أرضٌ تحيطُ بها الجبال الراسية
ملكت بروعتها المحاسن وافية
من خلفها شعَّ الضياء مُلوِّحًا
فكسا الحواضرَ نورهُ والبادية
اللهُ أكبر والصفوفُ توحّدت
في ساحِ مكةَ والقلوبُ مُناجية
لم يشأ المُخرج البريطاني المسلم أبرار حسين أن ينجز فيلما وثائقيا تقليديا عن الحرم المكي، فقد شاهد كل الأفلام الوثائقية التي أُنجزت عن هذا الموضوع خلال العشرين سنة الماضية، لكنه أراد أن يأتي بشيء جديد ومقاربة مختلفة؛ فارتأى أن يقدّم فيلمه من خلال أعين الموظفين والعاملين في الحرم المكي الذي يُعدُّ أقدس مكان في العالم الإسلامي، لدرجة أنه حُرِّم على غير المسلمين الدخول إليه.
وعلى الصعيد التقني استعمل المخرج كامير “آري أليكسا”، وهي من أحدث الكاميرات التي تعطي جودة فائقة في التصوير، خاصة حين تقترن بعدسات “فوجي نون” ذات المرونة والحساسية العالية التي تُدهش المتلقي بصورها النقية الصافية التي تسحر الألباب.
على الرغم من أنّ مدة الفيلم 85 دقيقة فقط ترصد ما يحدث في الحرم لمدة 24 ساعة، إذ تبدأ من صلاة الفجر وتنتهي بصلاة العشاء، فإن الاستعدادات لهذا الفيلم ودراسة مفاصله الرئيسية وتصويره ووضع اللمسات الأخيرة عليه؛ قد استغرق عاما ونصف العام، حتى وصل إلى هذا المستوى العالي من الناحيتين الفنية والفكرية.
كما ساعد التعليق الصوتي في تعزيز المعلومات التي وردت في الخطاب السردي البصري للقصة السينمائية، ومنحها درجة عالية من الوثوق والمصداقية، وقد وصفت وسائل الإعلام السعودية حينها فيلم “يوم في الحرم” (One Day in the Haram) بأنه “أضخم إنتاج فني في التاريخ عن الحرم المكي”، ففي مكة وُلد النبي محمد عليه السلام، وفيها نزل الوحي عليه، وأخذ يبلّغ فيها رسالته للناس كافة حتى انتشر الدين الإسلامي وهيمن على العالم العربي.
مدينة الجبال.. عاصمة الإسلام التي لا تنام
توصف مكة بأنها مدينة نُحتت من الجبال، وأنها تتوسع وتتمدد كل يوم، وأكثر من ذلك فهي مدينة لا تنام، ففي وسطها تقع الكعبة المشرّفة التي تتطلع إليها أبصار المسلمين من جهات العالم الأربع، ففي هذا المكان المقدس شهد بداية الإسلام، ونما وتطوّر حتى أصبح على ما هو عليه الآن. تبلغ مساحة الحرم 356000 مترا مربعا، وهو محاط بسبع منارات ويحتوي على 64 بوابة، ويستوعب مليون حاج أو يزيد.
والحج هو فرض عين على كل مسلم بالغ قادر، فيجب أن يؤديه لمرة واحدة في العمر، ويضم الحرم المكي هيكلا كبيرا يشمل الكعبة وبئر زمزم والحِجر وتلال الصفا والمروة، وتُعد الكعبة أقدس بقعة في الأرض، ويتوجه المسلمون من مختلف أرجاء العالم صوب القِبلة لأداء الصلوات اليومية كرمز للوحدة في عبادة الله الواحد الأحد.
ثمة حنين واشتياق روحي إلى هذا المكان يتولد عند المسلم منذ الصغر، وهو يرى صورة الكعبة الشريفة على سجّادة الصلاة، فيشعر بنداء غامض لا يُفسّر، يحفزه على القدوم إلى مكة وزيارة هذا المكان المقدّس الذي يستوطن في ذاكرة المسلمين جميعا.
أئمة الحرم المكي.. مرسوم ملكي لاختيار الصوت الأجود
أشرنا إلى أنّ ميزة هذا الفيلم الوثائقي هو أن ترى الحرم من خلال أعين العاملين والموظفين والأئمة، وما ينهمكون فيه من أعمال متنوعة كل حسب اختصاصه والمهمة المُوكل بها، وهو ما لم نرَه في أفلام وثائقية سابقة، حيث تقوم بنية الفيلم على الرصد الدقيق والمتابعة المتفحّصة للموظفين، وصنّاع الكسوة وموزعي ماء زمزم، وموظفي المكتبة وعُمّال الصيانة والأئمّة، وعمّال النظافة وهم يؤدون واجباتهم في الحرم الشريف على مدار يوم كامل يبدأ من أداء صلاة الفجر وينتهي بصلاة العشاء.
