “شكسبير”، فلدينا رجل يبحث بشكل مسعور عن القوة والنفوذ والمال، يساعده بعض من أفراد عائلته، منهم ولداه اللذان نكتشف في النهاية أنهما لم يكونا عالمين بعمله السري الإجرامي، وزوجته وأخوه اللذان تحيط بهما شكوك كثيرة، وعدد كبير من المساعدين تواطؤوا معه على مر السنين في الاستيلاء على أموال أناس كثيرين، وعدد كبير من المستفيدين وأصحاب المصالح الذين ارتبطوا به.
انهيار الهرم.. إمبراطورية من ورق تخدع عالم المال
في صباح يوم من عام 2008، استيقظ المودعون فوجدوا أنهم فقدوا كل مدخراتهم وأموال عملائهم التي وضعوها بين يدي هذا الوحش “بيرني مادوف”، بعد أن انكشفت أكبر عملية احتيال في التاريخ الأمريكي.
لم يكن الأمر متوقعا، فقد اكتسب الرجل عبر السنين سمعة جيدة في أوساط عالم المال وصناع الثروة في وول ستريت، ولم يكن أحد قط -حتى المخضرمون في الإدارة المالية- يتصور أن هذا الهرم المالي الكبير ليس إلا هرما من ورق.
انهارت الأسواق في أمريكا والعالم في ذلك اليوم، بعد انكشاف القروض التي كانت تقدمها شركات الإقراض والبنوك من دون أي ضمانات حقيقية لمشتري المنازل، فهرع المدخرون لاسترداد أموالهم من البنوك، ولم يكن ممكنا وقف طوفان الذين تدفقوا على شركة “مادوف” في نيويورك. لكن الشركة لم تكن لديها تلك العشرات من المليارات التي أودعها أصحابها، فقد تبخرت ولم يبق سوى نحو 300 مليون دولار، وحينها انكشفت اللعبة، وكان محتما أن يسقط “الوحش”، ويصبح في قبضة السلطات.
من العناصر الدرامية في القصة كما سنرى، أن الجشع سيؤدي إلى السقوط، ثم إلى تلويث السمعة والسجن والانتحار، ولكن لم يكن سقوط إمبراطورية “مادوف” المالية حدثا منعزلا عن مناخ كامل من الإهمال والفساد، عمَّ البنوك وأجهزة الرقابة المالية، وكان نتاجا لمناخ الجشع الذي ظل العامل الأول في تغذية مشروع “مادوف”.
أدرك كثير من كبار المستثمرين الخدعة، ومع ذلك استمروا في حماية “مادوف” والتستر عليه وتزويده بالأموال التي تنقذه من الانكشاف، فكانوا بمثابة شركاء يجنون الكثير من المال من ورائه، وكان منهم أيضا من يستبعدون فكرة السقوط، ويخبرنا الفيلم أنه كان يمكن أن يستمر “مادوف” في التلاعب والغش والخداع وسرقة المليارات، لولا وقوع الأزمة المالية الشرسة في 2008.
“مختل وقاتل مالي متسلسل”
يصف أحد المحققين “مادوف” في المسلسل، بأنه “مختل وقاتل مالي متسلسل” أي باختصار “وحش” من وحوش المال. ويعترف “مادوف” نفسه كما نرى في المسلسل، بأن ما كان يدفع ضحاياه باستمرار إلى الثقة فيه وتسليم أموالهم له، هو الجشع وثقافة مجتمع الجشع، ملخصا فكرة الحلم الأمريكي بالثراء، وهو نفس الحلم الذي سيطر على “مادوف” وعملائه الذين أصبحوا ضحاياه. فقد خدع الجميع.
مرة أخرى، يثبت المسلسل أن صناعة الوثائقيات لم تعد تحمل طابع الوثائقيات الكلاسيكية القديمة التي تمتد إلى حقبة الأفلام الوثائقية السوفياتية، وكانت تستخدم بعض الوثائق المصورة، وتمزجها بالمونتاج وتدعمها ببعض شهادات الشهود.
فقد أصبح العمل الوثائقي اليوم يتجاوز مسألة التوثيق، أو استخدام الوثيقة المباشرة، بعد أن أدخلت عليه بعض أساليب الفيلم الروائي، لدعم الفكرة وتجسيد الشخصيات التي لا يمكن أن تظهر في أدوارها الحقيقية بشكل مباشر، من خلال أداء الممثلين، ولكن دون أن يصبح الخيال بديلا عن الواقع.