يُذكِّرنا المخرج بأن مكة هي مدينة لا تنام، فالشوارع مكتظة فيها حتى قبل شروق الشمس، أمّا ضجيج الحجاج وأهالي المدينة فهو يتناهى إلى آذان الجميع وهم يشقّون طريقهم إلى الحرم المكي.
يمكن تقسيم الفيلم إلى خمسة أقسام رئيسية بعدد صلوات اليوم الواحد، حيث يتمحور القسم الأول على صلاة الفجر، ونحن نشاهد الإمام بندر بليلة وهو يمشي بملابسه التقليدية من مقر الأئمة من مشارف الحرم حتى يصل أمام الكعبة لكي يؤم الناس في صلاة الفجر، ثم نفهم من خلال التعليق الصوتي بأن أئمة مكة يُعيّنون بمرسوم ملكي، وأن معيار الاختيار هو طريقة تجويدهم ومعرفتهم الدينية العميقة.
يتمتع هؤلاء الأئمة بمنزلة كبيرة، ويحظون باحترام كبير، فالإمام لا يجب أن يكون دقيقا في تجويد القرآن فقط، وإنما ينبغي أن يكون صوته جذابا يأسر السامعين، فالصلاة في مكة الآن تُبث بثا حيا حول العالم، وعنصر الجودة والجاذبية شرط مهم من شروط الإمام الذي يتحمّل هذه المسؤولية الكبرى.
وبما أن هذا الفيلم موّجه لغير المسلمين أيضا، فهو يتوقف عند كل صغيرة وكبيرة ليشرح للمتلقين بأن صلاة الفجر هي أقصر الصلوات الخمس، وتتألف من ركعتين، لكنها تُعدّ الصلاة المفضلة عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن أعدادا غفيرة من الناس تندفع كل صباح لتأدية هذه الفريضة التي تُذكرنا دائما بأن “الصلاة خير من النوم”.
“أخدم حجاج بيت الله”.. من زائر إلى موظف في الحرم المكي
لا يختلف العمل في هذا المكان المقدّس من حيث القيمة وإن اختلفت التخصصات، فبندر الحتلاب يعمل في قسم التواصل الاجتماعي في الحرم المكي، وهو مسؤول عن تحديث الشبكات، ويقع مكتبه على مرمى حجر من الحرم المكي مثل بقية مكاتب القوى العاملة.
يضع بندر نُصب عينيه دائما خدمة الحاج والزائر، ويعتبره وسام شرف له، ويقول: وظفت في الحرم قبل سنتين، وكان عمري 24 سنة، قبل عملي كنتُ آتي معتمرا أو حاجا أو زائرا وأخرج من الحرم، لكنني اليوم أتيتُ عاملا في الحرم، أخدم حجاج بيت الله.
تطوّر عمل بندر حتى صار ينظم الاجتماعات مع بقية فريق التواصل الاجتماعي في الحرم الذي يسعى لنشر رسالة إيجابية عن الإسلام، هذا الفريق جُلّه من الشباب الذين يمتلكون أفكارا طازجة وحماسا متقدا، فقد درس غالبيتهم في أمريكا والمملكة والمتحدة وكندا، وأصبحوا أذكياء في التكنولوجيا، ويتكلمون لغات متعددة خدمتهم كثيرا في تحديث معلومات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتعلق بنشاطات الحرم.
آيات القرآن وخيوط الذهب.. كسوة البيت العتيق
إضافة إلى قسم التواصل الاجتماعي، هناك 65 قسما آخر في الحرم المكي، وبغية الاطلاع على بعض هذه الأقسام توجّه بندر بمعية المصوّر مصطفى إلى مصنع الكسوة للتعرّف على طبيعة القماش الذي تُصنع منه الكسوة، وتبيّن لنا بأن الملك السعودي عبد العزيز أمر المؤسسة أن تصنع الكسوة عام 1927 في مكة.
والكسوة هي القماش الأيقوني الأسود الذي تغطّى به الكعبة، وتطرّز بآيات من الذكر الحكيم، وتُنقش بخيوط من الذهب الخالص على غطائها الأسود المزدان بآيات مطرّزة تمجد الله جلّ في علاه، وتُعدّ الكسوة واحدة من أبرز مميزات المسجد الحرام، وهذا القماش يعد واحدا من مظاهر القداسة، وكانت الكسوة عبر العصور تُصنع من أفخر المواد المتاحة التي يجلبونها من أجود مصانع العالم.
يتوقف بندر عند قطعة محفوظة منذ زمن النبي محمد عليه السلام مكتوب عليها “بسم الله الرحمن الرحيم، الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج”، أمّا عدد اللوحات الموجودة على قماش الكسوة فهي 47 قطعة.
تأتي أسلاك الفضة والذهب من ألمانيا، لكن العاملين هنا يفكّونها ويلفّونها على ملفات خشبية كي يسهلوا على الصُنّاع أن يعملوا بها بسهولة ويسر، ويقدّم لنا بندر شرحا وافيا عن الخيوط القطنية والغُرز على الحروف المحشوة بالقطن، لكي تمنحها جمالا إضافيا قبل أن يطرّزوها بأسلاك الذهب أو الفضة.
يعمل في مصنع الكسوة قرابة 200 عامل وموظف يستعملون أحدث التقنيات، كما أن تصميم الكسوة يجري بواسطة الحاسوب الذي يُعطي نتائج سريعة جدا، وهناك إطار لمدخل الكعبة الذي يبلغ ارتفاعه 23 قدما، وعرضه 13 قدما، ويحتوي أيضا على آيات قرآنية مصنوعة من خيوط الفضة والذهب.
تزن الكسوة 650 كغم، أما الآيات القرآنية المطرزة بمهارة فهي مكتوبة بأنواع مختلفة من الخطوط العربية، أما المواد المستعملة في صناعة الكسوة فتأتي من مصر، وخيوط الحرير تُستورد من ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، ويمكن القول إن الكسوة هي القماش الأغلى في العالم، ويستغرق إنجازها سنة كاملة، الأمر الذي يعكس الأهمية العظيمة للكسوة في العالم الإسلامي.
بتوجيه من الشيخ عبد الرحمن السديس أُنشئت وحدة خاصة للعناية بالكسوة على مدار الساعة، ففي كل فترة مدوامة يأتي اثنان من الخياطين يلقون نظرة على الكسوة لإصلاح أي عطب يمكن أن يحدث طوال اليوم، ويرى كثيرون بأن هذه المهمة خاصة جدا، ولا يستطيع أي شخص أن يؤديها، وأن الحصول على أي مهنة في الحرم المكي بدءا من عامل النظافة وانتهاء بالإمام؛ هي شرف كبير يحلم به أي مسلم على وجه البسيطة.
بئر زمزم.. هاجر تطفئ عطش الحجيج آلاف السنين
عند العودة إلى الحرم المكيّ يرتّب بندر الحتلاب (مدير قسم التواصل الاجتماعي) لقاء مع قسم ماء زمزم، ويُدخل فريق التصوير من بوابة الملك فهد، حيث يُصدم الإنسان بجمال وروعة وأناقة التصميم الداخلي للحرم، فثمة أكثر من ثُريا ضخمة تزيّن أعلى السقف، بينما تسحرك الجدران والممرات التي تكشف عن عظمة العمارة الإسلامية وجمالية زخارفها الفنية.
وفق القول المأثور “ليس الخبر كالمعاينة” قرّر بندر الحتلاب أن يرى قسم زمزم بأم عينيه كي يعطيه المسؤول عن هذا القسم نبذة مختصرة ودقيقة عن بئر زمزم وكيفية توزيع الماء على الحجاج والمعتمرين على مدار اليوم الواحد، فثمة أناس يحملون ترامس تسمى الحافظات أو خزانات الماء التي تُحمل بواسطة حقائب الظهر، ويمكن الدخول بها إلى كل مكان في الحرم المكي، وتوزيع الماء على الناس الذين يرتادون هذا المكان المقدّس.
يحمل بندر حافظة الماء على ظهره ويبدأ بتوزيع الماء البارد على روّاد الحرم المكي، بينما يتحفنا التعليق الصوتي بمعلومات دقيقة عن بئر زمزم الذي يقع في الحرم المكي على بعد 20 مترا شرقي الكعبة، ويبلغ عمقه حوالي 30 مترا، وكان الماء يُسحب بالدِلاء حتى عام 1953م، وكانت المضخات تدفع المياه إلى الأحواض، وكان الناس يصلون إلى ماء البئر، لكنه الآن صار تحت الأرض، ولن يصل إليه إلا بعض الموظفين المُنتخَبين في الحرم المكي.