شخصيات المسلسل.. وثائق وشهادات تنسج خيوط القصة
يظهر المسلسل لقطات ومشاهد مباشرة لأبطال القصة الحقيقيين، وهم “بيرني مادوف” وزوجته “روث”، وولداه “مارك” و”أندرو”، وأخوه “بيتر مادوف” الذي كان مسؤولا كبيرا في الشركة، وسكرتيرته السابقة “إليانور سكويلاري”، وشركاؤه وبعض مَن استثمروا عنده.
وأهم هذه الشخصيات جميعا “هاري ماكوبولوس”، وهو المدير المالي الشجاع الذي بحث ووثق وجمع أدلة تثبت أن نظام الاستثمار المالي في شركة “مادوف” هو أكبر عملية احتيال “بونزي” في تاريخ الولايات المتحدة.
فقد ظل هذا الرجل منذ عام 2000، يسعى مرارا وتكرارا لكشف لعبة الاحتيال، ولكن بلا جدوى، فقد أغلقت الجهات الرقابية -المسؤولة عن مراقبة استقامة الشركات العاملة في سوق المال- عيونها وصمت آذانها، ورفض أعضاؤها الاستجابة لطلباته المتكررة بإجراء تحقيق جدي في أوراق الشركة.
أما اللقطات المباشرة لأبطال القصة، فهي مأخوذة من الأرشيف، ومن المقابلات المحدودة التي أجريت معهم، ومن الظهور العلني لعائلة “مادوف” في المجتمع، وقد برزت في المسلسل فكرة “العائلة” التي يتولى أفرادها المهام الرئيسية في لعبة الخداع، وكانت دائما الغطاء العملي الذي يحكم عمل “المافيا”.
وحش وول ستريت.. رجل محتال غدر بالقبيلة اليهودية
لم تكن العائلة مجسدة فقط في أقارب “مادوف” من الدرجة الأولى، بل من أصدقائه ومواليه من أبناء الطائفة اليهودية في أعلى السلم الاجتماعي الأمريكي. و”بيرني مادوف” هو ابن عائلة من المهاجرين اليهود الروس. وكان الدافع وراء انجذاب كبار المستثمرين اليهود إليه، هو التعامل طبقا لمنطق القبيلة اليهودية، فاليهود الأمريكيون كانوا دائما يثقون بأقرانهم أكثر من ثقتهم في الأغيار.
ولم يكن هؤلاء المستثمرون اليهود يتصورون أن يسرقهم يهودي مثلهم، وهي فكرة يناقشها المسلسل بوضوح بلا مواربة، لأنها ظاهرة واضحة تماما في سياق وقائع القصة نفسها.
وإذا كان المسلسل يبدأ بالسقوط، فإنه يروي في الحقيقة قصة صعود وسقوط إمبراطورية “بيرني مادوف”، وقصة سقوط نظام الثقة بين المودعين والبنوك، أو ما نعرفه في بلادنا باسم شركات توظيف الأموال التي تتبع نفس الإستراتيجية في الخداع.
أزمة 2008.. زلزال هز أسواق المال وكشف الكارثة
مع وقوع الأزمة في 2008، اهتزت صورة النظام المالي في العالم كله، فقد كانت جهات مالية عدة قد ارتبطت بشركة “مادوف”، وقبلت التعاون معها وتمويلها، مع أن ما كان يقدمه من فوائد، كان يأخذها من أموال المودعين الصغار ويمنحها للمودعين الكبار، ومن المودعين القدامى للمودعين الجدد لكسب ثقتهم، ولكي يضمن استمرار الحصول على المدخرات.
وكانت الأرباح أو الفوائد أكبر من أي شيء عرفه نظام “وول ستريت”، ويقول الخبراء في الفيلم إنه لم يحدث قط أن بقيت شركة مالية في وول ستريت تصعد أرباحها وما تمنحه من فوائد باستمرار، على غرار البيانات المزورة التي كانت تقدمها شركة “مادوف”، لإرضاء المودعين وكسب المزيد، وهي عملية بلغت 69 مليار دولار (ثبت أنها كانت على الورق)، وعلى أرض الواقع بلغت 19 مليار دولار استولي عليها.
لقد كان أمرا غير قابل للتصديق، لكنهم صدقوه لأنهم أرادوا تصديقه، فالجشع يعمي العيون ويشل العقول، ويعترف “مادوف” نفسه في شهادته التي أدلى بها للمحققين، بأن الجشع هو الدافع الأساسي وراء التهافت على الادخار في شركته.
ويقول أحد الخبراء إن “مادوف” كان يرفض الإجابة على الأسئلة التي تسعى لمعرفة مصدر كل هذه الأرباح، وكان يطلب ممن يسأله أن يتوقف عن طرح مثل هذه الأسئلة، ويقول إنه لن يكشف أسرار عمله، بل إنه يعرض عليه أن يرد إليه أمواله فورا، ومن هنا كان يكتسب مزيدا من الثقة.
الطابق الـ17.. مخبأ سري تدار لعبة “البونزي” في دهاليزه
مع أن كثيرا من تفاصيل قصة “مادوف” معروف، وقد نشرته الصحف، فإن المسلسل كشف أسرارا كثيرة لم يكن أحد يعرفها، من خلال شهادات بعض أخطر الشهود الذين قبلوا التحدث أمام الكاميرا.
من بين هؤلاء -على سبيل المثال- عملاء ومحققون من مكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي آي”، ممن كانوا حاضرين أثناء اعتقال “مادوف” وفحص الأوراق والمستندات في مقر الشركة، وقد اكتشفوا وجود مقر آخر سري في الطابق الـ17، أي تحت المقر العلني للشركة في الطابق الـ19 من ناطحة السحاب التي اتخذها “مادوف” مقرا له، لإبهار المستثمرين.
وكان الطابق الـ19 مخصصا للنشاط القانوني المحدود، أما الطابق الـ17 فكان مخصصا للعبة “البونزي” (نظام احتيال ينسب للمحتال الشهير “تشارلز بونزي”)، أي ترتيب أوراق الاحتيال المالي، وخلق حسابات زائفة تظهر للمودعين أن أموالهم تجني فوائد كثيرة، وتنمو باستمرار.
من هؤلاء الذين يظهرون في المسلسل أيضا “إيرا سوركين”، وهو المحامي الذي تولى الدفاع عنه فيما بعد، ويروي أنه في لقائه الأول به انبهر بشخصيته، ولم يكن يصدق أنه أمام عملاق وول ستريت، ثم يقول إن والدته قالت له شيئا عن “مادوف” ما زال يتذكره، وهو أنه لا ينظر قط في عيني محدثه. أي أنها أدركت مبكرا -حسب قوله- حقيقة الرجل.
لعبة الأخوين.. محتالان ذكيان يسعيان إلى الثراء السريع
يستخدم الفيلم إلى جانب الشهادات صورا فوتوغرافية، وتصويرا مباشرا للأحداث (ومن ذلك لقطة شهيرة لمحاولة اعتداء المودعين على “مادوف” في الشارع)، وبعض لقطات الأرشيف، ومقاطع من نشرات الأخبار التليفزيونية، وأفلاما دعائية تسجيلية قديمة، ليصنع منها خلفية تاريخية للأحداث.
تروي الصحفية المتخصصة في الشؤون المالية “إيرين أردفيدلوند” بدايات “مادوف”، وتتوقف أمام الأزمة الاقتصادية والكساد الكبير الذي بدأ في 1929 واستمر خلال الثلاثينيات، ثم سنوات الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات، وهو ما خلق مناخا من الفوضى والقلق والاضطراب في حياة الناس.
ومع حلول الخمسينيات أصبح الناس يتطلعون للهدوء والسلام، وبدأ الأمريكيون من عموم الطبقة الوسطى يتجهون للسكن في المنازل الجديدة في ضواحي المدن، وهو ما فعله أيضا والد “مادوف”، فنقل عائلته إلى حي كوينز في نيويورك.
وهذا التاريخ وغيره يطعّمه في الفيلم بصور “مادوف” الشخصية في طفولته وشبابه مع عائلته، ولقطات ومقاطع كثيرة من الدعاية التلفزيونية للمنازل الجديدة، وصور الحياة في الضواحي. لكن أسرة “مادوف” لم تحقق النجاح، ولم يكمل هو تعليمه الجامعي، وأصبح يعيش على هامش الفشل، في حين أن رغبته الوحيدة هي تحقيق الثراء السريع، فبدأ مشروعه في الاستثمار بإمكانيات بسيطة جدا، وكان يرغب في تفادي الفشل الذي واجهه والده. ومن هنا بدأت خطة الخداع.