تتفق المرويات بأن الله سبحانه وتعالى قد فجّر ينبوع الماء كي يزوّد هاجر زوجة النبي إبراهيم علية السلام وطفلها النبي إسماعيل بالماء في هذا المكان الحار والجاف، وقد تحوّل هذا الينبوع إلى بئر تتوقف عنده القوافل، ثم تحوّل رويدا رويدا إلى مدينة تجارية هي مكة، ومنذ ذلك الحين بدأت الحقبة المكية في التاريخ الإنساني. وكانت بئر زمزم على مدى 4000 سنة تُطفئ عطش الناس القادمين إلى هذه البقعة المقدسة عند المسلمين.
لقد انتاب بندر شعور جميل عندما بدأ يوزع الماء على الحجاج في طوافهم في ساعات الحرّ، فهو يعتبر هذه الساعة التي أمضاها في توزيع الماء من أجمل اللحظات في حياته.
صلاة الجماعة.. جسد واحد لأمة واحدة
مثلما تُعد صلاة الفجر أهم الصلوات الخمس، فإن صلاة الجمعة تعتبر أهم صلاة في الأسبوع، حيث يكتظ الحرم المكي في صلاة الظهر يوم الجمعة، وهو اليوم الأكثر ازدحاما على مدار الأسبوع، ويمكن للناس أن يتضاعفوا عشر مرات عنه في الأيام الأخرى، كما أنّ الأمن يُقلق الفريق المكلّف بهذه المهمة الأمنية.
ينهمك العاملون بالمطاف بتحضيرات صلاة الجمعة، ويتوجب عليهم أن يفرغوا واجهة المطاف وهي يغصّ بآلاف المتعبدين الذين يحاولون لمس الكعبة والتبرك بها، وحينما يتجاوز المعنيّون هذه التحديات يضعون السجادة التي يقف عليها الإمام لكي يؤم المصلين، ثم يجلبون المنبر ويضعونه أمام الكعبة لكي يُلقي خطبته التي تتضمن غالبا الهدي والإرشاد والنصيحة.
وبما أن الناس المحتشدين في الحرم المكي قد توافدوا من جهات العالم الأربع، وهم ينتمون إلى ثقافات متعددة؛ فإن هذه الخطبة تترجم إلى عدة لغات، بما فيها لغة الإشارة لذوي الاحتياجات الخاصة من الصم والبُكم. وقد استثمر الحرم المكي تكنولوجيا الراديو والهواتف الذكية وتطبيقاتها لتحميل خطبة الجمعة عبر الأثير في العالم.
يؤكد النبي محمد عليه السلام بأن الصلاة الجماعية أفضل من الصلاة الفردية 27 مرة، لأن الصلاة الجماعية تعبّر عن الوحدة، وتظهر أن المسلمين يرون أنفسهم جسدا واحدا وأمة واحدة، بغض النظر عن العِرق والجنسية، الغنى أو الفقر، القوة أو الضعف، ففي أثناء الصلاة يقف كل هؤلاء إلى جانب بعضهم في طاعة تامة، وخشوع كامل إلى الله جل في علاه.
قسم تقانة المعلومات.. ثورة التكنولوجيا في الحرم المكي
ما إن تنتهي صلاة الجمعة ويغادر الإمام مُحاطا بالشرطة حتى يبدأ خروج المصلين من الحرم المكي في آن واحد، فتواجه القوة الأمنية مسألة الحفاظ على الأمن والأمان، ففي السنوات الأخيرة وضعوا خططا متعددة لتحسين تدفق المرور، بحيث يضمنوا خطوط الرؤية الواضحة من دون التنازل عن التجربة العاطفية ليوم الجمعة في هذا المكان المقدس.
تضاعف عدد الأقسام في الحرم حتى بلغ الآن 66 قسما، من بينها قسم “تقانة المعلومات”، وهو من أسرع الأقسام التي نمت وتطورت بشكل كبير، وبلغ عدد موظفيه أكثر من 100 موظف يتوفرون على خبرات حديثة ومتطورة جدا، ولديهم تطبيقات إبداعية جديدة للهاتف المحمول.