كان “مادوف” يستقبل أموال المودعين في حسابه الشخصي، وقد ابتكر بمساعدة أخيه أول نظام مالي حاسوبي يظهر الحسابات وما تحققه الشركة من أرباح بطريقة مبهرة، والأهم أن تكون مقنعة، فهي لم تعد بيانات على الورق، بل تستطيع أن تراها مباشرة على الشاشة، ولكن كل هذا كان مصطنعا ومزيفا.
“فرانك ديبسكالي”.. اليد اليمنى تعض ولي نعمتها!
كان “مادوف” يمنح مستثمريه 20% من الفوائد، لكن أعظم ما يمكن أن يحققه أي مستثمر لم يكن يتجاوز 10%. وكانت شركته الأصلية (القانونية) تخسر، لكنه كان يغطي الخسائر من أموال المودعين في نظام “البونزي” السري، أي من حسابه.
وكان يغدق على مساعديه، ويمنحهم أموالا كثيرة ليظلوا معه يكتمون أسراره، وكان لديه أربعة من كبار المستثمرين والمودعين، كلهم من اليهود، وكتبت الصحافة كثيرا عن صلاته اليهودية، ولا سيما اليهود المحافظون المتدينون الذين كان يلتقيهم في نادي بالم بيتش لصفوة المجتمع، وهو النادي الوحيد الذي كان يقبل عضوية اليهود كما يأتي في الفيلم حرفيا.
أما يده اليمنى “فرانك ديبسكالي” ذو الأصل الإيطالي، فقد تبناه “مادوف” شابا صغيرا في مقتبل عمره، حين قدمته إليه جارته “أنيت بيونجورنو”، وكانت قد عملت سكرتيرة لـ”مادوف” من عام 1967، ومضى “ديبسكالي” في صعوده حتى أصبح المدير المالي المسؤول عن كل العمليات القذرة لنظام الادخار والاستثمار القائم على الخداع.
كان “ديبسكالي” يجني مليونَي دولار سنويا، ثم ضاعفها له “مادوف” فيما بعد، لكنه أصبح بعد القبض على “مادوف” شاهدا أساسيا ضده، فتعاون مع رجال التحقيق وقدم لهم كل الأوراق والمستندات المطلوبة لإثبات التزوير، ووشى بكثير من المتعاونين، وكشف الحسابات السرية، وكان تعاونه كفيلا بإنقاذه من الحكم عليه بالسجن مدة 125 سنة، ولكن قبل إصدار الحكم النهائي عليه في 2015 مات متأثرا بمرض سرطان الرئة.
لم يكن ممكنا أن يظهر “ديبسكالي” في الفيلم، لكن هناك من يقوم بدوره، لا سيما أنه الشخص الذي كان يتعامل مع المستثمرين ويطلعهم على حساباتهم، كما كان مسؤولا عن حل المشاكل التي تواجه الشركة. وكانت المشاكل قد بدأت تلوح في الأفق مع مطلع الألفية الجديدة عندما بدأ “فرانك كيسي” -وهو مدير شركة ضخمة للاستثمارات- يتساءل: لماذا لا نستطيع تحقيق ما يحققه “مادوف”؟
كشف الخدعة.. ثقة خارقة تلجم الصحافة ولجنة التدقيق
للبحث عن سر أرباح “مادوف” الضخمة قام “فرانك كيسي” بتكليف “هاري ماركوبولوس” -وهو خبير متخصص في التدقيق في الشؤون المالية- بأن يتحرى الأمر، ويراجع الأرقام الهائلة لـ”مادوف”، ثم يتوصل إلى الإستراتيجية التي يتبعها.
توصل “ماركوبولوس” إلى حقيقة الخدعة، وكشفها مبكرا أمام لجنة تدقيق النشاط المالي للشركات، لكنهم لم يصدقوا ولم يحققوا، وعاد مرة بعد أخرى ليكشف مزيدا من “الأدلة”، لكنهم اكتفوا بإرسال اثنين من المبتدئين، تأثرا بما رأياه من تماسك “مادوف” ولم يقدموا تقريرا حقيقيا.