يساعد هذا القسم في ربط كل أقسام الحرم المكي، ويجعل التواصل بينها في منتهى السهولة واليُسر، فقسم المكتبة كان موجودا منذ سنوات، لكنه تحدّث الآن كثيرا، حيث أصبحت لديهم مكتبة رقمية تضم منتخبات من الكتب السمعية ومخطوطات نادرة تقع في الطابق الثاني الأرضي من المسجد بمساحة تقدّر بـ540 مترا مربعا، وتضم 30 ألف كتاب و200 شريط سي دي، وتُفتح للحجاج والزوار من الثامنة صباحا وحتى العاشرة ليلا كل يوم.
قسم تعليم القرآن.. تقديم المساعدة إلى مسلمي العالم
يعد قسم الصيانة من أكثر أقسام الحرم انهماكا في العمل، فهم المسؤولون عن المجمعات الكهربائية في الحرم، وهذا يشمل الإنارة والتكييف والنظام الصوتي والمصاعد والسلالم الكهربائية، وإذا ما تعطل أي شيء فإن قسم الصيانة يقف على أهبة الاستعداد، ويندفع فورا لتصليح العطل في أي وقت من الليل أو النهار.
ثمة قسم آخر يحظى بشعبية واسعة وشهرة كبيرة، وهو قسم تعليم القرآن الكريم، وهناك عدد من الناس المؤهلين من معلّمي التجويد الذي يدربون الناس من مختلف أنحاء العالم على قراءة القرآن بشكل صحيح، وهناك خطة كبيرة لتوسيع هذا القسم لكي يصل إلى أكبر عدد من الناس في عموم الكرة الأرضية، كما يقدم تعليم قراءة القرآن الكريم عبر الإنترنت، لتقديم المساعدة إلى المسلمين في كل مكان.
لم يعد التصوير بالهواتف النقالة ممنوعا، ولعل القائمين على الجوانب الأمنية في الحرم المكي لا يستطيعون السيطرة على أكثر من مليون حاج، لذلك سمحوا بالتصوير، لكي يخلد الحجاج هذه المناسبة السعيدة في حياتهم، فلعل الكثير منهم لا يستطيع أن يحج مرة ثانية، أو يأتي معتمرا أو زائرا لأقدس بقعة في الأرض.
رفع ذكر الله بالأذان والصلاة.. قسم الأئمة
يلتقي المخرج بأكثر من عشرة أشخاص يصلون ويدعون الباري عز وجل لأن يلبّي دعواتهم، فالبعض يدعو الله لأن يجمع كلمة المسلمين ويوحد صفوفهم، وآخر يتمنى أن يفوز بدخول الجنة في خاتمة المطاف، وثالث يتمنى أن يتاح لكل مسلم ومسلمة زيارة الكعبة، ورابع يطلب من الله أن يحمي بلده سوريا، وأن يعود سالما وغانما في الوقت ذاته.
نتعرّف من خلال أسئلة المخرج على قسم الأئمّة الذي يرأسه وحيد محمد نحّاس، ففي مكتبه غرفة التشغيل وأجهزة التحكّم الخاصة بالإمام والمؤذن، وثمة شاشة خاصة بمتابعتهم، أما عدد المؤذنين في المسجد الحرام فيبلغ 20 مؤذنا، وهناك شاشة خاصة يظهر فيها الإمام وموقع الجنائز وممر الإمام وشاشة النقل المباشر للتلفزيون.
وهناك جدول أسبوعي، وجدول لتوزيع صلاة الجمعة، ففي كل نوبة ثمة مؤذن وملازم واحتياط، ويلتقي المخرج بمؤذن حفظ القرآن الكريم وهو ابن 14 عام، وبدأ يؤذن في بعض المساجد، وكانت أمنيته أن يكون مؤذنا في المسجد الحرام، وقد تحقق حلمه بعد أن نجح في الاختبار، لأنه يمتلك صوتا جذابا يأسر قلوب السامعين، إضافة إلى توفر كل الاشتراطات الدينية الأخرى فيه.
وصية الله إلى سيدنا إبراهيم.. قسم النظافة
حظي قسم التنظيف باهتمام المخرج أبرار حسين، وقد طلب من بندر الحتلاب أن يتحدث مع عبد المجيد وهو أحد مدراء التنظيف في الحرم المكي. حيث تبدأ عملية التنظيف بغسيل المَطاف، والعمّال جميعا متحمسون ويؤدون واجباتهم على أكمل وجه، أما عبد المجيد فهو يعمل في الحرم منذ أربع سنوات، وهو يراقب المنظفين أثناء العمل، ويؤكد بأن العمل ينقسم إلى أربع فترات دوام خلال اليوم الواحد، وتتألف كل فترة من 18 إلى 22 شخصا.