وعندما نشرت “نيويورك تايمز” مقالا يلقي ظلالا من الشك على نشاط “مادوف”، ذهب بنفسه إلى لجنة التدقيق وأعطاهم رقم حسابه، وكان يمكنهم أن يكتشفوا استيلاءه على المليارات، لكن ثقته بنفسه ألجمتهم فلم يفعلوا شيئا!
من الشخصيات الرئيسية التي تظهر في الفيلم لتروي قصتها “إيلين هايلز”، وكانت قد التحقت بالعمل في الشق القانوني من شركة “مادوف” عام 1985، ولكنها استقالت وذهبت لتدريس الاقتصاد في الجامعة، وتركت كل مدخراتها مع “مادوف”، وأقنعت أمها وحبيبها بالاستثمار في الشركة.
وهناك شخصيات كثيرة وقعت ضحايا لسقوط “الوحش”، منها الأرستقراطي الفرنسي “رينيه- تييري مانون دي لا فيلوشيه” الذي استثمر مليارا ونصف مليار دولار لدى شركة “مادوف”، معظمها من أموال زبائن شركته، لكنه خسرها جميعا فانتحر في 22 ديسمبر 2008، أي بعد أيام من اعتقال “مادوف”.
انهيار العائلة.. تراجيديا الزنزانة والانتحار والسرطان
لم يكن الأرستقراطي الفرنسي “رينيه” آخر المنتحرين بسبب سقوط الوهم، فالفضيحة تطارد “مارك” و”أندرو” ابني “مادوف”، وهما من ضحايا أبيهما، وقد ذهب إليهما وصارحهما بحقيقة الأمر، بعد أن أصبح عاجزا عن مواجهة الفضيحة، وهما من أبلغا السلطات، وربما يكون “مادوف” قد أراد إبعادهما عن الشكوك بجعلهما يبلغان عنه، كما سنعلم أنه أخفى عنهما ما كان يدور في الطابق الـ17.
لكن الضغوط الاجتماعية تزايدت عليهما بعد انفضاح الأمر، فشنق “مارك” نفسه في 2010، وهو الابن الأكبر (46 سنة). أما الابن الأصغر “أندرو” فقد مات في 2014 متأثرا بمرض سرطان الغدد الليمفاوية، وأما الأم “روث” فقد توارت عن المشهد، وأبعدت نفسها عن الجريمة الكبرى التي حُكم على زوجها بموجبها بالسجن مدة 150 سنة، مع مصادرة أمواله وممتلكاته. وقد قضى نحبه في زنزانته عام 2021.
وبهذا تكتمل التراجيديا التي أجاد مسلسل “وحش وول ستريت” تصويرها من جوانبها كافة، منتقلا من الشخصي إلى العام، من كبار المستثمرين إلى الضحايا الذين فقدوا مدخراتهم ومنازلهم أيضا، ومن رجال الشرطة والأصدقاء إلى المحامين والمحققين والصحفيين وخبراء المال.
وبهذا يعد هذا المسلسل التسجيلي هو الأكثر اكتمالا، فقد نجح في تجاوز الحالة الفردية، وقدم صورة مجتمع كامل في تطوره التاريخي، مرورا بحقبة “نيكسون” وحرب فيتنام، ثم عصر الرئيس “ريغان” الذي نراه يعلن إطلاق حرية الاستثمار دون قيود، ففتح بذلك المجال أمام الغش والاستهتار. كما نجح المسلسل في تجنب الطابع البوليسي المثير، وكان يرتد من المثير إلى الواقعي المسنود بالأدلة والشهادات والوقائع الثابتة.
ذهب “بيرني مادوف”، وظل هناك إحساس وسط أثرياء اليهود الأمريكيين بأنه خانهم وخان يهوديته، وكان معظم الضحايا الكبار الذين خسروا أموالهم من اليهود، ومنهم المخرج “ستيفن سبيلبرغ”، والممثل “كيفن بيكون”، والنجم “جون مالكوفيتش”، والممثلة “زازا غابور”، ورجل الأعمال الكبير “كارل شابيرو”، والحائز على جائزة نوبل “إيلي فيزل”. والقائمة تطول.