تبدأ فترة الدوام بغسل المطاف ثم المسعى أربع مرات في اليوم الواحد، وفي أوقات المواسم تزداد إلى خمس مرات، وذلك لزيادة المعتمرين والحجاج، وهناك فريق خاص لتنظيف الحِجر ثم مسح المقام.
يستغرق الغسل من 20 إلى 25 دقيقة في الأوقات غير المزدحمة، وفي المواسم تزداد إلى نصف ساعة أو 35 دقيقة، يعمل في قسم التنظيف 200 موظف، بالإضافة إلى وجود 2700 عامل، بينهم 2600 عامل نظافة و100 مشرف، ويجب على المنظفين أن يكونوا منظّمين جدا، لكي لا يقلقوا المتعبّدين الذين يقومون بالطواف التزاما بوصية الله إلى سيدنا إبراهيم: “وطهّر بيتك للطائفين والعاكفين والركّع السجود”.
يلتقي المخرج ببعض عمّال النظافة، وأولهم ساجد أحمد الذي قدِم من بنغلاديش، وهو يعمل كمنظِّف منذ 15 عاما، وعندما سمع بأن هناك فرصة للعمل في الحرم المكي شكر الله كثيرا لأنه منحه هذه الفرصة للعمل في المسجد الحرام، ويصف شعوره حين دخل الحرم أول مرة بأن بدنه قد اهتز بالكامل، فالعمل في بيت الله مسألة كبيرة جدا، ولا يستطيع أن يحظى بها أي إنسان.
توجيه النساء ومنع التبرك.. قسم الشؤون الدينية
لا يفوّت المخرج فرصة تسليط الضوء على قسم الشؤون الدينية، حيث اختار مقابلة علي جابر الذي يعمل في الحرم منذ أربع سنوات، وهو أحد الدارسين الذين يتعمقون في فهم الإسلام، وقد وصف شعوره وهو يعمل في الحرم المكي بأنه شعور عظيم ومسؤولية كبيرة واصطفاء من الله لأن يكون في هذا المكان الشريف.
أما عن طبيعة عملهم اليومية فهي توجيه النساء إلى مصلياتهن الخلفية، وعزل النساء عن الرجال، فهم يعملون ضمن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقيادة الشيخ ماجد بن صالح السعيدي، وعملهم هو منع التبرّك بمقام إبراهيم أو تقبيله من قِبل بعض الحجاج، ومن أكثر الأشياء التي تُسعد علي جابر هي دعوة الحجاج والمعتمرين له، حيث يعتبرها دافعا قويا للمُضي في عمله الجميل داخل الحرم المكي.
توسعة الملك عبد الله.. أكبر توسع في تاريخ الحرم
يغطي المخرج توسعة الحرم التي حدثت لمرات متعددة بسبب زيادة عدد الحجّاج والمعتمرين، والتوسع الذي حدث في عام 2017 كان أكبر توسع في تاريخ الحرم، وقد انتهى العمل فيه عام 2020، علما بأن العمل في الحرم لا يتوقف على مدار الساعة.
وقد وضع الملك عبد الله حجر الأساس لتوسعة الحرم الشريف، ونُظم حفل في مكة في 19 أغسطس/آب 2011، وتضمّن توسيع المسعى والمَطاف، وستكون هناك مواقف إضافية، إضافة إلى خدمة الأنفاق وبنايات الأمن والمستشفى ومحطات النقل وأنفاق المشي والجسور التي تؤدي إلى المسجد والطريق الدائري الذي يحيط بمنطقة الحرم.
يحدث الحج مرة واحدة في السنة، أما العمرة فيمكن أن تحدث على مدار السنة، وتسمى بالحج الأصغر، وثمة مَشاهد للسعي بين الصفا والمروة، وحلاقة شعر الرأس للرجال، ثم يختم المخرج فيلمه بمَشاهد لصلاة العشاء، بينما يعود بندر ومصطفى إلى مكتبيهما ليحمّلا بعض الصور والمَشاهد في وسائل التواصل الاجتماعي بعد ساعات طويلة من العمل الدؤوب مع مخرج الفيلم وطاقم التصوير، وبقية العناصر التقنية المساهمة في إنجاز هذا الفيلم الذي يقترب كثيرا من التحفة الفنية في الشكل والمضمون على حدٍ سواء.